- إحتجاجه ( عليه السلام ) علي سليمان المروزي:
1 - الشيخ الصدوق ؛ : حدّثنا أبو محمّد جعفر بن عليّ بن أحمد الفقيه ( رضي الله عنه ) قال: حدّثنا أبو محمّد الحسن بن محمّد بن عليّ بن صدقة القمّيّ قال: حدّثنا أبو عمرو محمّد بن عمرو بن عبد العزيز الأنصاريّ الكَجِّيّ قال: حدّثني مَن سمع الحسن بن محمّد النوفليّ يقول: قدم سليمان المروزيّ متكلّم خراسان علي المأمون فأكرمه ووصله، ثمّ قال له: إنّ ابن عمّي عليّ بن موسي الرضا ( عليهماالسلام ) قدم عليّ من الحجاز، وهو يحبّ الكلام وأصحابه، فلا عليك أن تصير إلينا يوم التروية لمناظرته.
فقال سليمان: يا أمير المؤمنين! إنّي أكره أن أسأل مثله في مجلسك في جماعة من بني هاشم فينتقص عند القوم إذا كلّمني، ولايجوز الاستقصاء عليه.
( في المصدر: فينتقض. وما أثبتناه من التوحيد. )
قال المأمون إنّما وجّهت إليه لمعرفتي بقوّتك، وليس مرادي إلّا أن تقطعه عن حجّة واحدة فقط.
فقال سليمان: حسبك، يا أميرالمؤمنين! اجمع بيني وبينه، وخلّني والذمّ، ( في بعض النسخ: خلّني وإيّاه. )
فوجّه المأمون إلي الرضا ( عليه السلام ) فقال: إنّه قدم إلينا رجل من أهل مروز، ( في التوحيد: مرو. )
وهو واحد خراسان من أصحاب الكلام، فإن خفّ عليك أن تتجشّم المصير ( تجشّم الأمر: قصده وتخيّره. المعجم الوسيط: 124. )
إلينا فعلت، فنهض ( عليه السلام ) للوضوء، وقال لنا: تقدّموني وعمران الصابي معنا، فصرنا إلي الباب فأخذ ياسر وخالد بيدي، فأدخلاني علي المأمون، فلمّا سلّمت قال: أين أخي أبوالحسن أبقاه اللّه تعالي؟
قلت: خلّفته يلبس ثيابه، وأمرنا أن نتقدّم، ثمّ قلت: يا أميرالمؤمنين! إنّ عمران مولاك معي وهو علي الباب.
فقال: ومن عمران؟
قلت: الصابيّ الذي أسلم علي يدك.
قال: فليدخل، فدخل فرحّب به المأمون، ثمّ قال له: يا عمران! لم تمت حتّي صرت من بني هاشم.
قال: الحمد للّه الذي شرّفني بكم يا أميرالمؤمنين!
فقال له المأمون: يا عمران! هذا سليمان المروزيّ متكلّم خراسان.
قال عمران: يا أمير المؤمنين! إنّه يزعم واحد خراسان في النظر، وينكر البداء.
قال: فلم لاتناظروه؟
قال عمران: ذلك إليه، فدخل الرضا ( عليه السلام ) فقال: في أيّ شي ء كنتم؟
قال عمران: يا ابن رسول اللّه هذا سليمان المروزيّ.
فقال له سليمان: أترضي بأبي الحسن وبقوله فيه؟
فقال عمران: قد رضيت بقول أبي الحسن في البداء علي أن يأتيني فيه بحجّة أحتجّ بها علي نظرائي من أهل النظر.
قال المأمون: يا أبا الحسن! ماتقول فيما تشاجرا فيه؟
قال: وماأنكرت من البداء يا سليمان؟ واللّه عزّوجلّ يقول: ( أَوَلَايَذْكُرُ الْإِنسَنُ أَنَّا خَلَقْنَهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيًْا) ويقول عزّوجلّ: ( ( مريم: 67/19. )
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُاْ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ و ) ويقول: ( بَدِيعُ السَّمَوَتِ ( الروم: 27/30. )
وَالْأَرْضِ ) ويقول عزّوجلّ: ( يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ) ( البقرة: 117/2. )
( الفاطر: 1/35. )
ويقول: ( وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَنِ مِن طِينٍ ) ويقول عزّوجلّ: ( السجدة: 7/32. )
( وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ) ( التوبة: 106/9. )
ويقول عزّوجلّ: ( وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَايُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ ي إِلَّا فِي كِتَبٍ ) .
( الفاطر: 11/35. )
قال سليمان: هل رويت فيه من آبائك شيئاً؟
قال: نعم، رويت عن أبي، عن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) أنّه قال: إنّ للّه عزّوجلّ علمين، علماً مخزوناً مكنوناً لايعلمه إلاّ هو، من ذلك يكون البداء، وعلماً علّمه ملائكته ورسله، فالعلماء من أهل بيت نبيّنا يعلمونه.
قال سليمان: أُحبّ أن تنزعه لي من كتاب اللّه عزّوجلّ.
قال: قول اللّه عزّوجلّ لنبيّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) ( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِ مَلُومٍ ) أراد هلاكهم، ثمّ بدا للّه تعالي فقال: ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَي ( الذاريات: 54/51. )
تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) .
( الذاريات: 55/51. )
قال سليمان: زدني جعلت فداك؛
قال الرضا: لقد أخبرني أبي، عن آبائه ( عليهم السلام ) : ، عن رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) قال: إنّ اللّه عزّوجلّ أوحي إلي نبيّ من أنبيائه أن أخبر فلاناً الملك: أنّي متوفّيه إلي كذا وكذا، فأتاه ذلك النبيّ فأخبره، فدعا إلي الملك وهو علي سريره حتّي سقط من السرير وقال: يا ربّ! أجّلني حتّي يشبّ طفلي، وأقضي أمري، فأوحي اللّه عزّوجلّ إلي ذلك النبيّ أن ائت فلاناً الملك، فأعلم أنّي قد أنسيت في أجله، وزدت في عمره إلي خمس عشرة سنة.
فقال ذلك النبيّ ( عليه السلام ) : يا ربّ! إنّك لتعلم أنّي لم أكذب قطّ، فأوحي اللّه عزّوجلّ إليه: إنّما أنت عبد مأمور، فأبلغه ذلك، واللّه لايسئل عمّا يفعل، ثمّ التفت إلي سليمان فقال: أحسبك ضاهيت اليهود في هذا الباب؛
( ضاهاه: ضاهأه: شابهه. المعجم الوسيط: 546. )
قال: أعوذ باللّه من ذلك وما قالت اليهود.
قال ( عليه السلام ) : ( قَالَتِ الْيَهُودُ يَدُاللَّهِ مَغْلُولَةٌ) يعنون: أنّ اللّه تعالي قد فرغ من الأمر، فليس يحدث شيئاً، فقال اللّه عزّوجلّ: ( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُوا) ، ولقد سمعت قوماً سألوا أبي موسي بن ( المائدة: 64/5. )
جعفر ( عليهماالسلام ) عن البداء؟
فقال ( عليه السلام ) : وما ينكر الناس من البداء، وان يقف اللّه قوماً يرجيهم لأمره.
قال سليمان: ألا تخبرني عن ( إِنَّآ أَنزَلْنَهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) في ( القدر: 1/97. )
أيّ شي ء أنزلت؟
قال: يا سليمان! ليلة القدر يقدّر اللّه عزّوجلّ فيها ما يكون من السنة إلي السنة، من حياة أو موت، أو خير أو شرّ، أو رزق، فما قدّره في تلك الليلة فهو من المحتوم.
قال سليمان: الآن قد فهمت جعلت فداك، فزدني.
قال: يا سليمان! إنّ من الأُمور أُموراً موقوفة عند اللّه عزّوجلّ، يقدّم منها مايشاء، ويؤخّر ما يشاء، ويمحو ما يشاء، يا سليمان! إنّ عليّاً ( عليه السلام ) كان يقول: العلم علمان: فعلم علّمه اللّه وملائكته ورسله، فما علّمه ملائكته ورسله، فإنّه يكون ولايكذّب نفسه، ولاملائكته، ولارسله، وعلم عنده مخزون لم يطّلع عليه أحداً من خلقه، يقدّم منه مايشاء، ويؤخّر منه مايشاء، ويمحو مايشاء، ويثبت مايشاء.
قال سليمان للمأمون: يا أمير المؤمنين! لا أُنكر بعد يومي هذا البداء، ولاأكذّب به إن شاء اللّه.
فقال المأمون: يا سليمان! سل أبي الحسن عمّا بدا لك، وعليك بحسن الاستماع والإنصاف.
قال سليمان: يا سيّدي! أسألك؟
قال الرضا ( عليه السلام ) : سل عمّا بدا لك.
قال: ماتقول فيمن جعل الإراده اسماً وصفة، مثل حيّ وسميع وبصير وقدير.
قال الرضا ( عليه السلام ) : إنّما قلتم: حدثت الأشياء واختلفت، لأنّه شاء وأراد، ولم تقولوا: حدثت الأشياء واختلفت، لأنّه سميع بصير، فهذا دليل علي أنّهما ليستا مثل سميع، ولابصير، ولاقدير.
قال سليمان: فإنّه لم يزل مريداً.
قال ( عليه السلام ) : يا سليمان! فإرادته غيره؟ قال: نعم.
قال ( عليه السلام ) : فقد أثبت معه شيئاً غيره لم يزل، قال سليمان: ماأثبت.
قال الرضا ( عليه السلام ) : أهي محدثة؟
قال سليمان: لا، ماهي محدثة، فصاح به المأمون! وقال: يا سليمان! مثله يعابا أو يكابر! عليك بالإنصاف، أما تري من حولك من أهل النظر؟ ثمّ قال: كلّمه ياأبا الحسن! فإنّه متكلّم خراسان، فأعاد عليه المسألة.
فقال: هي محدثة يا سليمان! فإنّ الشي ء إذا لم يكن أزليّاً كان محدثاً، وإذا لم يكن محدثاً كان أزليّاً.
قال سليمان: إرادته منه كما أنّ سمعه وبصره وعلمه منه.
قال الرضا ( عليه السلام ) : فأراد نفسه؟ قال: لا.
قال: فليس المريد مثل السميع والبصير.
قال سليمان: إنّما أراد نفسه كما سمع نفسه، وأبصر نفسه وعلم نفسه.
قال الرضا ( عليه السلام ) : ما معني أراد نفسه؟ أراد أن يكون شيئاً، وأراد أن يكون حيّاً، أو سميعاً بصيراً، أو قديراً؟ قال: نعم.
قال الرضا ( عليه السلام ) : أفبإرادته كان ذلك؟ قال سليمان: نعم.
قال الرضا ( عليه السلام ) : فليس لقولك: أراد أن يكون حيّاً سميعاً بصيراً معنيً، إذا لم يكن ذلك بإرادته؟
قال سليمان: بلي، قد كان ذلك بإرادته، فضحك المأمون ومن حوله، وضحك الرضا ( عليه السلام ) ، ثمّ قال لهم: ارفقوا بمتكلّم خراسان يا سليمان! فقد حال عندكم عن حاله وتغيّر عنها، وهذا مالايوصف اللّه عزّوجلّ به، فانقطع.
ثمّ قال الرضا ( عليه السلام ) : يا سليمان! أسألك عن مسألة؟
قال: سل، جعلت فداك؛
قال: أخبرني عنك و عن أصحابك، تكلّمون الناس بما تفقهون وتعرفون؟ أوبما لاتفقهون ولاتعرفون؟ قال: بل بما نفقه ونعلم.
قال الرضا ( عليه السلام ) : فالذي يعلم الناس أنّ المريد غير الإرادة، وأنّ المريد قبل الإرادة، وأنّ الفاعل قبل المفعول، وهذا يبطل قولكم: إنّ الإرادة والمريد شي ء واحد.
قال: جعلت فداك، ليس ذلك منه علي ما يعرف الناس، ولاعلي مايفقهون.
قال الرضا ( عليه السلام ) : فأريكم ادّعيتم علم ذلك بلا معرفة، وقلتم: الإرادة كالسمع والبصر إذا كان ذلك عندكم علي مالايعرف ولايعقل، فلم يحر جواباً،
ثمّ قال الرضا ( عليه السلام ) : يا سليمان! هل يعلم اللّه جميع ما في الجنّة والنار؟
قال سليمان: نعم.
قال: أفيكون ما علم اللّه تعالي أنّه يكون من ذلك؟ قال: نعم.
قال: فإذاً كان حتّي لايبقي منه شي ء إلّا كان، أيزيدهم أو يطويه عنهم؟
قال سليمان: بل يزيدهم.
قال: فأراه في قولك قد زادهم مالم يكن في علمه أنّه يكون؛
قال: جعلت فداك، فالمريد لاغاية له.
قال: فليس يحيط علمه عندكم بما يكون فيهما، إذا لم يعرف غاية ذلك، وإذا لم يحط علمه بما يكون فيهما، لم يعلم مايكون فيهما قبل أن يكون، تعالي اللّه عزّوجلّ عن ذلك علوّاً كبيراً.
قال سليمان: إنّما قلت: لايعلمه لأنّه لاغاية لهذا، لأنّ اللّه عزّوجلّ وصفهما بالخلود، وكرهنا أن نجعل لهما انقطاعاً.
قال الرضا ( عليه السلام ) : ليس علمه بذلك بموجب لانقطاعه عنهم، لأنّه قد يعلم ذلك، ثمّ يزيدهم، ثمّ لايقطعه عنهم، وكذلك قال اللّه عزّوجلّ في كتابه: ( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ ) ، وقال ( النساء: 56/4. )
لأهل الجنّة: ( عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) ، فهو عزّوجلّ يعلم ذلك، ( هود: 108/11. )
ولايقطع عنهم الزيادة، أرأيت ما أكل أهل الجنّة وما شربوا ليس يخلف مكانه؟ قال: بلي.
قال ( عليه السلام ) : أفيكون يقطع ذلك عنهم وقد أخلف مكانه؟ قال سليمان: لا.
قال ( عليه السلام ) : فكذلك كلّما يكون فيه إذا أخلف مكانه، فليس بمقطوع عنهم.
قال سليمان: بلي يقطعه عنهم ولايزيدهم.
قال الرضا ( عليه السلام ) : إذاً يبيد فيها، وهذا يا سليمان! إبطال الخلود، وخلاف الكتاب، لأنّ اللّه عزّوجلّ يقول: ( لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَ زِيدٌ) ، ويقول عزّوجلّ: ( عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) ، ويقول ( ق: 35/50. )
عزّوجلّ: ( وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ ) ، ويقول عز ّوجلّ: ) الحجر: 48/15. )
( خَلِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا) ، ويقول عزّوجلّ: ( وَفَكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَّا ( المائدة: 119/5. )
مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ) ، فلم يحر جواباً.
( الواقعة: 33/56. )
ثمّ قال الرضا ( عليه السلام ) : يا سليمان! ألا تخبرني عن الإرادة فعل هي، أم غير فعل؟
قال: بلي هي فعل.
قال ( عليه السلام ) : فهي محدثة، لأنّ الفعل كلّه محدث.
قال: ليست بفعل.
قال ( عليه السلام ) : فمعه غيره لم يزل.
قال سليمان: الإرادة هي الإنشاء.
قال ( عليه السلام ) : يا سليمان! هذا الذي ادّعيتموه علي ضرار وأصحابه من ( في المصدر: عبتموه، وفي بعض النسخ: عيّبتموه، وما أثبتناه في المتن عن التوحيد. )
قولهم: إنّ كلّ ما خلق اللّه عزّوجلّ في سماء أو أرض، أو بحر أو برّ، من كلب أو خنزير، أو قرد أو إنسان، أو دابّة إرادة اللّه، وإنّ إرادة اللّه تحيي وتموت وتذهب، وتأكل وتشرب، وتنكح وتلذّ، وتظلم وتفعل الفواحش، وتكفر وتشرك، فيبرأ منها، ويعاد بها، وهذا حدّها.
قال سليمان: إنّها كالسمع والبصر والعلم.
قال الرضا ( عليه السلام ) : قد رجعت إلي هذا ثانية، فأخبرني عن السمع والبصر والعلم، أمصنوع؟ قال سليمان: لا.
قال الرضا ( عليه السلام ) : فكيف نفيتموه؟ [فمرّة] قلتم: لم يرد، ومرّة قلتم: أراد! وليست بمفعول له.
قال سليمان: إنّما ذلك كقولنا: مرّة علم، ومرّة لم يعلم.
قال الرضا ( عليه السلام ) : ليس ذلك سواء، لأنّ نفي المعلوم ليس بنفي العلم، ونفي المراد نفي الإرادة أن تكون، لأنّ الشي ء إذا لم يُرَد لم تكن إرادة، فقد يكون العلم ثابتاً وإن لم يكن المعلوم، بمنزلة البصر فقد يكون الإنسان بصيراً، وإن لم يكن المُبصَر وقد يكون العلم ثابتاً وإن يكن المعلوم.
قال سليمان: إنّها مصنوعة.
قال ( عليه السلام ) : فهي محدثة ليست كالسمع والبصر، لأنّ السمع والبصر ليسا بمصنوعين وهذه مصنوعة.
قال سليمان: إنّها صفة من صفاته لم تزل.
قال ( عليه السلام ) : فينبغي أن يكون الإنسان لم يزل، لأنّ صفته لم تزل.
قال سليمان: لا، لأنّه لم يفعلها.
قال الرضا ( عليه السلام ) : يا خراسانيّ! ما أكثر غلطك! أفليس بإرادته وقوله تَكَوُّن الأشياء؟ قال سليمان: لا.
قال: فإذا لم تكن بإرادته ولامشيّته، ولاأمره ولابالمباشرة، فكيف يُكَوَّن ذلك؟ تعالي اللّه عن ذلك، فلم يُحِر جواباً.
ثمّ قال الرضا ( عليه السلام ) : ألا تخبرني عن قول اللّه عزّوجلّ: ( وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا) يعني بذلك أنّه يحدث إرادة؟
( الإسراء: 16/17. )
قال له: نعم.
