سيطولُ بعدي يا سكينة فاعلمي *** منكِ البكــاءُ إذا الحِمامُ دهاني
لا تحرقي قلبي بدمـــعكِ حسرةً *** ما دامَ منِّي الروحُ في جثماني
فإذا قتــــــلتُ فأنتِ أولى بالذي *** تأتيـــــــنه يا (خيرة النسوان)
هذه الأبيات قالها سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) مخاطباً بها ابنته السيدة سكينة (ع) يوم عاشوراء مصبِّراً إياها على فقده، وهي تعطي صورة واضحة وجليّة عن مكانة السيدة سكينة العظيمة في نفس أبيها.
فبكاؤها عبّر عنه (ع) بأنه (يحرق القلب) فهو لا يريد أن ينظر إلى دموعها وهو حي فإن ذلك يؤلمه لمكانة ابنته وخاصيتها في نفسه الشريفة.
كما بيّنت الأبيات منزلتها السامية في الفضيلة والرفعة بين نساء أهل زمانها حين وصفها بـ (خيرة النسوان) فهي من البيت الذي أذهب الله عنه الرجس وطهره تطهيرا، وهو البيت الذي لا يقاس به بيت مهما بلغ في الدرجة الرفيعة.
في هذا البيت الذي يفوح منه أريج النبوة وتخفق فيه أجنحة الملائكة ويتردد في أرجائه صدى الوحي ولدت السيدة سكينة.
أما اُمّها وأم أخيها عبد الله الرضيع المذبوح يوم الطف فهي السيدة: الرباب بنت امرئ القيس بن عدي القضاعي.
وُصفت السيدة سكينة بـ (سيّدة نساء عصرها) لكمالها وأخلاقها وتقواها وأدبها وفصاحتها وعبادتها حيث يدلنا قول أبيها الإمام الحسين على مدى تعلقها بالله في قوله: وأما سكينة فغالب عليها الاستغراق مع الله.
وهذه الكلمة لها دلالاتها العظيمة خاصة إنها صدرت من معصوم.
كما تدلنا الأبيات التي قالها على مدى تعلقه بها وتعلقها به حينما قال:
لعمـــــركَ أنّنـي لاُحـبّ داراً *** تـحلّ بهـا سَكيـنــة والربابُ
أحبّهما وأبــــــذل جـلّ مـالي *** ولـيس للائمـي فـيهـا عتابُ
ولستُ لهم وإن عتبوا مطيعاً *** حيـاتي أو يعلّيــــني الترابُ
وقد رُوي إن سَكينة هو لقبها لا اسمها وإن اسمها هو آمنة (1)
وقد اعتمد هذا القول الشيخ عباس القمي حيث قال: إن اسمها آمنة وقيل أمينة, وإنما أمها الرباب لقبتها بسكينة (2)
وقد نقل القمي قوله هذا عن ابن خلكان في ترجمتها (3) كما قال بذلك ابن العماد الحنبلي (4) والشبلنجي (5), وأعتمد هذا الرأي السيد المحقق عبد الرزاق المقرم (6) والسيد محسن الأمين (7).
وعلق الشيخ عباس القمي على ذلك بالقول: ويظهر أن أمها إنما أعطتها هذا اللقب لسكونها وهدوئها. وعلى ذلك فالمناسب فتح السين المهملة وكسر الكاف التي بعدها، لا كما يجري على الألسن من ضم السين وفتح الكاف. (8)
زواجها وفرية الزبيريين !
تزوجت السيدة سكينة من ابن عمها عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) المعروف بـ الأكبر وهو أخو القاسم الشهيد يوم الطف, وأمهما رملة, ولم تتزوج من غيره لا قبله ولا بعده، أما خبر زواجها من مصعب بن الزبير وغيره فهي أخبار كاذبة لفقتها أيدي السياسة من الوضاعين والأفاكين والكذابين الذين كانوا يقتاتون على الموائد الأموية والعباسية وقد باعوا ذممهم وضمائرهم للحكام.
وهذه الأخبار كغيرها من الأخبار والروايات المدسوسة التي ألصقت زوراً وبهتاناً بسيرة السيّدة سكينة مثل خبر عقدها لمجالس الشعر والتي حاول من خلالها أعداء أهل البيت وآل الزبير بالذات نسبتها إلى البيت النبوي الشريف لدفع الشبهة عن ابنتهم سكينة بنت خالد بن مصعب بن الزبير التي كانت تجتمع مع الشاعر الماجن عمر بن أبي ربيعة والمغنيات يغنين لهم.