قال ( عليه السلام ) : فإذا حدث إرادة كان قولك: إنّ الإرادة هي هو، أو شي ء منه باطلاً، لأنّه لايكون أن يحدث نفسه، ولايتغيّر عن حالة، تعالي اللّه عن ذلك!
قال سليمان: إنّه لم يكن عني بذلك أنّه يحدث إرادة.
قال: فما عني به؟ قال: عني فعل الشي ء.
قال الرضا ( عليه السلام ) : ويلك! كم تردّد في هذه المسألة، وقد أخبرتك أنّ الإرادة محدثة، لأنّ فعل الشي ء محدث.
قال: فليس لها معني.
قال الرضا ( عليه السلام ) : قد وصف نفسه عندكم حتّي وصفها بالإرادة بمالامعني له، فإذا لم يكن لها معني قديم ولاحديث بطل قولكم: إنّ اللّه عزّوجلّ لم يزل مريداً.
قال سليمان: إنّما عنيت أنّها فعل من اللّه تعالي لم يزل.
قال: ألم تعلم أنّ مالم يزل لايكون مفعولاً، وقديماً وحديثاً في حالة واحدة؟ فلم يُحِر جواباً.
قال الرضا ( عليه السلام ) لابأس أتمم مسألتك.
قال سليمان: قلت: إنّ الإرادة صفة من صفاته.
قال ( عليه السلام ) : كم تردّد علي أنّها صفة من صفاته، فصفته محدثة أو لم تزل؟
قال سليمان: محدثة.
قال الرضا ( عليه السلام ) : اللّه أكبر! فالإرادة محدثة، وإن كانت صفة من صفاته لم تزل، فلم يرد شيئاً.
قال الرضا ( عليه السلام ) : إنّ ما لم يزل لا يكون مفعولاً.
قال سليمان: ليس الأشياء إرادة ولم يرد شيئاً.
قال الرضا ( عليه السلام ) : وَسوَستَ يا سليمان! فقد فعل وخلق مالم يزل خلقه ( في التوحيد: لم يُرِد. )
وفعله، وهذه صفة من لايدري مافعل، تعالي اللّه عن ذلك!
قال سليمان: يا سيّدي! فقد أخبرتك أنّها كالسمع والبصر والعلم.
قال المأمون: ويلك يا سليمان! كم هذا الغلط والتردّد؟ اقطع هذا، وخذ في غيره، إذ لست تَقْوي علي غير هذا الردّ.
قال الرضا ( عليه السلام ) : دعه يا أمير المؤمنين! لاتقطع عليه مسألته فيجعلها حجّة، تكلّم يا سليمان.
قال: قد أخبرتك أنّها كالسمع والبصر والعلم.
قال الرضا ( عليه السلام ) : لابأس، أخبرني عن معني هذه، أمعني واحد، أم معان مختلفة؟ قال سليمان: معني واحد.
قال الرضا ( عليه السلام ) : فمعني الإرادات كلّها معني واحد؟
قال سليمان: نعم.
قال الرضا ( عليه السلام ) : فإن كان معناها معني واحداً، كانت إرادة القيام إرادة القعود، وإرادة الحياة إرادة الموت، إذا كانت إرادته واحدة، لم تتقدّم بعضها بعضاً، ولم يخالف بعضها بعضاً، وكانت شيئاً واحداً.
قال سليمان: إنّ معناها مختلف. قال ( عليه السلام ) : فأخبرني عن المريد، أهو الإرادة أوغيرها؟
قال سليمان: بل هو الإرادة.
قال الرضا ( عليه السلام ) : فالمريد عندكم مختلف إذا كان هو الإرادة؟
قال: يا سيّدي! ليس الإرادة المريد.
قال: فالإرادة محدثة وإلّا فمعه غيره، افهم وزد في مسألتك.
قال سليمان: فإنّها اسم من أسمائه.
قال الرضا ( عليه السلام ) : هل سمّي نفسه بذلك؟
قال سليمان: لا، لم يسمّ به نفسه بذلك.
قال الرضا ( عليه السلام ) : فليس لك أن تسمّيه بما لم يسمّ به نفسه. قال: قد وصف نفسه بأنّه مريد.
قال الرضا ( عليه السلام ) : ليس صفته نفسه، أنّه مريد، إخبار عن أنّه أراده، ولا إخبار عن أنّ الإرادة اسم من أسمائه.
قال سليمان: لأنّ إرادته علمه.
قال الرضا ( عليه السلام ) : يا جاهل! فإذا علم الشي ء فقد أراده.
قال سليمان: أجل. فقال ( عليه السلام ) : فإذا لم يرده لم يعلمه.
قال سليمان: أجل. قال ( عليه السلام ) : من أين قلت ذاك؟ وماالدليل علي إرادته علمه؟ وقد يعلم مالايريده أبداً؟ وذلك قوله عزّوجلّ: ( وَلَل-ِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ ) ، فهو يعلم كيف يذهب به، وهو لايذهب به ( الاسراء: 86/17. )
أبداً.
قال سليمان: لأنّه قد فرغ من الأمر، فليس يزيد فيه شيئاً.
قال الرضا ( عليه السلام ) : هذا قول اليهود، فكيف قال تعالي: ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) !
( غافر: 60/40. )
قال سليمان: إنّما عني بذلك أنّه قادر عليه.
قال ( عليه السلام ) : أفيعد مالايفي به؟ فكيف قال: ( يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ) وقال عزّوجلّ: ( يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ و أُمُ ( الفاطر: 1/35. )
الْكِتَبِ ) ، وقد فرغ من الأمر، فلم يحر جواباً.
( الرعد: 39/13. )
قال الرضا ( عليه السلام ) : يا سليمان! هل يعلم أنّ إنساناً يكون ولايريد أن يخلق إنساناً أبداً، وأنّ إنساناً يموت اليوم ولايريد أن يموت اليوم؟ قال سليمان: نعم.
قال الرضا ( عليه السلام ) : فيعلم أنّه يكون مايريد أن يكون، أو يعلم أنّه يكون مالايريد أن يكون، قال: يعلم أنّهما يكونان جميعاً.
قال الرضا ( عليه السلام ) : إذاً يعلم أنّ إنساناً حيّ ميّت، قائم قاعد، أعمي بصير في حالة واحدة، وهذا هو المحال.
قال: جعلت فداك، فإنّه يعلم أنّه يكون أحدهما دون الآخر.
قال: لا بأس، فأيّهما يكون الذي أراد أن يكون، أو الذي لم يرد أن يكون؟
قال سليمان: الذي أراد أن يكون.
فضحك الرضا ( عليه السلام ) والمأمون وأصحاب المقالات.
قال الرضا ( عليه السلام ) : غلطت وتركت قولك: إنّه يعلم أنّ إنساناً يموت اليوم وهو لايريد أن يموت اليوم، وأنّه يخلق خلقاً، وأنّه لايريد أن يخلقهم، وإذا لم يجز العلم عندكم بما لم يرد أن يكون، فإنّما يعلم أن يكون ما أراد أن يكون.
قال سليمان: فإنّما قولي: إنّ الإرادة ليست هو ولاغيره.
قال الرضا ( عليه السلام ) : يا جاهل! إذا قلت: ليست هو، فقد جعلتها غيره، وإذا قلت: ليست هي غيره، فقد جعلتها هو.
قال سليمان: فهو يعلم كيف يصنع الشي ء؟ قال ( عليه السلام ) : نعم.
قال سليمان: فإنّ ذلك إثبات للشي ء.
قال الرضا ( عليه السلام ) : أحلت، لأنّ الرجل قد يحسن البناء وإن لم يبن، ويحسن الخياطة وإن لم يخط، ويحسن صنعة الشي ء وإن لم يصنعه أبداً، ثمّ قال له: ياسليمان! هل تعلم أنّه واحد لا شي ء معه؟ قال: نعم.
قال الرضا ( عليه السلام ) . فيكون ذلك إثباتاً للشي ء.
قال سليمان: ليس يعلم أنّه واحد لاشي ء معه.
قال الرضا ( عليه السلام ) : أفتعلم أنت ذاك؟ قال: نعم.
قال ( عليه السلام ) : فأنت يا سليمان! إذاً أعلم منه.
قال سليمان: المسألة محال.
قال ( عليه السلام ) : محال عندك أنّه واحد لاشي ء معه، وأنّه سميع بصير حكيم قادر. قال: نعم، قال ( عليه السلام ) : فكيف أخبر عزّوجلّ: أنّه واحد حيّ، سميع بصير، حكيم قادر، عليم خبير، وهو لايعلم ذلك، وهذا ردّ ماقال وتكذيبه، تعالي اللّه عن ذلك، ثمّ قال له الرضا ( عليه السلام ) : فكيف يريد صنع مالايدري صنعه؟ ولاماهو؟ وإذا كان الصانع لايدري كيف يصنع الشي ء قبل أن يصنعه؟ فإنّما هو متحيّر، تعالي اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً.
قال سليمان: فإنّ الإرادة القدرة.
قال الرضا ( عليه السلام ) : وهو عزّوجلّ يقدر علي مالايريده أبداً، ولابدّ من ذلك، لأنّه قال تبارك وتعالي: ( وَلَل-ِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ ) ، فلوكانت الإرادة هي القدرة، كان قد أراد أن يذهب به لقدرته، فانقطع سليمان.
فقال المأمون عند ذلك: يا سليمان! هذا أعلم هاشميّ، ثمّ تفرّق القوم.
قال مصنّف هذا الكتاب ( رضي الله عنه ) : كان المأمون يجلب علي الرضا ( عليه السلام ) من متكلّمي الفرق والأهواء المضلّة كلّ من سمع به، حرصاً علي انقطاع ال رضا ( عليه السلام ) عن الحجّة مع واحد منهم، وذلك حسداً منه له، ولمنزلته من العلم؛
فكان لايكلّمه أحد إلّا أقرّ له بالفضل، والتزم الحجّة له عليه، لأنّ اللّه تعالي ذكره يأبي إلّا أن يعلي كلمته، ويتمّ نوره، وينصر حجّته، وهكذا وعد تبارك ( في التوحيد: أبي. )
وتعالي في كتابه فقال: ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا ) يعني بالذين آمنوا، الأئمّة الهداة، وأتباعهم العارفين بهم، ( غافر: 51/40. )
والآخذين عنهم بنصرهم بالحجّة علي مخالفيهم ما داموا في الدنيا، وكذلك يفعل بهم في الآخرة، وأنّ اللّه عزّوجلّ لايخلف الميعاد.
( عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : 179/1 ح 1. عنه البحار: 95/4 ح 2، و177/49 ح 13، و14/94 ح 24، والأنوار البهيّة: 218 س 15، والفصول المهمّة للحرّ العاملي: 370/1 ح 487، والبرهان: 238/4 ح 2، ونور الثقلين: 494/1 ح 316، و649 ح 277، و515/2 ح 173، و520 ح 197، و145/3 ح 112، و219 ح 440، و222/4 ح 9، و532 ح 96، و131/5 ح 54، و630 ح 82. قِطَعٌ منه، عنه وعن التوحيد والإحتجاج، البحار: 329/10 ح 2، و57/54 ح 28، قطعة منه.
التوحيد: 441 ح 1. عنه الجواهر السنيّة: 123 س 4، والفصول المهمّة للحرّ العامليّ: 154/1 ح 70، و222 ح 196، ونور الثقلين: 355/4، ح 50 قِطَعٌ منه.
الإحتجاج: 365/2 ح 284، مرسلاً مختصراً. عنه نور الثقلين: 220/3 ح 441.
الدرّ المنثور: 28/2 س 5، و33 س 20، قطعتان منه.
مختصر بصائر الدرجات: 143 س 5.
قطعة منه في و(سورة البقرة: 117/2) و(سورة النساء: 56/4) و(سورة المائدة: 64/5 و(سورة التوبة: 106/9) و119) و(سورة الواقعة: 33/56) و(سورة هود: 108/11) و(سورة الرعد: 39/13) و(سورة الحجر: 48/15) و(سورة الإسراء: 16/17 و86) و(سورة مريم: 67/19) و(سورة الروم: 27/30) و(سورة السجدة: 7/32) و(سورة الفاطر: 1/35 و11) و(سورة غافر: 60/40) و(سورة ق: 35/50) و(سورة الذاريات: 54/51، و55) و(سورة القدر: 1/97) و(ما رواه من الإحاديث القدسيّة) و(ما رواه عن رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) ) و(ما رواه عن عليّ ( عليه السلام ) ) و(ما رواه عن الصادق ( عليه السلام ) ) و(مارواه عن أبيه موسي بن جعف ( عليهم السلام ) : ). )


- احتجاجه ( عليه السلام ) مع ابن قرّة النصرانيّ علي خلق المسيح:
1 - ابن شهرآشوب ؛ : في كتاب الصفوانيّ: أنّه قال الرضا ( عليه السلام ) لابن قرّة النصرانيّ: ما تقول في المسيح؟
قال: يا سيّدي! إنّه من اللّه.
فقال: ما تريد بقولك مِن، ومِن علي أربعة أوجه، لا خامس لها، أتريد بقولك مِن كالبعض من الكلّ فيكون مبعّضاً، أو كالخلّ من الخمر، فيكون علي سبيل الاستحالة، أو كالولد من الوالد، فيكون علي سبيل المناكحة، أو كالصنعة من الصانع، فيكون علي سبيل المخلوق من الخالق، أو عندك وجه آخر فتعرّفناه، فانقطع.
( المناقب: 351/4 س 23. عنه البحار: 349/10 ح 7. )

- احتجاجه ( عليه السلام ) علي عصمة الأنبيا ( عليهم السلام ) : :
1 - الشيخ الصدوق ؛ : حدّثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمدانيّ ( رضي الله عنه ) والحسين بن إبراهيم بن أحمد بن هشام المكتّب، وعليّ بن عبد اللّه الورّاق ( رضي الله عنه ) قالوا: حدّثنا عليّ بن إبراهيم بن هاشم قال: حدّثنا القاسم بن محمّد البرمكيّ قال: حدّثنا أبو الصلت الهرويّ قال: لمّا جمع المأمون لعليّ بن موسي الرضا ( عليهماالسلام ) ، أهل المقالات من أهل الإسلام والديانات، من اليهود والنصاري، والمجوس والصابئين، وسائر المقالات، فلم يقم أحد إلّا وقد ألزمه حجّته، كأنّه ألقم حجراً؛
قام إليه عليّ بن محمّد بن الجهم، فقال له: يا ابن رسول اللّه! أتقول بعصمة الأنبياء؟
قال ( عليه السلام ) : نعم، قال: فما تعمل في قول اللّه عزّوجلّ: ( وَعَصَي ( في بعض النسخ: فما تقول. )
ءَادَمُ رَبَّهُ و فَغَوَي ) وفي قوله عزّوجلّ: ( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ ( طه: 121/20. )
مُغَضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ) وفي قوله عزّوجلّ في يوسف ) ( عليه السلام ) الأنبياء: 87/21. )
: ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ي وَهَمَّ بِهَا) وفي قوله عزّوجلّ في داود: ( ( يوسف: 24/12. )
وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّهُ ) وقوله تعالي في نبيّه محمّد ( صلي الله عليه وآله وسلم ) ( ص: 24/38. )
( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ) ؟
( الأحزاب: 37/33. )
فقال الرضا ( عليه السلام ) : ويحك، يا عليّ! اتّق اللّه، ولا تنسب إلي أنبياء اللّه الفواحش، ولا تتأوّل كتاب اللّه برأيك، فإنّ اللّه عزّوجلّ قد قال: ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ و إِلَّا اللَّهُ وَالرَّسِخُونَ ) ؛
( آل عمران: 7/3. )
وأمّا قوله عزّوجلّ في آدم: ( وَعَصَي ءَادَمُ رَبَّهُ و فَغَوَي ) فإنّ اللّه عزّوجلّ خلق آدم حجّة في أرضه، وخليفة في بلاده، لم يخلقه للجنّة، وكانت المعصية من آدم في الجنّة لافي الأرض، وعصمته تجب أن يكون في الأرض ليتمّ مقادير أمر اللّه، فلمّا أهبط إلي الأرض، وجعل حجّة وخليفة عصم، بقوله عزّوجلّ: ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَي ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَهِيمَ وَءَالَ عِمْرَنَ عَلَي الْعَلَمِينَ ) .
( آل عمران: 33/3. )
وأمّا قوله عزّوجلّ: ( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ) إنّما «ظنّ» بمعني استيقن، إنّ اللّه لن يضيق عليه رزقه، ألا تسمع قول اللّه عزّوجلّ: ( وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلَل-هُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ و ) أي ضيق ( الفجر: 16/89. )
عليه رزقه، ولوظنّ أنّ اللّه لا يقدر عليه لكان قد كفر.
وأمّا قوله عزّوجلّ في يوسف ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ي وَهَمَّ بِهَا) فإنّها همّت بالمعصية، وهمّ يوسف بقتلها إن أجبرته، لعظم ماتداخله، فصرف اللّه عنه قتلها والفاحشة، وهو قوله عزّوجلّ: ( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشَآءَ) يعني القتل والزنا.
( يوسف: 24/12. )
وأمّا داود ( عليه السلام ) فمايقول من قبلكم فيه؟
فقال عليّ بن محمّد بن الجهم: يقولون: إنّ داود ( عليه السلام ) كان في محرابه يصلّي فتصوّر له إبليس علي صورة طير أحسن مايكون من الطيور، فقطع داود صلاته وقام ليأخذ الطير، فخرج الطير إلي الدار، فخرج الطير إلي السطح، فصعد في طلبه، فسقط الطير دار «أوريا بن حنّان»، فأطلع داود في أثر الطير بامرأة أوريا تغتسل، فلمّا نظر إليها هواها، وكان قد أخرج أوريا في بعض غزواته؛
فكتب إلي صاحبه: أن قدّم أوريا أمام التابوت، فقدّم، فظفر أوريا بالمشركين، فصعب ذلك علي داود، فكتب إليه ثانية: أن قدّمه أمام التابوت، فقدّم، فقتل أوريا، فتزوّج داود بامرأته.
قال: فضرب الرضا ( عليه السلام ) بيده علي جبهته وقال: إنّا للّه وإنّا إليه راجعون! لقد نسبتم نبيّاً من أنبياء اللّه إلي التهاون بصلاته، حتّي خرج في أثر الطير، ثمّ بالفاحشة، ثمّ بالقتل!
فقال: يا ابن رسول اللّه! فما كان خطيئته؟
فقال ( عليه السلام ) : ويحك، إنّ داود ( عليه السلام ) إنّما ظنّ أنّ ماخلق اللّه عزّوجلّ خلقاً هو أعلم منه، فبعث اللّه عزّوجلّ إليه الملكين فتسوّرا المحراب، فقالا: ( خَصْمَانِ بَغَي بَعْضُنَا عَلَي بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِ ّ وَلَاتُشْطِطْ وَاهْدِنَآ إِلَي سَوَآءِ الصِّرَطِ * إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ و تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ )
فعجّل داود ( عليه السلام ) علي المدّعي عليه فقال: ( لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَي نِعَاجِهِ ) ، ولم يسأل المدّعي البيّنة علي ذلك، ولم يقبل علي ( ص: 22/38 - 24. )
المدّعي عليه، فيقول له: ما تقول؟
فكان هذا خطيئة رسم الحكم، لاماذهبتم إليه، ألا تسمع اللّه عزّوجلّ يقول: ( يَدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ ّ وَلَاتَتَّبِعِ الْهَوَي ) إلي آخر الآية!
( ص: 38/ 26. )
فقال: يا ابن رسول اللّه! فما قصّته مع أوريا؟
فقال الرضا ( عليه السلام ) إنّ المرأة في أيّام داود ( عليه السلام ) كانت إذا مات بعلها، أو قتل، لاتتزوّج بعده أبداً، وأوّل من أباح اللّه له أن يتزوّج بامرأة قتل بعلها، كان داود ( عليه السلام ) ، فتزوّج بامرأة أوريا لمّا قتل، وانقضت عدّتها منه، فذلك الذي شقّ علي الناس من قبل أوريا.
وأمّا محمّد ( صلي الله عليه وآله وسلم ) وقول اللّه عزّوجلّ: ( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَي النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَل-هُ ) فإنّ اللّه عزّوجلّ عرّف نبيّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) أسماء أزواجه في دار الدنيا، وأسماء أزواجه في دار الآخرة، وأنّهنّ أمّهات المؤمنين، وإحداهنّ من سمّي له زينب بنت جحش، وهي يومئذ تحت زيد بن حارثة، فأخفي اسمها في نفسه، ولم يبده لكيلا يقول أحد من المنافقين: إنّه قال في امرأة في بيت رجل إنّها إحدي أزواجه من أمّهات المؤمنين، وخشي قول المنافقين، فقال اللّه عزّوجلّ: ( وَتَخْشَي النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَل-هُ ) يعني في نفسك، وإنّ اللّه عزّوجلّ ما تولّي تزويج أحد من خلقه إلّا تزويج حوّا من آدم ( عليه السلام ) ، وزينب من رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) بقوله: ( فَلَمَّا قَضَي زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَكَهَا) الآية، وفاطمة من ( الأحزاب: 37/33.
)

عليّ ( عليه السلام ) .
قال: فبكي عليّ بن محمّد بن الجهم فقال: يا ابن رسول اللّه! أنا تائب إلي اللّه عزّوجلّ، من أن أنطق في أنبياء اللّه ( عليهم السلام ) : بعد يومي هذا، إلّا بما ذكرته.
( عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : 191/1 ح 1. وقِطَعٌ منه في البحار: 23/14 ح 2، و217/22 ح 51، و179/49 ح 14، ونور الثقلين: 318/1 ح 42، و328 ح 97، و419/2 ح 41، و404/3 ح 162، و449 ح 136، و281/4 ح 129، و445 ح 20، ووسائل الشيعة: 187/27 ح 33562، و216 ح 33629، وإثبات الهداة: 257/3 ح 30، والفصول المهمّة للحرّ العاملي: 441/1 ح 617، والبرهان: 55/2 ح 1، و250 ح 29، و30، و46/3 ح 1، و44/4 ح 2، و459 ح 1.
أمالي الصدوق: 82، المجلس 20 ح 3. عنه وعن العيون، البحار: 72/11 ح 1، و107/89 ح 3، قطعة منه.
قصص الأنبياء للجزائري: 11 و344، باختصار.
قطعة منه في (قصّة داود ( عليه السلام ) مع أوريا) و(تزويج اللّه فاطمة من عليّ ( عليهماالسلام ) ) و(النهي عن تأويل القرآن) و(سورة آل عمران: 7/3) و(سورة يوسف: 24/12) و(سورة طه: 121/20) و(سورة الأنبياء: 87/21) و(سورة الأحزاب: 37/33) و(سورة ص: 22/38 - 24 و26) و(سورة الفجر: 16/89). )


- احتجاجه ( عليه السلام ) مع المأمون في عصمة الأنبيا ( عليهم السلام ) : :
1 - الشيخ الصدوق ؛ : حدّثنا تميم بن عبد اللّه بن تميم القرشيّ ( رضي الله عنه ) ، قال: حدّثني أبي، عن حمدان بن سليمان النيسابوريّ، عن عليّ بن محمّد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون، وعنده الرضا عليّ بن موسي ( عليهماالسلام ) فقال له المأمون: يا ابن رسول اللّه! أليس من قولك: إنّ الأنبياء معصومون؟
قال: بلي.
قال: فما معني قول اللّه عزّوجلّ: ( وَعَصَي ءَادَمُ رَبَّهُ و فَغَوَي ) ؟
( طه: 121/20. )
فقال ( عليه السلام ) : إنّ اللّه تبارك وتعالي قال لآدم: ( اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَاتَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ) وأشار لهما إلي شجرة الحنطة ( فَتَكُونَا مِنَ الظَّلِمِينَ ) ، ولم يقل لهما: لا تأكلا من هذه الشجرة، ولا ممّا كان من جنسها، فلم يقربا تلك الشجرة، ولم يأكلا منها، وإنّما أكلا من غيرها، لمّا أن وسوس الشيطان إليهما، وقال: ( مَا نَهَل-كُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ) وإنّما ينهيكما أن تقربا غيرها، ولم ينهكما عن الأكل منها ( إِلآَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَلِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّصِحِينَ ) ولم يكن آدم وحوّا شاهداً قبل ذلك من يحلف باللّه كاذباً ( فَدَلَّل-هُمَا بِغُرُورٍ) ، فأكلا منها ثقة بيمينه باللّه، وكان ذلك من آدم ( الأعراف: 19/7 - 22. )
قبل النبوّة، ولم يكن ذلك بذنب كبير استحقّ به دخول النار، وإنّما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز علي الأنبياء قبل نزول الوحي عليهم، فلمّا اجتباه اللّه تعالي، وجعله نبيّاً، كان معصوماً لا يذنب صغيرة ولا كبيرة.
قال اللّه عزّوجلّ: ( وَعَصَي ءَادَمُ رَبَّهُ و فَغَوَي * ثُمَّ اجْتَبَهُ رَبُّهُ و فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَي ) ، وقال عزّوجلّ: ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَي ءَادَمَ وَنُوحًا ( طه: 121/20 - 122. )
وَءَالَ إِبْرَهِيمَ وَءَالَ عِمْرَنَ عَلَي الْعَلَمِينَ ) .
( آل عمران: 33/3. )
فقال له المأمون: فما معني قول اللّه عزّوجلّ: ( فَلَمَّآ ءَاتَل-هُمَا صَلِحًا جَعَلَا لَهُ و شُرَكَآءَ فِيمَآ ءَاتَل-هُمَا) .
قال له الرضا ( عليه السلام ) : إنّ حوّاء ولدت لآدم خمسمائة بطن ذكراً وأُنثي، وإنّ آدم ( عليه السلام ) وحوّاء عاهدا اللّه عزّوجلّ ودعواه وقالا: ( لَل-ِنْ ءَاتَيْتَنَا صَلِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّكِرِينَ * فَلَمَّآ ءَاتَل-هُمَا صَلِحًا) من النسل خلقاً سويّاً، بريّاً من الزمانة والعاهة، وكان ما أتاهما صنفين، صنفاً ذكراناً، وصنفاً أناثاً، فجعل الصنفان للّه تعالي ذكره شركاء فيما آتاهما، ولم يشكراه كشكر أبويهما له عزّوجلّ، قال اللّه تبارك وتعالي: ( فَتَعَلَي اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .
( الأعراف: 189/7 - 190. )
فقال المأمون: أشهد أنّك ابن رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) حقّاً، فأخبرني عن قول اللّه عزّوجلّ في حقّ إبراهيم ( عليه السلام ) : ( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَءَا كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي ) ؟
فقال الرضا ( عليه السلام ) : إنّ إبراهيم ( عليه السلام ) وقع إلي ثلاثة أصناف صنف يعبد الزهرة، وصنف يعبد القمر، وصنف يعبد الشمس، وذلك حين خرج من السرب ( السَرَب: حفير تحت الأرض لامنفذ له، و جُحر الوحشيّ. المعجم الوسيط: 424. )
الذي أخفي فيه، ( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ ) فرأي الزهرة ( قَالَ هَذَا رَبِّي ) علي الإنكار والاستخبار؛ ( فَلَمَّآ أَفَلَ ) الكوكب ( قَالَ لَآ أُحِبُّ الْأَفِلِينَ ) لأنّ الأفول من صفات المحدث، لا من صفات القدم؛ ( فَلَمَّا رَءَا الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي ) علي الإنكار والاستخبار، ( فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَل-ِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّآلِّينَ ) يقول: لو لم يهدني ربّي لكنت من القوم الضالّين؛
فلمّا أصبح و( رَءَا الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ) من الزهرة والقمر علي الانكار والاستخبار لا علي الإخبار والإقرار؛ ( فَلَمَّآ أَفَلَتْ ) قال للأصناف الثلاثة من عبدة الزهرة، والقمر والشمس: ( قَالَ يَقَوْمِ إِنِّي بَرِي ءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَآ أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) .
( الأنعام: 76/6 - 79. )
وإنّما أراد إبراهيم ( عليه السلام ) بما قال، أن يبيّن لهم بطلان دينهم، ويثبت عندهم أنّ العبادة لا تحقّ لمّا كان بصفة الزهرة، والقمر، والشمس، وإنّما تحقّ العبادة لخالقها وخالق السموات والأرض.
وكان ما احتجّ به علي قومه ممّا ألهمه اللّه تعالي وآتاه، كما قال اللّه عزّوجلّ: ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَهَآ إِبْرَهِيمَ عَلَي قَوْمِهِ ي ) .
( الأنعام: 83/6. )
فقال المأمون: للّه درّك، يا ابن رسول اللّه! فأخبرني عن قول إبراهيم ( عليه السلام ) :
( رَبِ ّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَي قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَي وَلَكِن لِّيَطْمَل-ِنَّ قَلْبِي ) قال الرضا ( عليه السلام ) : إنّ اللّه تبارك وتعالي كان أوحي إلي إ براهيم ( عليه السلام ) : إنّي متّخذ من عبادي خليلاً، إن سألني إحياء الموتي أجبته، فوقع في نفس إبراهيم: أنّه ذلك الخليل فقال: ( رَبِ ّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَي قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَي وَلَكِن لِّيَطْمَل-ِنَّ قَلْبِي ) علي الخلقة.
قال: ( قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَي كُلِ ّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) فأخذ ( البقرة: 260/2. )
إبراهيم ( عليه السلام ) نسراً وطاووساً، وبطّاً وديكاً، فقطّعهنّ وخلّطهنّ، ثمّ جعل علي كلّ جبل من الجبل التي حوله - وكانت عشرة - منهنّ جزء، وجعل مناقيرهنّ بين أصابعه، ثمّ دعاهنّ بأسمائهنّ، ووضع عنده حبّاً وماءً، فتطايرت تلك الأجزاء بعضها إلي بعض، حتّي استوت الأبدان، وجاء كلّ بدن حتّي انضمّ رقبته ورأسه، فخلّي إبراهيم ( عليه السلام ) عن مناقيرهنّ، فَطِرنَ، ثمّ وَقَْعنَ فشربن من ذلك الماء، والتقطن من ذلك الحبّ وقلن: يا نبيّ اللّه! أحييتنا أحياك اللّه.
فقال إبراهيم: بل اللّه يحيي ويميت، وهو علي كلّ شي ء قدير.
قال المأمون: بارك اللّه فيك يا أبا الحسن! فأخبرني عن قول اللّه عزّوجلّ:
( فَوَكَزَهُ و مُوسَي فَقَضَي عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَنِ )
قال الرضا ( عليه السلام ) : إنّ موسي ( عليه السلام ) دخل مدينة من مدائن فرعون علي حين غفلة من أهلها، وذلك بين المغرب والعشاء ( فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ ي وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ ي فَاسْتَغَثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ ي عَلَي الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ي ) ، فقضي موسي علي العدوّ، وبحكم اللّه تعالي ذكره ( فَوَكَزَهُ و ) فمات، ( قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَنِ ) يعني الاقتتال الذي كان وقع بين الرجلين، لامافعله موسي ( عليه السلام ) من قتله، ( إِنَّهُ و) يعني الشيطان ( عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ) .
( القصص: 15/28. )
فقال المأمون: فما معني قول موسي ( رَبِ ّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ) ؟
قال: يقول: إنّي وضعت نفسي غير موضعها بدخولي هذه المدينة ( فَاغْفِرْ لِي ) أي استرني من أعدائك لئلّا يظفروا بي فيقتلوني، ( فَغَفَرَ لَهُ و إِنَّهُ و هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .
قال موسي ( عليه السلام ) : ( رَبِ ّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَ ) من القوّة حتّي قتلت رجلاً بوكزة، ( فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ ) ؛ بل أجاهد في سبيلك بهذه القوّة حتّي ترضي، ( فَأَصْبَحَ ) موسي ( عليه السلام ) في المدينة ( خَآلِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ و بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ و) علي آخر، ( قَالَ لَهُ و مُوسَي إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ ) قاتلت رجلاً بالأمس وتقاتل هذا اليوم لأوذينّك، وأراد أن يبطش به، ( فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا) وهو من شيعته، ( قَالَ يَمُوسَي أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسَام بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّآ أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ) .
( القصص: 15/28 - 19. )
قال المأمون: جزاك اللّه عن أنبيائه خيراً، يا أبا الحسن! فما معني قول موسي لفرعون: ( فَعَلْتُهَآ إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّآلِّينَ )
قال الرضا ( عليه السلام ) : إنّ فرعون قال لموسي لمّا أتاه: ( وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَفِرِينَ ) عن الطريق، بوقوعي إلي مدينة من مدائنك، ( فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ ال ْمُرْسَلِينَ )
( الشعراء: 19/21. )
وقد قال اللّه عزّوجلّ لنبيّه محمّد ( صلي الله عليه وآله وسلم ) : ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فََاوَي ) ، يقول: ألم يجدك وحيداً فآوي إليك الناس ( وَوَجَدَكَ ضَآلًّا) يعني عند قومك ( فَهَدَي ) أي هديهم إلي معرفتك، ( وَوَجَدَكَ عَآلِلاً فَأَغْنَي ) ، يقول: أغناك بأن جعل دعاءك مستجاباً.
( الضحي: 6/93 - 8. )
قال المأمون: بارك اللّه فيك، يا ابن رسول اللّه! فما معني قول اللّه عزّوجلّ: ( وَلَمَّا جَآءَ مُوسَي لِمِيقَتِنَا وَكَلَّمَهُ و رَبُّهُ و قَالَ رَبِ ّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَلنِي ) ،كيف يجوز أن يكون كلّم اللّه موسي بن عمران ) ( عليه السلام ) الأعراف: 143/7. )
لايعلم أنّ اللّه تبارك وتعالي ذكره لايجوز عليه الرؤية حتّي يسأله هذا السؤال؟
فقال الرضا ( عليه السلام ) : إنّ كليم اللّه موسي بن عمران ( عليه السلام ) ، علم أنّ اللّه تعالي أعزّ أن يُري بالأبصار، ولكنّه لمّا كلّمه اللّه عزّوجلّ، وقرّبه نجيّاً، رجع إلي قومه، فأخبرهم: أنّ اللّه عزّوجلّ كلّمه وقرّبه وناجاه، فقالوا: ( لَن نُّؤْمِنَ لَكَ ) حتّي نستمع كلامه كما سمعت، وكان القوم سبعمائة ألف رجل، فاختار منهم سبعين ألفاً، ثمّ اختار منهم سبعة آلاف، ثمّ اختار منهم سبعمائة، ثمّ اختار منهم سبعين رجلاً لميقات ربّهم، فخرج بهم إلي طور سيناء، فأقامهم في سفح الجبل، وصعد موسي إلي الطور، وسأل اللّه تعالي أن يكلّمه ويُسمعهم كلامه.
فكلّمه اللّه تعالي ذكره، وسمعوا كلامه من فوق وأسفل، ويمين وشمال، ووراء وأمام، لأنّ اللّه عزّوجلّ أحدثه في الشجرة، وجعله منبعثاً منها حتّي سمعوه من جميع الوجوه فقالوا: ( لَن نُّؤْمِنَ لَكَ ) بأنّ هذا الذي سمعناه كلام اللّه: ( حَتَّي نَرَي اللَّهَ جَهْرَةً) ، فلمّا قالوا هذا القول العظيم، ( البقرة: 55/2. )
واستكبروا وعتوا، بعث اللّه عزّوجلّ عليهم صاعقة، فأخذتهم بظلمهم فماتوا.
فقال موسي: يا ربّ! ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وقالوا: إنّك ذهبت بهم فقتلتهم؟! لأنّك لم تكن صادقاً فيما ادّعيت من مناجاة اللّه عزّوجلّ إيّاك، فأحياهم اللّه وبعثهم معه فقالوا: إنّك لو سألت اللّه أن يريك تنظر إليه لأجابك، وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حقّ معرفته.