فلم تزل أنفاس آل الزبير تنفث سمها وحقدها وعدائها على أهل البيت منذ يوم الجمل، عندما فتح الزبير وابنه عبد الله باب العداوة والبغضاء بين الأسرتين بخروجهما لقتال أمير المؤمنين (ع) ونكث بيعته, وقد توارث أولاده من بعده هذا الحقد الأعمى, فكانوا لا يدعون فرصة للنيل والانتقاص من العلويين والافتراء والتجسس عليهم وتلفيق الاتهامات لهم وتحريض الحكام عليهم لإراقة دمائهم.
فكان آل الزبير سعاة حكام بني أمية وبني العباس وجواسيسهم ومتملقيهم في كل زمان ومكان, وقد بدأ هذه السعاية عبد الله بن الزبير لدى معاوية ضد الإمام الحسن (ع).
وتوارث هذه المهنة أبناؤه وأحفاده, فكان عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله الزبير وراء قتل يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب على يد هارون العباسي، وكانت العداوة لدى ابنه بكار أشد فكان يبلغ هارون عنهم ويسئ بأخبارهم ويدلس عليهم, وقد قدر هارون العباسي له هذا البغض لأهل البيت وجازاه على ذلك البغض فولّاه المدينة وأمره بالتضييق على آل علي فلم يألُ جهداً في ذلك.
وكان لبكار هذا ابناً اسمه الزبير فاق أباه وجده في شدة بغضه لآل علي, فابتكر أساليب دنيئة للنيل منهم فلم تقتصر أعماله على السعاية بهم فقط, بل تعدت الى الطعن في أعراضهم ووصمهم بما ليس فيهم بمفترياته وأكاذيبه.
أجل لقد بلغت به الخسة والوضاعة أن يدلس ويفتري على أقدس وأطهر بيت في الوجود والذي قال فيه القران الكريم: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً), ويتعرّض له بما يشينه, وهو ما جعل بني علي يثورون عليه للانتقام منه وقطع هذا لسانه كما ذكر ابن خلكان:
كان ــ أي الزبير بن بكار ــ يضع المفتريات في رجالهم ونسائهم حتى أرادوا قتله ففر من مكة إلى بغداد أيام المتوكل. (9)
وكأن هذا الرجل لم يشف غليل حقده ما أريق من دمائهم الطاهرة على يد الأمويين والعباسيين, فبلغت دناءته أن مدّ اللسان في أعراضهم والطعن فيهم والحط من قدرهم بمفترياته, فنفث الشيطان على لسانه ليروي أن السيدة الطاهرة سكينة كان يجتمع عندها الشعراء والمغنون ويحكمونها فيما شجر بينهم من التفاضل بين الشعراء ليحول استغراقها مع الله كما وصفها أبوها (ع) إلى استغراق في مجالسة الشعراء والمغنين ثم يروي إن الشاعر عمر بن أبي ربيعة تغزل بها في محضرها ــ أعوذ بالله من هذا الشيطان الرجيم ــ
ولكن إن عُمي من نقل هذه الروايات أو تعاموا عن الحقيقة فإن التاريخ كفيل بإظهارها, فالشواهد التاريخية تدل على أن هذه الروايات كان (أبطالها) آل الزبير أنفسهم, وهذه الوصمة ملتصقة بالزبير بن بكار نفسه, فأراد أن يتنصّل منها, ودله حقده على إلصاقها بغيره فنسبها إلى أطهر بيت في الوجود, كما سنوضح ذلك في هذا الموضوع.
تتلخص الرواية التي وضعها الزبير بن بكار ونقلها أبو الفرج الأصفهاني (10): إنه اجتمع كل من راوية جرير، وكثير، وجميل، ونصيب، والأحوص ــ الشعراء الأمويون ــ فافتخر كل واحد منهم بصاحبه فحكّموا سكينة بنت الحسين فحكمت بينهم بعد أن ذكرت بيتاً غزلياً لكل واحد من أصحابهم ثم أعطت رأيها في كل واحد منهم والرواية طويلة آثرنا عدم ذكرها مفصلاً فمن شاء الاطلاع عليها فقد أشرنا إلى المصدر.