فقال موسي: يا قوم! إنّ اللّه تعالي لا يُري بالأبصار، ولا كيفيّة له، وإنّما يُعرف بآياته، ويُعلم بأعلامه.
فقالوا: ( لَن نُّؤْمِنَ لَكَ ) حتّي تسأله.
فقال موسي: يا ربّ! إنّك قد سمعت مقالة بني إسرائيل، وأنت أعلم بصلاحهم، فأوحي اللّه جلّ جلاله: يا موسي! سلني ما سألوك، فلن أؤاخذك بجهلهم، فعند ذلك قال موسي ( عليه السلام ) : ( رَبِ ّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَلنِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَي الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ و ) وهو يهوي ( فَسَوْفَ تَرَلنِي فَلَمَّا تَجَلَّي رَبُّهُ و لِلْجَبَلِ ) بآية من آياته ( جَعَلَهُ و دَكًّا وَخَرَّ مُوسَي صَعِقًا فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَنَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ ) ،يقول: رجعت إلي معرفتي بك عن جهل قومي، ( وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) منهم بأنّك لا تُري.
( الأعراف: 143/7. )
فقال المأمون: للّه درّك، يا أبا الحسن! فأخبرني عن قول اللّه عزّوجلّ: ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ي وَهَمَّ بِهَا لَوْلَآ أَن رَّءَا بُرْهَنَ رَبِّهِ ي ) .
( يوسف: 24/12. )
فقال الرضا ( عليه السلام ) : لقد همّت به، ولولا أن رأي برهان ربّه لهم بها كما همّت، لكنّه كان معصوماً، والمعصوم لا يهمّ بذنب ولا يأتيه؛
ولقد حدّثني أبي، عن أبيه الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال: همّت بأن تفعل، وهمّ بأن لايفعل.
فقال المأمون: للّه درّك، يا أبا الحسن! فأخبرني عن قول اللّه عزّوجلّ: ( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ )
فقال الرضا ( عليه السلام ) : ذاك يونس بن متي ( عليه السلام ) ذهب مغاضباً لقومه، ( فَظَنَ ) بمعني استيقن ( أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ) أي لن نضيق رزقه، ومنه قوله عزّوجلّ: ( وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلَل-هُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ و) ( الفجر:16/89. )
أي ضيّق وقَتَر ( فَنَادَي فِي الظُّلُمَتِ ) أي ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، ( أَن لَّآ إِلَهَ إِلَّآ أَنتَ سُبْحَنَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّلِمِينَ ) بتركي مثل هذه العبادة التي قد فرغتني لها في بطن الحوت، ( الأنبياء: 87/21. )
فاستجاب اللّه له، وقال عزّوجلّ: ( فَلَوْلَآ أَنَّهُ و كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ ي إِلَي يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) .
( الصافّات: 143/37 - 144. )
فقال المأمون: للّه درّك، يا أبا الحسن ( عليه السلام ) ! فأخبرني عن قول اللّه عزّوجلّ: ( حَتَّي إِذَا اسْتَيَْسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا )
( يوسف: 110/12. )
قال الرضا ( عليه السلام ) : يقول اللّه عزّوجلّ: ( حَتَّي إِذَا اسْتَيَْسَ الرُّسُلُ ) من قومهم، وظنّ قومهم أنّ الرسل قد كذبوا، جاء الرسل نصرنا.
فقال المأمون: للّه درّك، يا أبا الحسن! فأخبرني قول اللّه عزّوجلّ: ( لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَم نبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) .
( الفتح: 2/48. )
قال الرضا ( عليه السلام ) : لم يكن أحد عند مشركي أهل مكّة أعظم ذنباً من رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) ، لأنّهم كانوا يعبدون من دون اللّه ثلاثمائة وستّين صنماً، فلمّإ؛خ ح پاااااااااف ب جاءهم ( صلي الله عليه وآله وسلم ) بالدعوة إلي كلمة الإخلاص، كبر ذلك عليهم وعظم، وقالوا: ( أَجَعَلَ الْأَلِهَةَ إِلَهًا وَحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْ ءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ وَاصْبِرُواْ عَلَي ءَالِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْ ءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْأَخِرَةِ إِنْ هَذَآ إِلَّا اخْتِلَقٌ ) ، فلمّا فتح اللّه عزّوجلّ علي نبيّه ) ( صلي الله عليه وآله وسلم ) ص: 5/38 - 7. )
مكّة، قال له يا محمّد: ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ مكّة فَتْحًا مُّبِينًا * لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَم نبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) عند مشركي أهل مكّة بدعائك إلي توحيد ( الفتح: 1 - 2. )
اللّه، فيما تقدّم وماتأخّر، لأنّ مشركي مكّة أسلم بعضهم، وخرج بعضهم عن مكّة، ومن بقي منهم لم يقدر علي إنكار التوحيد عليه، إذا دعا الناس إليه، فصار ذنبه عندهم ذلك مغفوراً بظهوره عليهم.
قال: صدقت، يا ابن رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) ! فأخبرني عن قول اللّه عزّوجلّ: ( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَي النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَل-هُ ) ؟
( الأحزاب: 37/33. )
قال الرضا ( عليه السلام ) : إنّ رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) قصد دار زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبيّ في أمر أراده، فرأي امرأته تغتسل، فقال لها: سبحان الذي خلقك! وإنّما أراد بذلك تنزيه الباري عزّوجلّ، عن قول من زعم أنّ الملائكة بنات اللّه، فقال اللّه عزّوجلّ: ( أَفَأَصْفَل-كُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَل-ِكَةِ إِنَثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا) ، فقال النبيّ ( صلي الله عليه وآله وسلم ) لمّا رآها تغتسل: ( الاسراء: 40/17. )
سبحان الذي خلقك أن يتّخذ له ولداً يحتاج إلي هذا التطهير والاغتسال، فلمّا عاد زيد إلي منزله، أخبرته امرأته بمجي ء رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) ، وقوله لها: سبحان الذي خلقك! فلم يعلم زيد ما أراد بذلك، وظنّ أنّه قال ذلك لما أعجبه من حسنها، فجاء إلي النبي ( صلي الله عليه وآله وسلم ) وقال له: يا رسول اللّه! إنّ امرأتي في خُلقها سوء، وإنّي أُريد طلاقها؟
فقال النبيّ ( صلي الله عليه وآله وسلم ) : أمسك عليك زوجك، واتّق اللّه، وقد كان اللّه عزّوجلّ عرّفه عدد أزواجه، وإنّ تلك المرأة منهنّ، فأخفي ذلك في نفسه ولم يبده لزيد، وخشي الناس أن يقولوا: إنّ محمّداً يقول لمولاه: إنّ امرأتك ستكون لي زوجة، يعيبونه بذلك، فأنزل اللّه عزّوجلّ: ( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ ) يعني بالإسلام، ( وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ ) يعني بالعتق، ( أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَي النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَل-هُ ) ، ثمّ إنّ زيد بن حارثة طلّقها واعتدّت منه، فزوّجها اللّه عزّوجلّ من نبيّه محمّد ( صلي الله عليه وآله وسلم ) ، وأنزل بذلك قرآناً، فقال عزّوجلّ: ( فَلَمَّا قَضَي زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَكَهَا لِكَيْ لَايَكُونَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَجِ أَدْعِيَآلِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) ، ثمّ علم اللّه عزّوجلّ أنّ المنافقين سيعيبونه بتزويجها، فأنزل اللّه تعالي: ( مَّا كَانَ عَلَي النَّبِيِ ّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ و ) .
( الأحزاب: 37/33 - 38. )
فقال المأمون: لقد شفيت صدري يا ابن رسول اللّه! وأوضحت لي ما كان ملتبساً عليّ، فجزاك اللّه عن أنبيائه وعن الإسلام خيراً.
قال عليّ بن محمّد بن الجهم: فقام المأمون إلي صلاة، وأخذ بيد محمّد بن جعفر بن محمّد ( عليهماالسلام ) وكان حاضر المجلس وتبعتهما.
فقال له المأمون: كيف رأيت ابن أخيك؟ فقال له: عالم، ولم نره يختلف إلي أحد من أهل العلم.
فقال المأمون: إنّ ابن أخيك من أهل بيت النبيّ الذين قال فيهم النبيّ ( صلي الله عليه وآله وسلم ) : ألا إنّ أبرار عترتي، وأطائب أرومتي، أحلم الناس صغاراً، وأعلم الناس كباراً، فلا تعلّموهم، فإنّهم أعلم منكم، لا يخرجونكم من باب هدي، ولا يدخلونكم في باب ضلالة.
وانصرف الرضا ( عليه السلام ) إلي منزله، فلمّا كان من الغد غدوت عليه، وأعلمته ما كان من قول المأمون، وجواب عمّه محمّد بن جعفر له، فضحك ( عليه السلام ) ثمّ قال: ياابن الجهم! لا يغرّنّك ما سمعته منه، فإنّه سيغتالني، واللّه تعالي ينتقم لي منه.
( عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : 195/1 ح 1. عنه في البحار: 252/11 ح 3، و335/12 س 6، و387/14 ح 7، و142/16 ح 5، و89/17 ح 20، و179/49 ح 15، ومستدرك الوسائل: 78/16 ح 19203، ونور الثقلين: 59/1 ح 110، و275 ح 1088، و328 ح 98، و735 ح 146، و11/2 ح 34، و64 ح 248، و107 ح 397، و419 ح 42، و479 ح 251، و167/3 ح 219، و197 ح 360، و403 ح 160، و449 ح 137، و48/4 ح 16، و119 ح 32، و281 ح 130، و443 ح 8، و497 ح 100، و56/5 ح 18، و596 ح 18، وإثبات الهداة: 480/1 ح 136، والبرهان: 100/1 ح 2، و249 ح 2، و531 ح 1، و434/2 ح 1، و46/3 ح 2، و183 ح 1، و223 س 29، و325 ح 1، و326 ح 1، و41/4 ح 5، و83 ح 5، و193 ح 2، والأنوار البهيّة: 219 س 2، والفصول المهمّة للحرّ العاملي: 442/1 ح 618، قِطَعٌ منه.
الإحتجاج: 423 ح 308، مرسلاً. عنه وعن العيون، البحار: 78/11 ح 8، وقِطَعٌ منه في: 32/13 ح 6، و164 ح 8، و216/22 ح 50، وإثبات الهداة: 257/3 ح 31.
التوحيد: 74 ح 28، و121 ح 24، و132 ح 14، قِطَعٌ منه. عنه وعن العيون والإحتجاج، البحار: 63/12 ح 10، و217/13 ح 11، ونور الثقلين: 573/5 ح 15، قِطَعٌ منه.
قطعة منه في (أولادآدم ( عليه السلام ) من حوّاء) و(سورة البقرة: 260/2) و(سورة الأنعام: 76/6 - 79 و83) و(سورة الأعراف: 7/ 19 - 22، و143 و189 - 190) و(سورة التوبة: 43/9) و(سورة يوسف: 24/12 و110) و( طه: 121/20) و(سورة الشعراء: 19/26 - 21) و(سورة القصص: 15/28 - 19) و(سورة الأحزاب: 37/33 - 38) و(سورة الصافّات: 143/37 - 144) و(سورة الفتح: 1/48 - 2) و(سورة الضحي: 6/93 - 8) و(ما رواه من الأحاديث القدسيّة) و(ما رواه عن إبراهيم ( عليه السلام ) ) و(ما رواه عن موسي ( عليه السلام ) ) و(ما رواه عن رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) ) و(ما رواه عن الصادق ( عليه السلام ) ). )

قال مصنّف هذا الكتاب: هذا الحديث غريب من طريق عليّ بن محمّد بن الجهم مع نصبه وبغضه، وعداوته لأهل البيت ( عليهم السلام ) : .

- احتجاجه ( عليه السلام ) علي المأمون في النسب:
1 - السيّد المرتضي ؛ : حدّثني الشيخ (أي المفيد) أدام اللّه عزّه: روي أنّه لمّا سار المأمون إلي خراسان، وكان معه الرضا عليّ بن موسي ( عليهماالسلام ) ، فبيناهما يسيران إذ قال له المأمون: يا أبا الحسن! إنّي فكّرت في شي ء ففتح ( في الكنز: فسخ، والبحار: فنتج. )
لي الفكر الصواب فيه، فكّرت في أمرنا وأمركم، ونسبنا ونسبكم، فوجدت الفضيلة فيه واحدة، ورأيت اختلاف شيعتنا في ذلك محمولاً علي الهوي والعصبيّة.
فقال له أبو الحسن الرضا ( عليه السلام ) : إنّ لهذا الكلام جواباً، فإن شئت ذكرته لك، وإن شئت أمسكت.
فقال له المأمون: إنّي لم أقله إلّا لأعلم ما عندك فيه.
قال له الرضا ( عليه السلام ) : أُنشدك اللّه يا أمير المؤمنين! لو أنّ اللّه بعث نبيّه محمّداً، فخرج علينا من وراء أكمة من هذه الآكام، فخطب إليك ابنتك، أكنت ( الأكمة: تَلّ، وقيل: شُرفَة كالرابية، وهوما اجتمع من الحجارة في مكان واحد. المصباح المنير: 18. )
تزوّجه إيّاها؟
فقال: يا سبحان اللّه! وهل أحد يرغب عن رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) ؟
فقال له الرضا ( عليه السلام ) : أفتراه يحلّ له أن يخطب إليّ؟
( في الكنز: ابنتي. )
قال: فسكت المأمون هُنَيئة، ثمّ قال: أنتم واللّه! أمسّ برسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) رحماً.
( الفصول المختارة: 37 س 1. عنه البحار: 349/10 ح 9، و187/49 ح 19.
كنز الفوائد: 166 س 6. عنه البحار: 242/25 ح 24، و243/93 ح 11. )


- احتجاجه ( عليه السلام ) علي المأمون في الفرق بين العترة والأُمّة:
1 - الشيخ الصدوق ؛ : حدّثنا عليّ بن الحسين بن شاذويه المؤدّب، وجعفر بن محمّد بن مسرور رضي اللّه عنهما قالا: حدّثنا محمّد بن عبد اللّه بن جعفر الحميريّ، عن أبيه، عن الريّان بن الصلت قال: حضر الرضا ( عليه السلام ) مجلس المأمون بمرو، وقد اجتمع في مجلسه جماعة من علماء أهل العراق وخراسان، فقال المأمون: أخبروني عن معني هذه الآية: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَبَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) .
فقالت العلماء: أراد اللّه عزّوجلّ بذلك الأُمّة كلّها.
فقال المأمون: ما تقول يا أبا الحسن؟
فقال الرضا ( عليه السلام ) : لا أقول كما قالوا، ولكنّي أقول: أراد اللّه عزّوجلّ بذلك العترة الطاهرة.
فقال المأمون: وكيف عني العترة من دون الأُمّه؟
فقال له الرضا ( عليه السلام ) : إنّه لو أراد الأُمّة لكانت أجمعها في الجنّة، لقول اللّه عزّوجلّ: ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ي وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقُ م بِالْخَيْرَتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) ، ثمّ جمعهم كلّهم في الجنّة! فقال عزّوجلّ: ( جَنَّتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ ) الآية، فصارت الوراثة للعترة الطاهرة لا لغيرهم.
( فاطر: 32/35 - 33. )
فقال المأمون: مَنِ العترة الطاهرة؟
فقال الرضا ( عليه السلام ) : الذين وصفهم اللّه في كتابه فقال عزّوجلّ: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) ، وهم ( الأحزاب: 33/33. )
الذين قال رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) : إنّي مخلف فيكم الثقلين، كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، ألاوإنّهما لن يفترقا حتّي يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني ( في المصدر: فانظروا كيف تخلفون. والصحيح ما أثبتناه. )
فيهما، أيّها الناس لا تعلّموهم، فإنّهم أعلم منكم.
قالت العلماء: أخبرنا يا أبا الحسن! عن العترة، أهم الآل، أم غير الآل؟
فقال الرضا ( عليه السلام ) : هم الآل.
فقالت العلماء: فهذا رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) يُؤثر عنه، أنّه قال: «أُمّتي آلي»، وهؤلاء أصحابه يقولون بالخبر المستفاض الذي لايمكن دفعه: آل محمّ ( عليهم السلام ) : أُمّته.
فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : أخبروني، فهل تحرم الصدقة علي الآل؟ فقالوا: نعم.
قال: فتحرم علي الأُمّة؟ قالوا: لا، قال: هذا فرق بين الآل والأُمّة، وَيْحَكُمْ! أين يذهب بكم؟ أضربتم عن الذكر صفحاً أم أنتم قوم مسرفون؟ أما علمتم أنّه ( اقتباس من الآية الشريفة في سورة الزخرف: 5/43. )
وقعت الوراثة والطهارة علي المصطفين المهتدين دون سائرهم؟
قالوا: ومن أين يا أبا الحسن؟
فقال ( عليه السلام ) : من قول اللّه عزّوجلّ: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَبَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَسِقُونَ ) ، فصارت وراثة النبوّة والكتاب للمهتدين دون الفاسقين، أما علمتم أنّ نوحاً ( الحديد: 26/57. )
حين سأل ربّه عزّوجلّ: ( فَقَالَ رَبِ ّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَكِمِينَ ) ، وذلك أنّ اللّه عزّوجلّ وعده أن ينجيه وأهله ( هود: 45/11. )
فقال ربّه عزّوجلّ: ( يَنُوحُ إِنَّهُ و لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ و عَمَلٌ غَيْرُ صَلِحٍ فَلَاتَسَْلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ ي عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَهِلِينَ ) ؟.
( هود: 46/11. )
فقال المأمون: هل فضّل اللّه العترة علي سائر الناس؟
فقال أبو الحسن: إنّ اللّه عزّوجلّ أبان فضل العترة علي سائر الناس في محكم كتابه.
فقال له المأمون: وأين ذلك من كتاب اللّه؟
فقال له الرضا ( عليه السلام ) : في قول اللّه عزّوجلّ: ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَي ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَهِيمَ وَءَالَ عِمْرَنَ عَلَي الْعَلَمِينَ * ذُرِّيَّةَم بَعْضُهَا مِن م بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ، وقال عزّوجلّ في موضع آخر: ( أَمْ ( آل عمران: 33/3 - 34. )
يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَي مَآ ءَاتَل-هُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ي فَقَدْ ءَاتَيْنَآ ءَالَ إِبْرَهِيمَ الْكِتَبَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَهُم مُّلْكًا عَظِيمًا) ، ثمّ ردّ المخاطبة في أثر هذه إلي سائر ( النساء: 54/4. )
المؤمنين فقال: ( يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِ نكُمْ ) ، يعني الذي قرنهم بالكتاب والحكمة وحسدوا عليهما، ( النساء: 59/4. )
فقوله عزّوجلّ: ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَي مَآ ءَاتَل-هُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ي فَقَدْ ءَاتَيْنَآ ءَالَ إِبْرَهِيمَ الْكِتَبَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَهُم مُّلْكًا عَظِيمًا) يعني الطاعة للمصطفين الطاهرين، فالملك هيهنا هو الطاعة لهم.
فقالت العلماء: فأخبرنا هل فسّر اللّه عزّوجلّ الاصطفاء في الكتاب؟
فقال الرضا ( عليه السلام ) : فسّر الاصطفاء في الظاهر سوي الباطن في اثني عشر موطناً وموضعاً:
فأوّل ذلك: قوله عزّوجلّ: ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) ( الشعراء: 214/26. )
ورهطك المخلصين، - هكذا في قراءة أُبيّ بن كعب، وهي ثابتة في مصحف عبد اللّه بن مسعود - وهذه منزلة رفيعة، وفضل عظيم، وشرف عال حين عني اللّه عزّوجلّ بذلك الآل، فذكره لرسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) ، فهذه واحدة.
والآية الثانية: في الاصطفاء، قوله عزّوجلّ: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) ، وهذا الفضل الذي لا ( الأحزاب: 33/33. )
يجهله أحد إلاّ معاند ضالّ، لأنّه فضل بعد طهارة تنتظر، فهذه الثانية.
وأمّا الثالثة: فحين ميّز اللّه الطاهرين من خلقه، فأمر نبيّه بالمباهلة بهم في آية الابتهال، فقال عزّوجلّ: يا محمّد! ( فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن م بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَي الْكَذِبِينَ ) ، فبرز النبيّ ( صلي الله عليه وآله وسلم ) ( آل عمران: 61/3. )
عليّاً والحسن والحسين وفاطمة صلوات اللّه عليهم، وقرن أنفسهم بنفسه، فهل تدرون مامعني قوله: ( وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ) ؟
قالت العلماء: عني به نفسه.
فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : لقد غلطتم، إنّما عني بها عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وممّا يدلّ علي ذلك قول النبيّ ( صلي الله عليه وآله وسلم ) ، حين قال: لينتهينّ بنو وليعة، أو لأبعثنّ إليهم رجلاً كنفسي، يعني عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وعني بالأبناء الحسن والحسين ( عليهماالسلام ) ، وعني بالنساء فاطمة ( عليها السلام ) ، فهذه خصوصيّة لايتقدّمهم فيها أحد، وفضل لايلحقهم فيه بشر، وشرف لايسبقهم إليه خلق، إذ جعل نفس عليّ ( عليه السلام ) كنفسه، فهذه الثالثة.
وأمّا الرابعة: فإخراجه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) الناس من مسجده ماخلا العترة، حتّي تكلّم الناس في ذلك، وتكلّم العبّاس فقال: يا رسول اللّه! تركت عليّاً وأخرجتنا؟
فقال رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) : ما أنا تركته وأخرجتكم، ولكنّ اللّه عزّوجلّ تركه وأخرجكم، وفي هذا تبيان قوله ( صلي الله عليه وآله وسلم ) لعليّ ( عليه السلام ) : أنت منّي بمنزلة هارون من موسي.
قالت العلماء: وأين هذا من القرآن؟
قال أبو الحسن ( عليه السلام ) : أوجدكم في ذلك قرآناً وأقرأه عليكم؟
قالوا: هات.
قال ( عليه السلام ) : قول اللّه عزّوجلّ: ( وَأَوْحَيْنَآ إِلَي مُوسَي وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) ، ففي هذه الآية ( يونس: 87/10. )
منزلة هارون من موسي، وفيها أيضاً منزلة عليّ ( عليه السلام ) من رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) ، ومع هذا دليل واضح في قول رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) حين قال: ألا إنّ هذا المسجد لايحلّ لجنب إلّا لمحمّد ( صلي الله عليه وآله وسلم ) وآله.
قالت العلماء: يا أبا الحسن! هذا الشرح والبيان لايوجد إلّا عندكم معاشر أهل بيت رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) .
فقال ( عليه السلام ) : ومن ينكر لنا ذلك! ورسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) يقول: أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها؟ ففيما أوضحنا وشرحنا من الفضل والشرف، والتقدمة، والاصطفاء والطهارة مالاينكره إلّا معاند، وللّه عزّوجلّ الحمد علي ذلك، فهذه الرابعة.
والآية الخامسة: قول اللّه عزّوجلّ: ( وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَي حَقَّهُ و ) ( الإسراء: 26/17. )
خصوصيّة خصّهم اللّه العزيز الجبّار بها، واصطفاهم علي الأُمّة، فلمّا نزلت هذه الآية علي رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) قال: ادعوا لي فاطمة، فدعيت له فقال: يا فاطمة!
قالت ( عليها السلام ) : لبّيك، يا رسول اللّه!
فقال ( صلي الله عليه وآله وسلم ) : هذه فدك ممّا هي لم يوجف عليه بالخيل ولا ركاب، وهي لي خاصّة دون المسلمين، وقد جعلتها لك لما أمرني اللّه تعالي به، فخذيها لك ولولدك، فهذه الخامسة.
والآية السادسة: قول اللّه عزّوجلّ: ( قُل لَّآ أَسَْلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي ) ، وهذه خصوصيّة للنبيّ ( صلي الله عليه وآله وسلم ) إلي يوم القيامة، ( الشوري: 23/42. )
وخصوصيّة للآل دون غيرهم، وذلك أنّ اللّه عزّوجلّ حكي في ذكر نوح في كتابه: ( وَيَقَوْمِ لَآأَسَْلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَي اللَّهِ وَمَآ أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّهُم مُّلَقُواْ رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَلكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ) وحكي عزّوجلّ ( هود: 29/11. )
عن هود ( عليه السلام ) ، أنّه قال ( عليهم السلام ) ( يَقَوْمِ لَآأَسَْلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَي الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَاتَعْقِلُونَ ) ، وقال عزّوجلّ لنبيّه محمّد ( صلي الله عليه وآله وسلم ) :
( هود: 51/11. )
( قُل يا محمّد! لَّآ أَسَْلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي ) ، ولم يفرض اللّه تعالي مودّتهم إلّا وقد علم أنّهم لا يرتدّون عن الدين أبداً، ولا يرجعون إلي ضلال أبداً، وأُخري أن يكون الرجل وادّاً للرجل، فيكون بعض أهل بيته عدوّاً له، فلايسلم له قلب الرجل، فأحبّ اللّه عزّوجلّ أن لا يكون في قلب رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) علي المؤمنين شي ء، ففرض عليهم اللّه مودّة ذوي القربي، فمن أخذ بها، وأحبّ رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) ، وأحبّ أهل بيته، لم يستطع رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) أن يبغضه، ومن تركها، ولم يأخذ بها، وأبغض أهل بيته، فعلي رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) أن يبغضه، لأنّه قد ترك فريضة من فرائض اللّه عزّوجلّ، فأيّ فضيلة، وأيّ شرف يتقدّم هذا أويدانيه، فأنزل اللّه عزّوجلّ هذه الآية علي نبيّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) ( قُل لَّآ أَسَْلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي ) ، فقام رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) في أصحابه فحمد اللّه، وأثني عليه وقال: يا أيّها الناس! إنّ اللّه عزّوجلّ قد فرض لي عليكم فرضاً، فهل أنتم مؤدّوه؟ فلم يجبه أحد، فقال: يا أيّها الناس! إنّه ليس من فضة ولاذهب، ولا مأكول ولا مشروب.
فقالوا: هات إذاً، فتلا عليهم هذه الآية.
فقالوا: أمّا هذه فنعم، فما وفي بها أكثرهم، ومابعث اللّه عزّوجلّ نبيّاً إلّا أوحي إليه أن لا يسأل قومه أجراً، لأنّ اللّه عزّوجلّ يوفيه أجر الأنبياء، ومحمّد ( صلي الله عليه وآله وسلم ) فرض اللّه عزّوجلّ طاعته، ومودّة قرابته علي أُمّته، وأمره أن يجعل أجره فيهم ليؤدّوه في قرابته، بمعرفة فضلهم الذي أوجب اللّه عزّوجلّ لهم، فإنّ المودّة إنّما تكون علي قدر معرفة الفضل، فلمّا أوجب اللّه تعالي ذلك، ثقل ذلك، لثقل وجوب الطاعة، فتمسّك بها قوم قد أخذ اللّه ميثاقهم علي الوفاء، وعاند أهل الشقاق والنفاق، وألحدوا في ذلك، فصرفوه عن حدّه الذي حدّه اللّه عزّوجلّ.
فقالوا: القرابة هم العرب كلّها وأهل دعوته، فعلي أيّ الحالتين كان، فقد علمنا أنّ المودّة هي للقرابة، فأقربهم من النبيّ ( صلي الله عليه وآله وسلم ) أولاهم بالمودّة.
وكلّما قربت القرابة كانت المودّة علي قدرها، وماأنصفوا نبيّ اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) في حيطته ورأفته، وما منّ اللّه به علي أُمّته ممّا تعجز الألسن عن وصف الشكر عليه، أن لا يؤذوه في ذرّيّته وأهل بيته، وأن يجعلوهم فيهم بمنزلة العين من الرأس، حفظاً لرسول اللّه فيهم، وحبّاً لهم، فكيف والقرآن ينطق به، ويدعو إليه، والأخبار ثابتة بأنّهم أهل المودّة، والذين فرض اللّه تعالي مودّتهم، ووعد الجزاء عليها، فما وفي أحد بها؛
فهذه المودّة لا يأتي بها أحد مؤمناً مخلصاً إلّا استوجب الجنّة، لقول اللّه عزّوجلّ في هذه الآية: ( وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ قُل لَّآ أَسَْلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي ) ، مفسّراً ومبيّناً؛
( الشوري: 22/42. )
ثمّ قال أبو الحسن ( عليه السلام ) : حدّثني أبي، عن جدّي، عن آبائه، عن الحسين بن عليّ ( عليهم السلام ) : قال: اجتمع المهاجرون والأنصار إلي رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) فقالوا: إنّ لك يا رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) ! مؤونة في نفقتك، وفيمن يأتيك من الوفود، وهذه أموالنا مع دمائنا، فاحكم فيها بارّاً مأجوراً، أعط ما شئت، وأمسك ما شئت من غير حرج.
قال: فأنزل اللّه عزّوجلّ عليه الروح الأمين فقال: يا محمّد! ( قُل لَّآ أَسَْلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي ) يعني أن تودّوا قرابتي من بعدي، فخرجوا. فقال المنافقون: ما حمل رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) علي ترك ما عرضنا عليه إلّا ليحثّنا علي قرابته من بعده، إن هو إلّا شي ء افتراه في مجلسه، وكان ذلك من قولهم عظيماً، فأنزل اللّه عزّوجلّ هذه الآية: ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَلهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ و فَلَاتَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيًْا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَي بِهِ ي شَهِيدَم ا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ، فبعث عليهم النبيّ ) ( صلي الله عليه وآله وسلم ) الأحقاف: 8/46. )
فقال: هل من حدث؟ فقالوا: إي واللّه يا رسول اللّه! لقد قال بعضنا كلاماً غليظاً كرهناه، فتلا عليهم رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) الآية، فبكوا واشتدّ بكاؤهم، فأنزل عزّوجلّ: ( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ي وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيَِّاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) ، فهذه السادسه.
( الشوري: 25/42. )
وأمّا الآية السابعة: فقول اللّه عزّوجلّ: ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَل-ِكَتَهُ و يُصَلُّونَ عَلَي النَّبِيِ ّ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) ، قالوا: ( الأحزاب: 56/33. )
يارسول اللّه! قد عرفنا التسليم فكيف الصلاة عليك؟
فقال ( صلي الله عليه وآله وسلم ) : تقولون: اللّهمّ صلّ علي محمّد وآل محمّد، كما صلّيت علي إبراهيم وعلي آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد، فهل بينكم معاشر الناس في هذا خلاف؟
فقالوا: لا.
فقال المأمون: هذا ممّا لا خلاف فيه أصلاً، وعليه إجماع الأُمّة، فهل عندك في الآل شي ء أوضح من هذا في القرآن؟
فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : نعم، أخبروني عن قول اللّه عزّوجلّ: ( يس*وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَي صِرَطٍ مُّ سْتَقِيمٍ ) ،
( يس: 1/36 - 4. )
فمن عني بقوله: ( يس ) ؟ قالت العلماء: ( يس ) مح مّد ( صلي الله عليه وآله وسلم ) لم يشكّ فيه أحد.
قال أبو الحسن ( عليه السلام ) : فإنّ اللّه عزّوجلّ أعطي محمّداً وآل محمّد من ذلك فضلاً لا يبلغ أحد كنه وصفه إلّا من عقله، وذلك أنّ اللّه عزّوجلّ لم يُسلّم علي أحد إلّا علي الأنبياء صلوات اللّه عليهم، فقال تبارك وتعالي: ( سَلَمٌ عَلَي نُوحٍ فِي الْعَلَمِينَ ) وقال: ( سَلَمٌ عَلَي إِبْرَهِيمَ ) وقال: ( الصافّات: 79/37. )
( الصافّات: 109/37. )
( سَلَمٌ عَلَي مُوسَي وَهَرُونَ ) ولم يقل: سلام علي آل نوح، ولم ( الصافّات: 120/37. )
يقل: سلام علي آل إبراهيم، ولاقال: سلام علي آل موسي وهارون، وقال عزّوجلّ: ( سَلَمٌ عَلَي إِلْ يَاسِينَ ) يعني آل محمّد صلوات ( الصافّات: 130/37. )
اللّه عليهم.
فقال المأمون: لقد علمت أنّ في معدن النبوّة شرح هذا وبيانه، فهذه السابعة.
وأمّا الثامنة: فقول اللّه عزّوجلّ: ( وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ و وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَي ) ، فقرن سهم ذي القربي بسهمه ( الأنفال: 41/8. )
وبسهم رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) ، فهذا فضل أيضاً بين الآل والأُمّة، لأنّ اللّه تعالي جعلهم في حيّز، وجعل الناس في حيّز دون ذلك، ورضي لهم ما رضي لنفسه، واصطفاهم فيه، فبدء بنفسه، ثمّ ثنّي برسوله، ثمّ بذي القربي في كلّ ما كان من الفي ء والغنيمة، وغير ذلك ممّا رضيه عزّوجلّ لنفسه، فرضي لهم، فقال وقوله الحقّ: ( وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ و وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَي ) ، فهذا تأكيد مؤكّد، وأثر قائم لهم إلي يوم القيامة في كتاب اللّه الناطق الذي ( لَّايَأْتِيهِ الْبَطِلُ مِن م بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ي تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) .
( فصلّت: 42/41. )
وأمّا قوله: ( وَالْيَتَمَي وَالْمَسَكِينِ ) فإنّ اليتيم إذا انقطع يتمه خرج من الغنائم، ولم يكن له فيها نصيب، وكذلك المسكين انقطعت مسكنته لم يكن له نصيب من المغنم، ولا يحل له أخذه، وسهم ذي القربي قائم إلي يوم القيامة فيهم، للغنيّ والفقير منهم، لأنّه لا أحد أغني من اللّه عزّوجلّ، ولا من رسول ال لّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) ، فجعل لنفسه منها سهماً، ولرسوله ( صلي الله عليه وآله وسلم ) سهماً، فما رضيه لنفسه ولرسوله ( صلي الله عليه وآله وسلم ) رضيه لهم، وكذلك الفي ء، ما رضيه منه لنفسه ولنبيّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) ، رضيه لذي القربي، كما أجراهم في الغنيمة، فبدء بنفسه جلّ جلاله، ثمّ برسوله، ثمّ بهم، وقرن سهمهم بسهم اللّه وسهم رسوله ( صلي الله عليه وآله وسلم ) ؛
وكذلك في الطاعة قال: ( يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) ، فبدء بنفسه، ثمّ برسوله، ثمّ بأهل بيته، كذلك آية الولاية: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ و وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَهُمْ رَكِعُونَ ) ، فجعل طاعتهم مع طاعة ( المائدة: 55/5. )
الرسول مقرونة بطاعته، كذلك ولايتهم مع ولاية الرسول مقرونة بطاعته، كما جعل سهمهم مع سهم الرسول مقروناً بسهمه في الغنيمة والفي ء، فتبارك اللّه وتعالي، ما أعظم نعمته علي أهل هذا البيت!؛
فلمّا جاءت قصّة الصدقة نزّه نفسه ورسوله، ونزّه أهل بيته فقال: ( إِنَّمَا الصَّدَقَتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَكِينِ وَالْعَمِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَرِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) فهل تجد في شي ء من ذلك أنّه سمّي لنفسه، أو لرسوله، أو لذي ( التوبة: 60/9. )
القربي؟ لأنّه لمّا نزّه نفسه عن الصدقة، ونزّه رسوله ونزّه أهل بيته، لا، بل حرّم عليهم، لأنّ الصدقة محرّمة علي محمّد ( صلي الله عليه وآله وسلم ) وآله، وهي أوساخ أيدي الناس، لا يحلّ لهم، لأنّهم طُهِّروا من كلّ دنس ووسخ، فلمّا طهّرهم اللّه عزّوجلّ، واصطفاهم، رضي لهم مارضي لنفسه، وكره لهم ما كره لنفسه عزّوجلّ، فهذه الثامنه.