وهذه الرواية الموضوعة تنفي نفسها بنفسها فكيف يجتمع رواة أكبر خمسة شعراء في ذلك العصر عند امرأة عُرفت بالعبادة كما قال أبوها عنها, ولم يُسمع منها شعر سوى سبعة أبيات رثائية مفجعة قالتها في رثاء والدها وهي في حالة الأسر.
ويستطيع قولها أي إنسان في ذلك الوقت فقد عزيزاً عليه, فكيف وهي وقد رأت ما جرى على أبيها وأخوتها وأعمامها وبني عمومتها وأهل بيتها من فجائع ومصائب في كربلاء تجل عن الوصف ؟
وهذه الأبيات السبعة لا تؤهل قائلها أو قائلتها لمثل هذا (المنصب) في ذلك الوقت الذي كان يعج بالشعراء والشاعرات فلو نُسبت هذه الرواية الى الخنساء لما استطاع أحد تصديقها لفجيعتها بأخيها صخر وهو إنسان واحد فكيف بمن فقدت أباها سيد الشهداء وسيد شباب أهل الجنة وأهل بيتها كلهم ؟
لعن الله واضع هذه الرواية وناقلها، وقد سُئل الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء (قدس سره) عن هذه الرواية فقال: لم يذكرها ابن قتيبة ولا ابن طيفور في بلاغات النساء مع إنهما أقدم من أبي الفرج.
وقال أيضاً: أبو الفرج كتابه كتاب لهو وقد يأخذ عن الكذابين والذي جاءت عنه الرواية كذاب. (11).
وقال الشيخ جعفر النقدي: أما وصف الحسين (ع) لابنته سكينة من غلبة الاستغراق مع الله تعالى فيكذب الأنقال المروية عن الزبير بن بكار وأضرابه من النواصب كعمه مصعب الزبيري من اجتماع الشعراء عندها ومحاكمتها بينهم وأمثال ذلك مما ينافي في شأن خفرة من خفرات النبوة وعقيلة من عقائل بيت العصمة.
وإن تعجب فاعجب من أبي الفرج الأصفهاني ومن حذا حذوه أن ينقلوا مفتريات هؤلاء في كتبهم من غير فكر ولا تروي على أن الزبير بن بكار كان عدواً لآل علي بل لسائر بني هاشم وكان يصنع المفتريات في رجالهم ونسائهم حتى أرادوا قتله ففر من مكة الى بغداد أيام المتوكل ذكر ذلك ابن خلكان في تاريخه وفيات الأعيان (12).
ومما يدل على كذب واضع هذه الرواية أيضاً هو أن أبا الفرج الأصفهاني نفسه روى نفس هذا الاجتماع مع الشعراء ونفس الحديث ولكن برعاية عائشة بنت طلحة بن عبيد الله التيمي ! (13)
كما روى اجتماعاً مشابهاً برعاية امرأة من بني أمية زعم أن صاحب الرواية قد أخفى اسمها ! (14)
ولكن هذا الزعم لا ينطلي على القارئ في إخفاء الأصفهاني اسم تلك المرأة الأموية فإنها تمت له بصلة قرابة فهو من المعروف من بني أمية وأراد ستر فضائح بني أمية فاستحى من ذكر اسمها ولكنه لم يستح من إلصاق ما لحق به من العار ببنات الرسول.
أظن أن هذه الأدلة القطعية التي ذكرناها كافية لنفي هذه الرواية الموضوعة وإتماماً للفائدة وبياناً للسبب الذي جعل الزبير بن بكار الكذاب يضع رواية الغناء مع عمر بن أبي ربيعة في سكينة بنت الحسين سننقل روايات الأصفهاني في ذلك لأنها ستوضح كثيراً من الأمور الخافية الرواية الأولى رواها أبو الفرج الأصفهاني عن الزبير بن بكار وملخصها هو:
اجتماع نسوة من أهل المدينة من أهل الشرف فذكرن عمر بن أبي ربيعة وشعره فتشوّقن إليه وتمنينه فقالت سكينة بنت الحسين: أنا لكن به فأرسلت اليه رسولاً وواعدت صواحباتها فوافاهن عمر على راحلته فحدثهن حتى أضاء الفجر.... (15)
هذه هي الرواية التي مُلئت إفكاً وزوراً وبهتاناً من قبل لؤم زبيري وحقد أموي وهي والله تقرح القلب...،
لعن الله الزبير بن بكار وأبا الفرج الأصفهاني.