وأمّا التاسعة: فنحن أهل الذكر الذين قال اللّه عزّوجلّ: ( فَسَْلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَاتَعْلَمُونَ ) ، فنحن أهل الذكر، فاسألونا إن كنتم لا ( الأنبياء: 7/21. )
تعلمون.
فقالت العلماء: إنّما عني اللّه بذلك اليهود والنصاري.
فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : سبحان اللّه! وهل يجوز ذلك إذا يدعونا إلي دينهم ويقولون: إنّه أفضل من دين الإسلام!؟
فقال المأمون: فهل عندك في ذلك شرح بخلاف ما قالوه يا أبا الحسن؟
فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : نعم، الذكر رسول اللّه، ونحن أهله، وذلك بيّن في كتاب اللّه عزّوجلّ، حيث يقول في سورة الطلاق: ( فَاتَّقُواْ اللَّهَ يَأُوْلِي الْأَلْبَبِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَّسُولًا يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ ءَايَتِ اللَّهِ مُبَيِّنَتٍ ) ، فالذكر رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) ، ونحن أهله، فهذه التاسعة.
( الطلاق: 10/65 - 11. )
وأمّا العاشرة: فقول اللّه عزّوجلّ في آية التحريم: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَتُكُمْ ) الآية، فأخبروني هل تصلح ابنتي وابنة ( النساء: 23/4. )
ابني، وما تناسل من صلبي لرسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) أن يتزوّجها لو كان حيّاً؟
قالوا: لا.
قال: فأخبروني هل كانت ابنة أحدكم تصلح له أن يتزوّجها لو كان حيّاً؟
قالوا: نعم.
قال: ففي هذا بيان، لأنّي أنا من آله، ولستم من آله، ولو كنتم من آله لحرُم عليه بناتكم، كما حرُم عليه بناتي، لأنّي من آله وأنتم من أُمّته، فهذا فرق بين الآل والأُمّة، لأنّ الآل منه، والأُمّة إذا لم تكن من الآل فليست منه، فهذه العاشرة.
وأمّا الحادية عشرة: فقول اللّه عزّوجلّ في سورة المؤمن - حكاية عن قول رجل مؤمن من آل فرعون - : ( وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَنَهُ و أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُم بِالْبَيِّنَتِ مِن رَّبِّكُمْ ) إلي تمام الآية، فكان ابن خال فرعون، فنسبه إلي فرعون بنسبه، ولم يضفه إليه ( غافر: 28/40. )
بدينه، وكذلك خصّصنا نحن إذ كنّا من آل رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) بولادتنا منه، وعمّمنا الناس بالدين، فهذا فرق بين الآل والأُمّة، فهذه الحادية عشرة.
وأمّا الثانية عشرة: فقوله عزّوجلّ: ( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَوةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَانَسَْلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَقِبَةُ لِلتَّقْوَي ) فخصّصنا اللّه ( طه: 132/20. )
تبارك وتعالي بهذه الخصوصيّة، إذ أمرنا مع الأُمّة بإقامة الصلاة، ثمّ خصّصنا من دون الأُمّة، فكان رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) يجي ء إلي باب عليّ وفاطمة ( عليهماالسلام ) ، بعد نزول هذه الآية تسعة أشهر، كلّ يوم عند حضور كلّ صلاة خمس مرّات فيقول: الصلاة رحمكم اللّه، وما أكرم اللّه أحداً من ذراريّ الأنبياء بمثل هذه الكرامة التي أكرمنا بها، وخصّصنا من دون جميع أهل بيتهم.
فقال المأمون والعلماء: جزاكم اللّه أهل بيت نبيّكم عن هذه الأُمّة خيراً، فما نجد الشرح والبيان فيما اشتبه علينا إلّا عندكم.
( عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : 228/1 ح 1. وقِطَعٌ منه في نور الثقلين: 328/1 ح 99، و349 ح 163، و461 ح 148، و492 ح 310، و505 ح 348، و158/2 ح 110، و234 ح 209، و314 ح 112، و349 ح 60، و369 ح 140، و372 ح 148، و57/3 ح 98، و153 ح 156، و408 ح 186، و68/4 ح 93، و271 ح 85 و86، و300 ح 213، و365 ح 94، و375 ح 14، 431 ح 101، و518 ح 40، و574 ح 76، و9/5 ح 9، و250 ح 104، و275 ح 12، و363 ح 87، وإثبات الهداة: 25/2 ح 102، والبرهان: 289/1 ح 7، و356 ح 2، و376 ح 10، والبحار: 87/16 ح 9، و363 ح 64، و167/23 ح 1، و173 ح 2، و223 ح 32، و105/29 ح 1، و20/39 ح 6، و173/49 ح 11، و196/79 س 7، و51/91 ح 16، والبرهان: 193/2 ح 2، و371 ح 14، و415 ح 2، و49/3 ح 1، و189 ح 1، و310 ح 8، و123/4 ح 9، و299 ح 1، و350 ح 2، ومستدرك الوسائل: 349/5 ح 6061، و117/7 ح 7794.
ينابيع المودّة: 38/1 ح 16، و42 ح 22، و131 ح 12، و313 ح 5، ومستدرك الوسائل: 349/5 ح 6061، و117/7 ح 7794، قِطَعٌ منه فيهما.
أمالي الصدوق: 421، المجلس 79 ح 1. قِطَعٌ منه في البحار: 220/25 ح 20، و48/78 ح 19، و72/93 ح 1، و196 ح 2، و242 ح 6. وإثبات الهداة: 530/1 ح 300، و67/2 ح 290، وقِطَعٌ منه ومن العيون، في وسائل الشيعة: 207/2 ح 1941، و515/9 ح 12609، و72/27 ح 33233، و188 ح 33565.
تحف العقول: 425 س 12، مرسلاً وبتفاوت. قِطَعٌ منه في إثبات الهداة: 562/1 ح 418، و107/2 ح 446 و447.
المناقب لابن شهرآشوب: 130/4 س 8، و178 س 21، قطعتان منه.
بشارة المصطفي لشيعة المرتضي ( عليه السلام ) : 228 س 1.
مشارق أنوار اليقين: 107 س 18، قطعة منه.
تأويل الآيات: 225 س 20، و490 س 8، قطعة منه.
سعد السعود: 273 س 3، قطعة منه.
قطعة منه في (فاطمة ( عليها السلام ) في آية المباهلة) و(الحسنين ( عليهماالسلام ) في آية المباهلة) و(أنّ عليّاً ( عليه السلام ) هو المراد من (أَنفُسَنَا) في آية المباهلة) و(سورة الشوري: 42/ 22 - 23 و25) و(سورة آل عمران: 33/3 - 34 و61) و(سورة النساء: 4/ 23، و54، و59) و(سورة المائدة: 55/5) و(سورة الأنفال: 41/8) و(سورة التوبة: 60/9) و(سورة يونس: 87/10) و(سورة هود: 29/11 و45 - 46 و51) و(سورة الإسراء: 26/17) و(سورة طه: 132/20) و(سورة الأنبياء: 7/21) و(سورة الشعراء: 214/26) و(سورة الأحزاب: 33/33 و56) و(سورة فاطر: 32/35 - 33) و(سورة يس: 1/36 - 4) و(سورة الصافّات: 79/37 و109 و120 و130) و(سورة غافر: 28/40) و(سورة فصّلت: 42/41) و(سورة الأحقاف: 8/46) و(سورة الحديد: 26/57) و(سورة الطلاق: 10/65 - 11) و(ما رواه عن رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) ) و(ما رواه عن الحسين بن عليّ ( عليهماالسلام ) ). )


- احتجاجه ( عليه السلام ) علي المأمون في خروج أخيه زيد وزيد بن عليّ:
1 - الشيخ الصدوق ؛ : حدّثنا أحمد بن يحيي المكتّب قال: أخبرنا محمّد بن يحيي الصوليّ قال: حدّثنا محمّد بن يزيد النحويّ قال: حدّثني ابن أبي عبدون، عن أبيه قال: لمّا حُمل زيد بن موسي بن جعفر ( عليهماالسلام ) إلي المأمون، وقد كان خرج بالبصرة، وأحرق دور ولد العبّاس، وهب المأمون جرمه لأخيه عليّ بن موسي الرضا ( عليهماالسلام ) ، وقال له: يا أبا الحسن! لئن خرج أخوك وفعل ما فعل، لقد خرج قبله زيد بن عليّ فقتل، ولولا مكانك منّي لقتلته، فليس ما أتاه بصغير.
فقال الرضا ( عليه السلام ) : يا أميرالمؤمنين! لا تَقِسْ أخي زيداً إلي زيد بن عليّ، فإنّه كان من علماء آل محمّد، غضب للّه عزّوجلّ، فجاهد أعداءه حتّي قتل في سبيله.
ولقد حدّثني أبي موسي بن جعفر ( عليهماالسلام ) ، أنّه سمع أباه جعفر بن محمّد بن عليّ ( عليهم السلام ) : يقول: رحم اللّه عمّي زيداً! إنّه دعا إلي الرضا من آل محمّد، ولو ظفر لوفي بما دعا إليه، ولقد استشارني في خروجه، فقلت له: يا عمّ! إن رضيت أن تكون المقتول المصلوب بالكُناسة فشأنك، فلمّا ولّي، قال جعفر بن محمّد: ويل لمن سمع واعيته فلم يجبه.
فقال المأمون: يا أبا الحسن! أليس قد جاء فيمن ادّعي الإمامة بغير حقّها ما جاء؟
فقال الرضا ( عليه السلام ) : إنّ زيد بن عليّ لم يدّع ماليس له بحقّ، وإنّه كان أتقي للّه من ذلك، إنّه قال: أدعوكم إلي الرضا من آل محمّ ( عليهم السلام ) : ، وإنّما جاء ما جاء، فيمن يدّعي أنّ اللّه تعالي نصّ عليه، ثمّ يدعو إلي غير دين اللّه، ويضلّ عن سبيله بغير علم، وكان زيد واللّه ممّن خوطب بهذه الآية: ( وَجَهِدُواْ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ي هُوَ اجْتَبَل-كُمْ ) .
( الحجّ: 78/22. )
( عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : 248/1 ح 1،. عنه البحار: 174/46 ح 27، ونور الثقلين: 522/3 ح 227، والوافي: 226/2 س 3، ووسائل الشيعة: 53/15 ح 19974، وإثبات الهداة: 91/3 ح 45، قطعة منه.
الصراط المستقيم: 270/2 س 11، قطعة منه.
قطعة منه في (أحوال أخيه زيد بن موسي) و(أحواله مع المأمون) و(سورة الحجّ: 78/22)، و(ما رواه عن الصادق ( عليه السلام ) ) و(ما رواه عن زيد بن عليّ بن الحسين ( عليهماالسلام ) ). )


- احتجاجه ( عليه السلام ) مع حاجب المتوكّل بحضرته:
1 - الشيخ الصدوق ؛ :...عليّ بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عليّ ( عليهم السلام ) : : إنّ الرضا ( عليه السلام ) عليّ بن موسي لمّا جعله المأمون وليّ عهده...، وقد كان للمأمون من يريد أن يكون هو وليّ عهده من دون الرضا ( عليه السلام ) ، وحسّاد كانوا بحضرة المأمون للرضا ( عليه السلام ) ... فقال المأمون: قد كان هذا الرجل مستتراً عنّا، يدعو إلي نفسه، فأردنا أن نجعله وليّ عهدنا ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافه لنا... ولكنّا نحتاج أن نضع منه قليلاً قليلاً حتّي نصوّره عند الرعايا بصورة من لايستحقّ لهذا الأمر؛ ثمّ ندبّر فيه بما يحسّم عنّا موادّ بلائه.
قال الرجل: يا أمير المؤمنين! فولّني مجادلته، فإنّي أفحمه وأصحابه، وأضع من قدره، فلولا هيبتك في نفسي لأنزلته منزلته، وبيّنت للناس قصوره عمّا رشحته له.
قال المأمون: ما شي ء أحبّ إليّ من هذا.
قال: فأجمع جماعة وجوه أهل مملكتك من القوّاد، والقضاة، وخيار الفقهاء لأُبيّن نقصه بحضرتهم، فيكون أخذاً له عن محلّه الذي أحللته فيه علي علم منهم بصواب فعلك.
قال: فجمع الخلق الفاضلين من رعيّته في مجلس واسع، قعد فيه لهم، وأقعد الرضا ( عليه السلام ) بين يديه في مرتبته التي جعلها له، فابتدء هذا الحاجب المتضمّن للوضع من الرضا ( عليه السلام ) .
وقال له: إنّ الناس قد أكثروا عنك الحكايات، وأسرفوا في وصفك، بما أري أنّك إن وقفت عليه برئت إليهم منه.
قال: وذلك إنّك قد دعوت اللّه في المطر المعتاد مجيئه فجاء، فجعلوه آية معجزة لك، أوجبوا لك بها أن لانظير لك في الدنيا، وهذا أمير المؤمنين أدام اللّه ملكه وبقاءه لايوازي بأحد إلّا رجّح به، وقد أحلّك المحلّ الذي قد عرفت، فليس من حقّه عليك أن تسوّغ الكاذبين لك وعليه ما يتكذّبونه.
فقال الرضا ( عليه السلام ) : ما أدفع عباد اللّه عن التحدّث بنعم اللّه عليّ، وإن كنت لاأبغي أشراً و لابطراً، وأمّا ماذكرك صاحبك الذي أحلّني ما أحلّني، فماأحلّني إلّا المحلّ الذي أحلّه ملك مصر يوسف الصديق ( عليه السلام ) ، وكانت حالهما ما قد علمت....
( عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : 167/2، ح 1.
يأتي الحديث بتمامه في ج 1 رقم 475. )


- احتجاجه ( عليه السلام ) علي الفقهاء وأهل الكلام:
1 - الشيخ الصدوق ؛ : حدّثنا تميم بن عبد اللّه بن تميم القرشيّ ( رضي الله عنه ) قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا أحمد بن عليّ الأنصاريّ، عن الحسن بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون يوماً، وعنده عليّ بن موسي الرضا ( عليه السلام ) ، وقد اجتمع الفقهاء وأهل الكلام من الفرق المختلفة، فسأله بعضهم، فقال له: يا ابن رسول اللّه! بأيّ شي ء تصحّ الإمامة لمدّعيها؟
قال ( عليه السلام ) : بالنصّ والدليل.
قال له: فدلالة الإمام فيما هي؟ قال ( عليه السلام ) : في العلم، واستجابة الدعوة.
قال: فما وجه إخباركم بما يكون؟ قال ( عليه السلام ) : ذلك بعهد معهود إلينا من رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) .
قال: فما وجه إخباركم بما في قلوب الناس؟
قال ( عليه السلام ) له: أما بلغك قول الرسول ( صلي الله عليه وآله وسلم ) : اتّقوا فراسة المؤمن، فإنّه ينظر بنور اللّه؟ قال: بلي.
قال ( عليه السلام ) : وما من مؤمن إلّا وله فراسة، ينظر بنور اللّه علي قدر إيمانه، ومبلغ استبصاره وعلمه، وقد جمع اللّه للأئمّة منّا ما فرّقة في جميع المؤمنين، ( في المصدر: الأئمّة. )
وقال عزّوجلّ في محكم كتابه: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَأَيَتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ ) ، ( الحجر: 75/15. )
فأوّل المتوسّمين رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) ، ثمّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من بعده، ثمّ الحسن والحسين والأئمّة من ولد الحسين ( عليهم السلام ) : إلي يوم القيامة.
قال: فنظر إليه المأمون فقال له: يا أبا الحسن! زدنا ممّا جعل اللّه لكم أهل البيت؟
فقال الرضا ( عليه السلام ) : إنّ اللّه عزّوجلّ قد أيّدنا بروح منه، مقدّسة مطهّرة، ليست بملك، لم تكن مع أحد ممّن مضي إلّا مع رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) ، وهي مع الأئمّة منّا، تسدّدهم وتوفّقهم، وهو عمود من نور بيننا وبين اللّه عزّوجلّ.
قال له المأمون: يا أبا الحسن! بلغني أنّ قوماً يغلون فيكم، ويتجاوزون فيكم الحدّ.
فقال الرضا ( عليه السلام ) : حدّثني أبي موسي بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عليّ، عن أبيه عليّ بن الحسين، عن أبيه الحسين بن عليّ، عن أبيه عليّ بن أبي طالب ( عليهم السلام ) : قال: قال رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) : لا ترفعوني فوق حقّي، فإنّ اللّه تبارك تعالي اتّخذني عبداً، قبل أن يتّخذني نبيّاً، قال اللّه تبارك وتعالي: ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَبَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّنِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَبَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلَايَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلَل-ِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ) .
( آل عمران: 79/3 - 80. )
قال عليّ ( عليه السلام ) : يهلك فيّ إثنان ولا ذنب لي، محبّ مفرط، ومبغض مفرط، وأنا أبرء إلي اللّه تبارك وتعالي ممّن يغلو فينا، ويرفعنا فوق حدّنا، كبراءة عيسي بن مريم ( عليه السلام ) من النصاري، قال اللّه تعالي: ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَعِيسَي ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَنَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍ ّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ و فَقَدْ عَلِمْتَهُ و تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَآ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ ي أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّادُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَي كُلِ ّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ) ، وقال عزّوجلّ: ( مَّا ( النساء: 172/4. )
الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ و صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ) ، ومعناه: إنّهما كانا يتغوّطان، فمن ادّعي للأنبياء ربوبيّة، وادّعي ( المائدة: 75/5. )
للأئمّة ربوبيّة، أو نبوّة، أو لغير الأئمّة إمامة، فنحن منه برءاء في الدنيا والآخرة.
فقال المأمون: يا أبا الحسن! فما تقول في الرجعة؟
فقال الرضا ( عليه السلام ) : إنّها لحقّ قد كانت في الأُمم السالفة، ونطق به القرآن، وقد قال رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) : يكون في هذه الأُمّة كلّ ما كان في الأُمم السالفة حذو النعل بالنعل، والقُذّة بالقُذّة.
( القُذّة: ريشة الطائر كالنسر والصقر، يُضرب مثلاً للشيئين يستويان ولايتفاوتان. المعجم الوسيط: 721. )
قال ( عليه السلام ) : إذا خرج المهديّ ( عليه السلام ) من ولدي، نزل عيسي بن مريم ( عليهماالسلام ) فصلّي خلفه وقال ( عليه السلام ) : إنّ الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً، فطوبي للغرباء.
قيل: يا رسول اللّه! ثمّ يكون ماذا؟
قال ( صلي الله عليه وآله وسلم ) : ثمّ يرجع الحقّ إلي أهله.
فقال المأمون: يا أبا الحسن! فما تقول في القائلين بالتناسخ؟
فقال الرضا ( عليه السلام ) : من قال بالتناسخ فهو كافر باللّه العظيم، مكذّب بالجنّة والنار.
قال المأمون: ماتقول في المسوخ؟
قال الرضا ( عليه السلام ) : أولئك قوم غضب اللّه عليهم فمسخهم، فعاشوا ثلاثة أيّام ثمّ ماتوا ولم يتناسلوا، فما يوجد في الدنيا من القردة والخنازير وغير ذلك ممّا وقع عليهم اسم المسوخيّة فهو مثل ما لا يحلّ أكلها والإنتفاع بها.
قال المأمون: لا أبقاني اللّه بعدك يا أبا الحسن! فو اللّه ما يوجد العلم الصحيح إلّا عند أهل هذا البيت، وإليك انتهت علوم آبائك، فجزاك اللّه عن الإسلام وأهله خيراً.
قال الحسن بن جهم: فلمّا قام الرضا ( عليه السلام ) تبعته، فانصرف إلي منزله فدخلت عليه وقلت له: يا ابن رسول اللّه! الحمد للّه الذي وهب من جميل رأي أميرالمؤمنين ما حمله علي ما أري من إكرامه لك، وقبوله لقولك.
فقال ( عليه السلام ) : يا ابن الجهم! لا يغرّنّك ما ألفيته عليه من إكرامي والاستماع منّي، فإنّه سيقتلني بالسمّ، وهو ظالم إلي أن أعرف ذلك بعهد معهود إليّ من آبائي عن رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) ، فاكتم هذا ما دمت حيّاً.
قال الحسن بن الجهم: فما حدّثت أحداً بهذا الحديث إلي أن مضي ( عليه السلام ) بطوس مقتولاً بالسمّ، ودفن في دار حميد بن قحطبة الطائيّ في القبّة التي فيها قبر هارون الرشيد إلي جانبه.
( عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : 200/2 ح 1، قِطَعٌ منه في البحار: 320/4 ح 1، و2، و128/24 ح 13، و48/25 ح 7، و271/25 ح 17، و134 ح 6، و284/49 ح 4، و59/53 ح 45، ومقدّمة البرهان: 33 س 35، و65 س 5، و492/1 ح 1، و350/2 ح 8، ونور الثقلين: 357/1 ح 209، و692 ح 442، و24/3 ح 89، ووسائل الشيعة: 341/28 ح 34909، وإثبات الهداة: 266/1 ح 106، و262/3 ح 38، و716 ح 10، و750 ح 25، ومدينة المعاجز: 149/7 ح 2243، وحلية الأبرار: 345/4 ح 3، والفصول المهمّة للحرّ العاملي: 259/1 ح 268.
قطعة منه في (مدفنه) و(إخباره ( عليه السلام ) بشهادته) و(ما ورد عن العلماء أو غيرهم في عظمته) و(الغلوّ في الأئمّ ( عليهم السلام ) : ) و(أنّهم ( عليهم السلام ) : مؤيّدون بروح من اللّه) و(إنّ رسول اللّه والأئمّ ( عليهم السلام ) : من بعده هم المتوسّمون) و(أنّ عندهم ( عليهم السلام ) : جميع العلوم) و(علائم الإمامة)و(المسوخ) و(القول بالتناسخ) و(الرجعة) و(سورة المائدة: 75/5) و(سورة النساء: 172/4) و(سورة آل عمران: 79/3 - 80) و(سورة الحجر: 75/15) و(ما رواه عن رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) ) و(ما رواه عن عليّ ( عليه السلام ) ). )


- احتجاجه ( عليه السلام ) علي أبي قرّه صاحب الجاثليق:
1 - الشيخ الصدوق ؛ : حدّثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمدانيّ، والحسين بن إبراهيم بن أحمد بن هاشم المكتّب، وعليّ بن عبد اللّه الورّاق رضي اللّه عنهم قالوا: حدّثنا عليّ بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن صفوان بن يحيي صاحب السابريّ قال: سألني أبو قرّة صاحب الجاثليق أن أُوصله إلي الرضا ( عليه السلام ) ، فاستأذنته في ذلك، فقال ( عليه السلام ) : أدخله عليّ، فلمّا دخل عليه قبّل بساطه وقال: هكذا علينا في ديننا أن نفعل بأشراف أهل زماننا، ثمّ قال: أصلحك اللّه، ما تقول في فرقة ادّعت دعوي، فشهدت لهم فرقة أُخري معدّلون؟
قال ( عليه السلام ) : الدعوي لهم.
قال: فادّعت فرقة أُخري دعوي، فلم يجدوا شهوداً من غيرهم!
قال ( عليه السلام ) : لا شي ء لهم.
قال: فإنّا نحن ادّعينا أنّ عيسي روح اللّه وكلمته ألقاها، فوافقنا علي ذلك المسلمون، وادّعي المسلمون أنّ محمّداً نبيّ، فلم نتابعهم عليه، وما أجمعنا عليه خير ممّا افترقنا فيه.
فقال له الرضا ( عليه السلام ) : ما اسمك؟
قال: يوحنّا.
قال: يا يوحنّا! إنّا آمنّا بعيسي بن مريم ( عليه السلام ) ، روح اللّه وكلمته، الذي كان يؤمن بمحمّد ( صلي الله عليه وآله وسلم ) ، ويبشّر به، ويقرّ علي نفسه، إنّه عبد مربوب، فإن كان عيسي الذي هو عندك روح اللّه وكلمته، ليس هو الذي آمن بمحمّد ( صلي الله عليه وآله وسلم ) ، وبشّر به، ولا هو الذي أقرّ للّه عزّوجلّ بالعبوديّة والربوبيّة، فنحن منه برآء، فأين اجتمعنا!
فقام، وقال لصفوان بن يحيي: قم، فما كان أغنانا عن هذا المجلس.
( عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : 230/2 ح 1، عنه البحار: 341/10 ح 3، ونور الثقلين: 312/5 ح 13، ووسائل الشيعة: 228/12 ح 16159، قطعة منه، وإثبات الهداة: 167/1 ح 34، قطعة منه.
قطعة منه في (نبوّة عيسي ( عليه السلام ) ). )


- احتجاجه ( عليه السلام ) علي يحيي بن الضحّاك السمرقنديّ في خلافة الأوّل والثاني:
1 - الشيخ الصدوق ؛ : حدّثنا الحاكم أبو عليّ الحسين بن أحمد البيهقيّ قال: حدّثني محمّد بن يحيي الصوليّ قال: يحكي عن الرضا ( عليه السلام ) خبر مختلف الألفاظ، لم تقع لي روايته بإسناد أعمل عليه، وقد اختلفت ألفاظ من رواه، إلّا أنّي سآتي به وبمعانيه، وإن اختلفت ألفاظه:
كان المأمون في باطنه يحبّ سقطات الرضا ( عليه السلام ) ، وأن يعلوه المحتجّ، وإن أظهر غير ذلك، فاجتمع عنده الفقهاء والمتكلّمون، فدسّ إليهم أن ناظروه في الإمامة.
فقال لهم الرضا ( عليه السلام ) : اقتصروا علي واحد منكم يلزمكم ما يلزمه.
فرضوا برجل يعرف بيحيي بن الضحّاك السمرقنديّ، ولم يكن بخراسان مثله.
فقال له الرضا ( عليه السلام ) : يا يحيي! سل عمّا شئت.
فقال: نتكلّم في الإمامة، كيف ادّعيت لمن لم يؤمّ، وتركت أُمّ؟ ووقع الرضا به.
فقال ( عليه السلام ) له: يا يحيي! أخبرني عمّن صدّق كاذباً علي نفسه، أو كذّب صادقاً علي نفسه، أيكون محقّاً مصيباً، أو مبطلاً مخطياً؟ فسكت يحيي.
فقال له المأمون: أجبه.
فقال: يعفيني أميرالمؤمنين من جوابه.
فقال المأمون: يا أبا الحسن! عرّفنا الغرض في هذه المسألة.
فقال ( عليه السلام ) : لابدّ ليحيي من أن يخبر عن أئمّته أنّهم كذبوا علي أنفسهم، أوصدقوا، فإن زعم أنّهم كذبوا فلا أمانة لكذّاب، وإن زعم أنّهم صدقوا، فقد قال أوّلهم: ولّيتكم ولست بخيركم، وقال تاليه: كانت بيعته فلتة، فمن عاد لمثلها فاقتلوه، فو اللّه ما رضي لمن فعل مثل فعلهم إلّا بالقتل، فمن لم يكن بخير الناس، والخيريّة لا تقع إلّا بنعوت: منها العلم، ومنها الجهاد، ومنها سائر الفضائل، وليست فيه، ومن كانت بيعته فلتة، يجب القتل علي من فعل مثلها، كيف يقبل عهده إلي غيره وهذه صورته؟
ثمّ يقول علي المنبر: إنّ لي شيطاناً يعتريني، فإذا مال بي فقوّموني، وإذا أخطأت فارشدوني، فليسوا أئمّة بقولهم إن صدقوا أو كذبوا، فما عند يحيي في هذا جواب.
فعجب المأمون من كلامه وقال: يا أبا الحسن! ما في الأرض من يحسن هذا سواك.
( عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : 231/2 ح 1. عنه وعن المناقب، البحار: 318/27 ح 1.
الإحتجاج: 455/2 ح 315، مرسلاً.
المناقب لابن شهرآشوب: 351/4 س 10، بتفاوت. عنه البحار: 348/10 ح 6. )


- احتجاجه ( عليه السلام ) علي أهل الأديان والمذاهب في البصرة والكوفة:
1 - الراونديّ ؛ : روي عن محمّد بن الفضل الهاشميّ قال: لمّا توفّي الإمام موسي بن جعفر ( عليهماالسلام ) أتيت المدينة، فدخلت علي الرضا ( عليه السلام ) فسلّمت عليه بالأمر، وأوصلت إليه ما كان معي وقلت: إنّي صائر إلي البصرة، وعرفت كثرة خلاف الناس، وقد نعي إليهم موسي ( عليه السلام ) ، وما أشكّ أنّهم سيسألوني عن براهين الإمام، فلو أريتني شيئاً من ذلك؟
فقال الرضا ( عليه السلام ) : لم يخف عليّ هذا، فأبلغ أولياءنا بالبصرة وغيرها، أنّي قادم عليهم، ولا قوّة إلّا باللّه.
ثمّ أخرج إليّ جميع ما كان للنبيّ ( صلي الله عليه وآله وسلم ) عند الأئمّة، من بردته، وقضيبه، وسلاحه، وغير ذلك.
فقلت: ومتي تقدم عليهم؟
قال ( عليه السلام ) : بعد ثلاثة أيّام من وصولك، ودخولك البصرة.
فلمّا قدمتها، سألوني عن الحال؟
فقلت لهم: إنّي أتيت موسي بن جعفر ( عليهماالسلام ) قبل وفاته بيوم واحد فقال: إنّي ميّت لا محالة، فإذا واريتني في لحدي فلا تقيمنّ، وتوجّه إلي المدينة بودائعي هذه، وأوصلها إلي ابني عليّ بن موسي ( عليهماالسلام ) ، فهو وصيّي، وصاحب الأمر بعدي.
ففعلت ما أمرني به، وأوصلت الودائع إليه، وهو يوافيكم إلي ثلاثة أيّام من يومي هذا، فاسألوه عمّا شئتم.
فابتدر للكلام عمرو بن هذّاب من القوم، وكان ناصبيّاً ينحو نحو التزيّد والإعتزال فقال: يا محمّد! إنّ الحسن بن محمّد رجل من أفاضل أهل هذا البيت، في ورعه وزهده، وعلمه وسنّه، وليس هو كشابّ مثل عليّ بن موسي ( عليهماالسلام ) ، ولعلّه لو سئل عن شي ء من معضلات الأحكام لحار في ذلك.
فقال الحسن بن محمّد - وكان حاضراً في المجلس -: لا تقل يا عمرو ذلك! فإنّ عليّاً علي ما وصف من الفضل، وهذا محمّد بن الفضل يقول: إنّه يقدم إلي ثلاثة أيّام، فكفاك به دليلاً، وتفرّقوا.
فلمّا كان في اليوم الثالث من دخولي البصرة، إذا الرضا ( عليه السلام ) قد وافي فقصد منزل الحسن بن محمّد، وأخلي له داره، وقام بين يديه يتصرّف بين أمره ونهيه فقال: يا حسن بن محمّد! أحضر جميع القوم الذين حضروا عند محمّد بن الفضل، وغيرهم من شيعتنا، وأحضر جاثليق النصاري، ورأس الجالوت، ومُر القوم أن يسألوا عمّا بدا لهم.
فجمعهم كلّهم والزيديّة، والمعتزلة، وهم لا يعلمون لما يدعوهم الحسن بن محمّد، فلمّا تكاملوا، ثنّي للرضا ( عليه السلام ) وسادة، فجلس عليها، ثمّ قال: السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته، هل تدرون لِمَ بدأتكم بالسلام؟
فقالوا: لا.
قال ( عليه السلام ) : لتطمئنّ أنفسكم.
قالوا: ومن أنت يرحمك اللّه؟
قال ( عليه السلام ) : أنا عليّ بن موسي بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ( عليهم السلام ) : ، وابن رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) ، صلّيت اليوم الفجر في مسجد رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) مع والي المدينة، وأقرأني - بعد أن صلّينا - كتاب صاحبه إليه، واستشارني في كثير من أُموره، فأشرت عليه بما فيه الحظّ له، ووعدته أن يصير إليّ بالعشيّ بعد العصر من هذا اليوم، ليكتب عندي جواب كتاب صاحبه، وأنا واف له بما وعدته به، ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه.
فقال الجماعة: يا ابن رسول اللّه! ما نريد مع هذا الدليل برهاناً أكبر منه، وإنّك عندنا الصادق القول، وقاموا لينصرفوا، فقال لهم الرضا ( عليه السلام ) : لا تفرّقوا، فإنّي إنّما جمعتكم لتسألوني عمّا شئتم من آثار النبوّة، وعلامات الإمامة التي لا تجدونها إلّا عندنا أهل البيت، فهلمّوا مسائلكم.
فابتدر عمرو بن هذّاب فقال: إنّ محمّد بن الفضل الهاشميّ ذكر عنك أشياء لاتقبلها القلوب.
فقال الرضا ( عليه السلام ) : وما تلك؟
قال: أخبرنا عنك أنّك تعرف كلّ ما أنزله اللّه، وأنّك تعرف كلّ لسان ولغة!
فقال الرضا ( عليه السلام ) : صدق محمّد بن الفضل، فأنا أخبرته بذلك، فهلمّوا فاسألوا.
قال: فإنّا نختبرك قبل كلّ شي ء بالألسن واللغات، وهذا روميّ، وهذا هنديّ، و هذا فارسيّ، و هذا تركيّ، فأحضرناهم.
فقال ( عليه السلام ) : فليتكلّموا بما أحبّوا، أُجيب كلّ واحد منهم بلسانه، إن شاء اللّه.
فسأل كلّ واحد منهم مسألة بلسانه ولغته، فأجابهم عمّا سألوا بألسنتهم ولغاتهم، فتحيّر الناس وتعجّبوا، وأقرّوا جميعاً بأنّه أفصح منهم بلغاتهم.
ثمّ نظر الرضا ( عليه السلام ) إلي ابن هذّاب فقال: إن أنا أخبرتك أنّك ستبتلي في هذه الأيّام بدم ذي رحم لك، أكنت مصدّقاً لي؟
قال: لا، فإنّ الغيب لا يعلمه إلّا اللّه تعالي.
قال ( عليه السلام ) : أوليس اللّه يقول: ( عَلِمُ الْغَيْبِ فَلَايُظْهِرُ عَلَي غَيْبِهِ ي أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَي مِن رَّسُولٍ ) فرسول اللّه عند اللّه مرتضي، ونحن ( الجنّ: 26/72 و 27. )
ورثة ذلك الرسول الذي اطّلعه اللّه علي ما شاء من غيبه، فعلمنا ما كان وما يكون إلي يوم القيامة، وإنّ الذي أخبرتك به ياابن هذّاب! لكائن إلي خمسة أيّام، فإن لم يصحّ ما قلت لك في هذه المدّة فإنّي كذّاب مفتر، وإن صحّ فتعلم أنّك الرادّ علي اللّه وعلي رسوله.
ولك دلالة أُخري؛ أما إنّك ستصاب ببصرك، وتصير مكفوفاً فلا تبصر سهلاً ولا جبلاً، وهذا كائن بعد أيّام.
ولك عندي دلالة أُخري: إنّك ستحلف يميناً كاذبة فتضرب بالبرص.