ولكن الحقيقة يجب أن تظهر مهما طال بها الزمن فستعرف عزيزي القارئ من هي سكينة هذه التي واعدت عمر بن أبي ربيعة ...؟
فقد ذكر الأصفهاني في رواية ثانية نفس هذه الحادثة ولكنه لم ينسب سكينة إلى الحسين واكتفى باسم سكينة فقط (16) !!
ولكنه ذكر في رواية ثالثة وهي: إن عمر بن أبي ربيعة كان يلتقي بـ (سكينة بنت خالد بن مصعب بن الزبير) وذكر نفس الاجتماع معها في (الجنبذ) ـــ أي القبة ـــ ومعهما جاريتان له تغنيان هما (البغوم) و (أسماء). وقد ذكرهما عمر بن أبي ربيعة في شعره بقوله:
صرمت حبلك البغوم وصدت *** عنك في غير ريبة أسماء (17)
وأظن أن الأمر قد اتضح الآن.. فقد أراد الزبير بن بكار دفع العار الذي لحق به وإلصاقه بآل النبي (ص).
رد بنت الشاطئ
ونورد هنا رد الدكتورة بنت الشاطئ حيث ردت رداً شافياً على هذه الرواية بدأته باستنكار شديد بقولها:
متى ظهرت سكينة في المجتمع طليقة متحررة وشاركت في التاريخ الأدبي بعصرها ؟!....
ثم تفنّد بل تستنكر هذه الرواية بقولها:
المؤرخون يقررون أن المدينة كانت في مأتم عام لسيد الشهداء، وأن أمها الرباب قد أمضت عاماً بأكمله حادّة حزينة حتى لحقت بزوجها الشهيد، وأن أم البنين بنت حزام بن خالد العامرية زوج الإمام علي بن أبي طالب كانت تخرج إلى البقيع كل يوم فتبكي أبناءها الأربعة أعمام سكينة الذين استشهدوا مع أخيهم الحسين في كربلاء: عبد الله وجعفر وعثمان والعباس بني علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فتلبث نهارها هناك تندب بنيها أشجى ندبة وأحرقها فيجتمع الناس إليها يسمعون منها فكان مروان يجئ فيمن يجئ لذلك فلا يزال يسمع ندبتها ويبكي.
فهل ترى كان يحدث هذا وسكينة تعقد مجالس الغناء في دارها وتواعد عمر ذات ليلة استجابة لرغبة نسوة شاقهن مجلس ابن أبي ربيعة ؟!.
هل كان مروان بن الحكم يسمع أم البنين تندب أعمام سكينة فيبكي لها وسكينة تبكي بدموع ذوارف على الخدين والجلباب لفراق عمر بن أبي ربيعة وتصغي إلى شدو المغنين ؟.....
ثم تقول ــ والحديث لبنت الشاطئ ــ : الذين أرخوا للسيدة زينب ذكروا وفاتها في شهر رجب سنة (62هـ), وقد ثوت في مرقدها الأخير هناك وآبت سكينة من رحلتها مضاعفة اليتم لتشهد بعد ذلك ثورة أهل المدينة على بني أمية وخروجهم على يزيد بن معاوية لقلة دينه، وهي الثورة التي انتهت بموقعة الحرة بظاهر المدينة حيث استشهد من أولاد المهاجرين والأنصار (306) شخصاً وعدد من بقية الصحابة الأولين وهجر المسجد النبوي فلم تقم فيه صلاة الجماعة لمدى أيام....
وشغل العالم الإسلامي بعد ذلك بقيام حركة التوابين في العراق الذين قادهم الندم على عدم نصرة الإمام الحسين الشهيد فلم يروا كفارة دون القتل في الثأر له ولصحبه، فهل يا ترى كانت سكينة تصم أذنيها عن هتاف التوابين لترغيم (ابن سريح) على الغناء في دارها مع عزة الميلاء وتفتنه عن توبته عن الغناء ؟ ! (18)
هذا رد الدكتورة بنت الشاطئ القاطع على كذب الزبير بن بكار وافتراء أبي الفرج وكل ما وضعاه من مفتريات عن السيدة الطاهرة سكينة، والأسماء التي ذكرتها الدكتورة في نهاية قولها الذي اقتطعناه قد دسّت في هذه الروايات لتدعيمها, ولم نذكر هذه الروايات هنا لأنها والله مما تسخط الله ورسوله.
فلو افترى إنسان على امرأة عادية من عامة الناس لكان ذلك مدعاة لغضب الله وملائكته ورسله عليه فكيف بابنة الرسالة وربيبة النبوة, وهي (ع) التي لم يشغلها مقتل أبيها وأهل بيتها وما جرى عليهم من القتل وما جرى عليها وعلى عماتها وأخواتها من السبي عن الالتزام بالحجاب والصيانة, حيث روت جميع المقاتل والمصادر قولها وهي أسيرة في الشام لسهل بن سعد الساعدي لما رأت الناس يتطاولون في النظر إليها وإلى عماتها وأخواتها:
ــ قل لصاحب هذا الرأس أن يقدِّم الرأس أمامنا حتى يشتغل الناس بالنظر إليه ولا ينظروا إلى حرم رسول الله (ص). ففعل سهل.
حتى في ذلك الموقف الرهيب الذي يفقد أشد الناس فيه إرادته وشعوره فإن هذه السيدة العظيمة بنت الزهراء وخديجة كانت على أروع صورة من العزة والشرف والعفة.
إن العجيب على من يدعي العلم والأدب ويعتمد على هذه الروايات المكذوبة المفترية فيبلغ به هوسه وعماه إلى أن يحولها إلى دراما يتفنن في توسيعها مما تجود له مخيلته الخرفة، وعقليته المريضة كما فعل زكي مبارك الذي يُطلق عليه لقب (دكتور) ــ وما أكثر الدكاترة العميان ــ ولا نحب هنا سرد ما تخبط به من تزويق هذه الروايات في كتابه (حب ابن أبي ربيعة) وما دله عليه مجونه وولعه بالمفتريات, ونكتفي برد الدكتورة بنت الشاطئ عليه والذي أفحمته فيه حيث تقول:
ولا تسأله أين كان بنو هاشم وأين الإمام زين العابدين ؟ وعمر يرفع عقيرته بالغزل في سكينة وبيتها قد صار مألفا للمغنين وملاذاً للشعراء المخلصين لما خلقوا من عبادة الطرف الساحر والقد الرشيق ؟
فمثل الإمام زين العابدين من لا يغضب لأخته حتى غضب (ابن أبي عتيق) فيما نقل (الدكتور) لابنة عمه زينب بنت موسى الجمحية لما تغزل فيها عمر على السماع ...؟ ومثل بني هاشم وآل البيت من لا يغضبون لابنتهم كما غضب بنو تيم بن مرة وولد طلحة بن عبيد الله لأختهم عائشة وتوعدوا عمر إن تغزل بها أن يؤدبوه فأقسم بالله أن لا يذكرها بشعر أبداً ؟
مثلهم من لا يغار على سكينة كما غار أبو الأسود الدؤلي على زوجته ؟ أو كما غار الحجاج بن يوسف الثقفي على فاطمة بنت عبد الملك ــ وليست من ثقيف ــ فكتب إلى عمر يتوعده بكل مكروه إن ذكرها في شعره ؟
أجل لا تسأل عن هذا فإنما يسأل من يحاسب قلمه وينقي الحق والضمير فيما يكتب ويحترم عقله وعقول الناس (19).
زادك الله رفعة أيتها السيدة الجليلة, أجل لقد ترفعت أيتها الدكتورة الفاضلة عن محاسبة من مات ضميره وسخر قلمه للدسّ في بنات الرسالة وربائب النبوة والافتراء عليهن، ولدينا إضافة إلى ما ذكرناه كثير من الأدلة والعديد من الأقوال المعتبرة التي تنفي هذه الروايات ولكن وجدنا في ما ذكرناه كافياً ويدحض الروايات الفاسدة والكاذبة التي تعرضت إلى السيدة الطاهرة سكينة بنت الحسين في هذا الموضوع.
ولم تكن الدكتورة بنت الشاطئ هي الوحيدة التي فنّدت هذا الخبر بالأدلة والقرائن والبراهين فقد فنّده بما لا يدع مجالاً للشك في كذبه ونفاه نفياً قاطعاً العلامة المحقق السيد عبد الرزاق المقرم، وأعقبه المحقق الأستاذ توفيق الفكيكي وغيرهما.
السيدة سكينة في كربلاء
اصطبغت حياة السيدة الطاهرة سكينة بالفجيعة, وطبعت ذاكرتها على المأساة, فقد كتب عليها أن تشهد وترى بعينيها يوم عاشوراء بكل مآسيه وأهواله، رأت جسد أبيها وأجساد أخوتها وأعمامها وبني عمومتها وأهل بيتها وهي مغطاة بالدماء في كربلاء, ورأت حتى جسد أخيها الرضيع وهو مذبوح فبقي هذا المنظر متجدداً معها فلازمها الحزن والبكاء طوال حياتها، يهز كيانها ويملأ عينيها بالدموع فتفيض روحها الماً وحسرة حتى فاضت تلك الروح الطاهرة إلى بارئها.
وتشير أبياتها المفجعة التي قالتها في يوم عاشوراء على عظيم فجيعتها حيث تذوب روحها في أبياتها التي رثت بها أبيها في ذلك اليوم:
لاتعذليـــــــــــــــه فهمٌّ قاطعٌ طُرقُه *** فعينُه بدمـــــــــــــــوعٍ ذُرّفٍ غَدِقَه
إنَّ الحسيـــــــنَ غداةُ الطفِّ يرشقه *** ريبُ المنونِ فما أن يخطىءَ الحدقه
بكفِّ شرِّ عبــــــــــــــــادِ اللهِ كلهم *** نسلُ البغايا وجيشُ المُــــرَّقِ الفَسقه
يا أمةَ السوءِ هاتوا ما احتجـــاجكم *** غداً وجلُّـــــــــكمُ بالـسيفِ قد صفقه
الويـــــــــلُ حلَّ بكمْ إلّا بمن لحقه *** صيَّرتموه لأرمـــــــاحِ العِدى درقه
يا عينُ فاحتفـــلي طولَ الحياةِ دماً *** لا تبــــــــكِ ولداً ولا أهلاً ولا رفقه
لكن على ابن رسـولِ اللهِ فانسكبي *** قيحاً ودمعــــــــــــاً وأثريهما العَلقه
سكبت السيدة سكينة عصارة روحها في هذه الأبيات التي تفوق معنى الألم والحزن فكانت عبارة عن لوحة تراجيدية تصف شعورها في ذلك اليوم المأساوي، كما تصف في تصاعدها حدة الغضب على الوحوش الآدمية التي ارتكبت هذه المجزرة والتي اهتزت لها أظلة العرش فالمشهد يذكي الأحاسيس والمشاعر ويؤجج نار الألم.
بقيت صور عاشوراء تعيش معها صورة صورة وحدثاً وحدثاً فأية صورة تُنسى ؟ وأي حدث يُسلى ؟ أصورة أبيها وهو مسجى على التراب وقد رفع رأسه على الرمح ؟ أم صورة كفي عمها وهما مقطوعتان على النهر ؟ أم صورة أخيها الرضيع وقد اخترقت النبلة رقبته ؟ أم صورة أخيها وهو عاجز يصارع المرض ؟ أم صورة عماتها وأخواتها وهن يهربن من حر النار من خيمة إلى خيمة وقد لاحقتهن السياط؟ أم... أم... أم....؟!!
لقد عاشت السيدة سكينة والدمعة لا تفارق عينيها حزناً على أبيها وأهل بيتها وما جرى عليهم في كربلاء, وبقيت صبغة الحزن العميق ملازمة لها حتى فاضت روحها الطاهرة إلى بارئها عام (117هـ) وعمرها الشريف (74) عاما.
محمد طاهر الصفار
....................................................................
1 ــ المنتظم في تاريخ الملوك والأمم ـــ ابن الجوزي ج 7 ص 175 / النجوم الزاهرة ــ ابن تغري بردي ج 1 ص 276
2 ــ منتهى الآمال ج 1 ص 181
3 ــ وفيات الأعيان ج 1 ص 378
4 ــ شذرات الذهب ج 1 ص 154
5 ــ نور الأبصار ص 157
6 ــ سكينة بنت الحسين ص 140
7 ــ أعيان الشيعة ج 3 ص 492
8 ــ منتهى الآمال ج 1 ص 181
9 ــ وفيات الأعيان ترجمة فاطمة بنت الحسين (ع)
10 ــ الأغاني ج 16 ص 165
11 ــ جنة المأوى ص 232
12 ــ كتاب فاطمة بنت الحسين ص 13
13 ــ الأغاني ج 14 ص 158
14 ــ الأغاني ج 1 ص 360
15 ــ الأغاني ج 1 ص 162
16 ــ الأغاني ج 1 ص 105
17 ــ الأغاني ج 1 ص 165
18 ــ موسوعة آل النبي ص 941
19 ــ موسوعة آل النبي ص 934