قال محمّد بن الفضل: فواللّه لقد نزل ذلك كلّه بابن هذّاب؛
فقيل له: أصدق الرضا أم كذب؟
قال: لقد علمت في الوقت الذي أخبرني به، أنّه كائن، ولكنّي كنت أتجلّد، ( تجلّد الشي ء: غشّاه بالجلد. المعجم الوسيط: 129. )
ثمّ إنّ الرضا ( عليه السلام ) التفت إلي الجاثليق فقال: هل دلّ الإنجيل علي نبوّة مح مّد ( صلي الله عليه وآله وسلم ) ؟
قال: لو دلّ الإنجيل علي ذلك ما جحدناه.
فقال ( عليه السلام ) : أخبرني عن السكتة التي لكم في السِفر الثالث؟
فقال الجاثليق: اسم من أسماء اللّه تعالي، لا يجوز لنا أن نظهره.
قال الرضا ( عليه السلام ) : فإن قرّرتك أنّه اسم محمّد وذكره، وأقرّ عيسي به، وأنّه بشّر بني إسرائيل بمحمّد، أتقرّ به ولا تنكره؟
قال الجاثليق: إن فعلت أقررت، فإنّي لا أردّ الإنجيل ولا أجحده.
قال الرضا ( عليه السلام ) : فخذ علي السفر الثالث الذي فيه ذكر محمّد، وبشارة عيسي ( عليه السلام ) بمحمّد ( صلي الله عليه وآله وسلم ) .
قال الجاثليق: هات! فأقبل الرضا ( عليه السلام ) يتلو ذلك السفر - الثالث من الإنجيل - حتّي بلغ ذكر محمّد ( صلي الله عليه وآله وسلم ) فقال: يا جاثليق! من هذا النبيّ الموصوف؟
قال الجاثليق: صفه؛
قال ( عليه السلام ) : لا أصفه إلّا بما وصفه اللّه: هو صاحب الناقة والعصا والكساء، ( النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ و مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَلةِ وَالإِْنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَل-هُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَل-ِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَْغْلَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ) يهدي إلي الطريق ( الأعراف: 157/7. )
الأقصد، والمنهاج الأعدل، والصراط الأقوم.
سألتك يا جاثليق! بحقّ عيسي روح اللّه وكلمته، هل تجد هذه الصفة في الإنجيل لهذا النبيّ؟
فأطرق الجاثليق مليّاً، وعلم أنّه إن جحد الإنجيل كفر فقال: نعم، هذه الصفة في الإنجيل، وقد ذكر عيسي ( عليه السلام ) هذا النبيّ، ولم يصحّ عند النصاري أنّه صاحبكم.
فقال الرضا ( عليه السلام ) : أمّا إذا لم تكفر بجحود الإنجيل، وأقررت بما فيه من صفة محمّد ( صلي الله عليه وآله وسلم ) ، فخذ عليّ في السفر الثاني، فإنّي أوجدك ذكره، وذكر وصيّه، وذكر ابنته فاطمة، وذكر الحسن والحسين ( عليهم السلام ) : .
فلمّا سمع الجاثليق، ورأس الجالوت ذلك، علما أنّ الرضا ( عليه السلام ) عالم بالتوراة والإنجيل فقالا: واللّه قد أتي بما لا يمكننا ردّه ولا دفعه، إلّا بجحود التوراة، والإنجيل، والزبور، وقد بشّر به موسي وعيسي ( عليهماالسلام ) جميعاً، ولكن لم يتقرّر عندنا بالصحّة أنّه محمّد هذا، فأمّا اسمه محمّد، فلا يجوز لنا أن نقرّ لكم بنبوّته، ونحن شاكّون أنّه محمّدكم أو غيره.
فقال الرضا ( عليه السلام ) : احتجزتم بالشكّ، فهل بعث اللّه قبل أو بعد من ولد آدم إلي يومنا هذا نبيّاً اسمه محمّد ( صلي الله عليه وآله وسلم ) ؟ أو تجدونه في شي ء من الكتب التي أنزلها اللّه علي جميع الأنبياء غير محمّدنا؟
فأحجموا عن جوابه وقالوا: لا يجوز لنا أن نقرّ لكم، بأنّ محمّداً هو ( أحجمت عن الأمر: تأخّرت عنه. المصباح المنير: 123. )
محمّدكم، لأنّا إن أقررنا لك بمحمّد، ووصيّه، وابنته، وابنيه، علي ما ذكرت، أدخلتمونا في الإسلام كرهاً.
فقال الرضا ( عليه السلام ) : أنت يا جاثليق! آمن في ذمّة اللّه، وذمّة رسوله، إنّه لايبدوك منّا شي ء تكره ممّا تخافه وتحذره.
قال: أمّا إذا قد آمنتني فإنّ هذا النبيّ الذي اسمه «محمّد»، وهذا الوصيّ الذي اسمه «عليّ»، وهذه البنت التي اسمها «فاطمة»، وهذان السبطان اللذان اسمهما «الحسن والحسين ( عليهماالسلام ) » في التوراة والإنجيل والزبور.
قال الرضا ( عليه السلام ) : فهذا الذي ذكرته في التوراة، والإنجيل، والزبور، من اسم هذا النبيّ، وهذا الوصيّ، وهذه البنت، وهذين السبطين صدق وعدل، أم كذب وزور؟
قال: بل صدق وعدل، وما قال اللّه إلّا بالحقّ.
فلمّا أخذ الرضا ( عليه السلام ) إقرار الجاثليق بذلك، قال لرأس الجالوت: فاستمع الآن يا رأس الجالوت! السفر الفلاني من زبور داود.
قال: هات بارك اللّه عليك، وعلي من ولّدك.
فتلا الرضا ( عليه السلام ) السفر الأوّل من الزبور حتّي انتهي إلي ذكر محمّد، وعليّ، وفاطمة، والحسن والحسين ( عليهم السلام ) : فقال: سألتك يا رأس الجالوت! بحقّ اللّه، أهذا في زبور داود؟ ولك من الأمان، والذمّة والعهد، ما قد أعطيته الجاثليق؟
فقال رأس الجالوت: نعم، هذا بعينه في الزبور بأسمائهم.
قال الرضا ( عليه السلام ) : فبحقّ العشر الآيات التي أنزلها اللّه علي موسي بن عمران ( عليه السلام ) في التوراة، هل تجد صفة محمّد، وعليّ، وفاطمة، والحسن والحسين ( عليهم السلام ) : ، في التوراة منسوبين إلي العدل والفضل؟
قال: نعم، ومن جحد هذا فهو كافر بربّه وأنبيائه.
قال له الرضا ( عليه السلام ) : فخذ الآن علي سفر كذا من التوراة، فأقبل الرضا ( عليه السلام ) يتلو التوراة، وأقبل رأس الجالوت يتعجّب من تلاوته وبيانه، وفصاحته ولسانه، حتّي إذا بلغ ذكر محمّد ( صلي الله عليه وآله وسلم ) ، قال رأس الجالوت: نعم، هذا أحماد، وبنت أحماد، وإليا، وشبّر وشبير، وتفسيره بالعربيّة: محمّد، وعليّ، وفاطمة، والحسن، والحسين ( عليهم السلام ) : ، فتلا الرضا ( عليه السلام ) السفر إلي تمامه.
فقال رأس الجالوت - لمّا فرغ من تلاوته -: واللّه يا ابن محمّد! لو لا الرئاسة التي قد حصلت لي علي جميع اليهود لآمنت بأحماد، واتّبعت أمرك، فواللّه الذي أنزل التوراة علي موسي، والزبور علي داود، والإنجيل علي عيسي ( عليهم السلام ) : ، مارأيت أقرأ للتوراة، والإنجيل، والزبور منك، ولا رأيت أحداً أحسن بياناً وتفسيراً وفصاحة، لهذه الكتب منك.
فلم يزل الرضا ( عليه السلام ) معهم في ذلك إلي وقت الزوال، فقال لهم - حين حضر وقت الزوال -: أنا أُصلّي، وأصير إلي المدينة للوعد الذي وعدت به والي المدينة، ليكتب جواب كتابه، وأعود إليكم بكرة، إن شاء اللّه.
قال: فأذّن عبد اللّه بن سليمان، وأقام، وتقدّم الرضا ( عليه السلام ) فصلّي بالناس، وخفّف القراءة، وركع تمام السنّة وانصرف.
فلمّا كان من الغد عاد إلي مجلسه ذلك، فأتوه بجارية روميّة، فكلّمها بالروميّة - والجاثليق يسمع، وكان فهماً بالروميّة - فقال الرضا ( عليه السلام ) - بالروميّة - لها: أيّما أحبّ إليك محمّد، أم عيسي؟
فقالت: كان فيما مضي عيسي أحبّ إليّ حين لم أكن عرفت محمّداً، فأمّا بعد أن عرفت محمّداً، فمحمّد الآن أحبّ إليّ من عيسي، ومن كلّ نبيّ.
فقال لها الجاثليق: فإذا كنت دخلت في دين محمّد، فتبغضين عيسي؟
قالت: معاذ اللّه! بل أُحبّ عيسي، وأُومن به، ولكنّ محمّداً أحبّ إليّ.
فقال الرضا ( عليه السلام ) للجاثليق: فسّر للجماعة ما تكلّمت به الجارية، وما قلت أنت لها، وما أجابتك به، ففسّر لهم الجاثليق ذلك كلّه؛ ثمّ قال الجاثليق:
يا ابن محمّد! ههنا رجل سنديّ، وهو نصرانيّ، صاحب احتجاج وكلام بالسنديّة؛
فقال له ( عليه السلام ) : أحضرنيه، فأحضره، فتكلّم معه بالسنديّة، ثمّ أقبل يحاجّه، وينقله من شي ء إلي شي ء - بالسنديّة - في النصرانيّة، فسمعنا السنديّ يقول بالسنديّة: بثطي بثطي بثطلة.
فقال الرضا ( عليه السلام ) : قد وحّد اللّه بالسنديّة.
ثمّ كلّمه في عيسي ومريم ( عليهماالسلام ) ، فلم يزل يدرجه من حال إلي حال، إلي أن قال بالسنديّة: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأنّ محمّداً رسول اللّه، ثمّ رفع منطقة كانت عليه، فظهر من تحتها زنّار في وسطه فقال: اقطعه أنت بيدك يا ابن رسول ( الزُنّار: حزام يشدّه النصرانيّ علي وسطه. المعجم الوسيط: 403. )
اللّه! فدعا الرضا ( عليه السلام ) بسكّين فقطعه.
ثمّ قال لمحمّد بن الفضل الهاشميّ: خذ السنديّ إلي الحمّام فطهّره، واكسه وعياله، واحملهم جميعاً إلي المدينة.
فلمّا فرغ من مخاطبة القوم قال: قد صحّ عندكم صدق ما كان محمّد بن الفضل يلقي عليكم عنّي؟
فقالوا بأجمعهم: نعم، واللّه قد بان لنا منك فوق ذلك أضعافاً مضاعفة، وقد ذكر لنا محمّد بن الفضل: أنّك تحمل إلي خراسان.
فقال ( عليه السلام ) : صدق محمّد، إلّا أنّي أُحمَل مكرماً معظّماً مبجّلاً.
قال محمّد بن الفضل: فشهد له الجماعة بالإمامة، وبات عندنا تلك الليلة، فلمّا أصبح ودّع الجماعة، وأوصاني بما أراد ومضي، وتبعته أُشيّعه حتّي إذا صرنا في وسط القرية عدل عن الطريق، فصلّي أربع ركعات.
ثمّ قال: يا محمّد! انصرف في حفظ اللّه، غمضّ طرفك.
فغمضته، ثمّ قال: افتح عينيك؛ ففتحتهما، فإذا أنا علي باب منزلي بالبصرة! ولم أر الرضا ( عليه السلام ) .
قال: وحملت السنديّ وعياله إلي المدينة في وقت الموسم.
قال محمّد بن الفضل: كان فيما أوصاني به الرضا ( عليه السلام ) في وقت منصرفه من البصرة، أن قال لي: صر إلي الكوفة، فاجمع الشيعة هناك، وأعلمهم أنّي قادم عليهم، وأمرني أن أنزل في دار حفص بن عمير اليشكريّ.
فصرت إلي الكوفة فأعلمت الشيعة: أنّ الرضا ( عليه السلام ) قادم عليهم.
فأنا يوماً عند نصر بن مزاحم إذ مرّ بي سلام خادم الرضا ( عليه السلام ) ، فعلمت أنّ الرضا ( عليه السلام ) قد قدم، فبادرت إلي دار حفص بن عمير، فإذا هو في الدار، فسلّمت عليه، ثمّ قال لي: احتشد لي في طعام تصلحه للشيعة.
فقلت: قد احتشدت وفرغت ممّا يحتاج إليه.
فقال ( عليه السلام ) : الحمد للّه علي توفيقك.
فجمعنا الشيعة، فلمّا أكلوا قال: يا محمّد! انظر من بالكوفة من المتكلّمين، والعلماء فأحضرهم، فأحضرناهم.
فقال لهم الرضا ( عليه السلام ) : إنّي أُريد أن أجعل لكم حظّاً من نفسي، كما جعلت لأهل البصرة، وإنّ اللّه قد أعلمني كلّ كتاب أنزله،
ثمّ أقبل علي جاثليق، وكان معروفاً بالجدل والعلم، والإنجيل، فقال:
يا جاثليق! هل تعرف لعيسي صحيفة فيها خمسة أسماء يعلّقها في عنقه، إذا كان بالمغرب فأراد المشرق فتحها، فأقسم علي اللّه باسم واحد من الخمسة أن تنطوي له الأرض، فيصير من المغرب إلي المشرق، ومن المشرق إلي المغرب في لحظة؟
فقال الجاثليق: لا علم لي بها، وأمّا الأسماء الخمسة، فقد كانت معه بلا شكّ، ويسأل اللّه بها، أو بواحد منها، فيعطيه اللّه جميع ما يسأله.
قال ( عليه السلام ) : اللّه أكبر، إذ لم تنكر الأسماء! فأمّا الصحيفة فلا يضرّ أقررت بها، أوأنكرت، اشهدوا علي قوله.
ثمّ قال: يا معاشر الناس! أليس أنصف الناس من حاجّ خصمه بملّته وبكتابه، وبنبيّه وشريعته؟
قالوا: نعم.
قال الرضا ( عليه السلام ) : فاعلموا أنّه ليس بإمام بعد محمّد، إلّا من قام بما قام به محمّد حين يفضي الأمر إليه، ولا تصلح الإمامة إلّا لمن حاجّ الأُمم بالبراهين للإمامة.
فقال رأس الجالوت: وما هذا الدليل علي الإمام؟
قال ( عليه السلام ) : أن يكون عالماً بالتوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن الحكيم، فيحاجّ أهل التوراة بتوراتهم، وأهل الإنجيل بإنجيلهم، وأهل القرآن بقرآنهم، وأن يكون عالماً بجميع اللغات، حتّي لا يخفي عليه لسان واحد، فيحاجّ كلّ قوم بلغتهم، ثمّ يكون مع هذه الخصال تقيّاً نقيّاً من كلّ دنس، طاهراً من كلّ عيب، عادلاً، منصفاً، حكيماً، رؤوفاً، رحيماً، حليماً، غفوراً، عطوفاً، صدوقاً، بارّاً، مشفقاً، أميناً، مأموناً، راتقاً، فاتقاً.
فقام إليه نصر بن مزاحم فقال: يا ابن رسول اللّه! ما تقول في جعفر بن محمّد ( عليهماالسلام ) ؟
فقال ( عليه السلام ) : ما أقول في إمام شهدت أُمّة محمّد قاطبة، بأنّه كان أعلم أهل زمانه!
قال: فما تقول في موسي بن جعفر ( عليهماالسلام ) ؟
قال ( عليه السلام ) : كان مثله.
قال: فإنّ الناس قد تحيّروا في أمره.
قال ( عليه السلام ) : إنّ موسي بن جعفر ( عليهماالسلام ) ، عمّر برهة من دهره، فكان يكلّم الأنباط بلسانهم، ويكلّم أهل خراسان بالدريّة، وأهل الروم بالروميّة، ويكلّم العجم بألسنتهم، وكان يرد عليه من الآفاق علماء اليهود والنصاري، فيحاجّهم بكتبهم وألسنتهم.
فلمّا نفدت مدّته وكان وقت وفاته، أتاني مولي برسالته يقول: يا بنيّ! إنّ الأجل قد نفد، والمدّة قد انقضت، وأنت وصيّ أبيك، فإنّ رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) لمّا كان وقت وفاته، دعا عليّاً وأوصاه، ودفع إليه الصحيفة التي كان فيها الأسماء التي خصّ اللّه بها الأنبياء، والأوصياء.
ثمّ قال: يا عليّ! ادن منّي، فدنا منه، فغطّي رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) رأس عليّ ( عليه السلام ) بملاءته، ثمّ قال له: أخرج لسانك، فأخرجه فختمه بخاتمه، ثمّ قال: يا عليّ! اجعل لساني في فيك فمصّه، وابلع كلّ ما تجد في فيك.
ففعل عليّ ( عليه السلام ) ذلك، فقال له: إنّ اللّه قد فهّمك ما فهّمني، وبصّرك ما بصّرني، وأعطاك من العلم ما أعطاني، إلّا النبوّة، فإنّه لا نبيّ بعدي.
ثمّ كذلك إماماً بعد إمام.
فلمّا مضي موسي علمت كلّ لسان، وكلّ كتاب، وما كان وما سيكون بغير تعلّم، وهذا سرّ الأنبياء أودعه اللّه فيهم، والأنبياء أودعوه إلي أوصيائهم، ومن لم يعرف ذلك ويحقّقه، فليس هو علي شي ء، ولا قوّة إلّا باللّه.
( الخرائج والجرائح: 341/1 ح 6، عنه البحار: 73/49 ح 1، ومدينة المعاجز: 200/7 ح 2265، وح 2266، وقِطَعٌ منه في إثبات الهداة: 194/1 ح 104، و196 ح 105، و613 ح 632، و129/2 ح 561، و243/3 ح 64، و300 ح 137، وح 138، وح 139، ونور الثقلين: 79/2 ح 295، و444/5 ح 60، والأنوار البهيّة: 198 س 3.
الصراط المستقيم: 195/2 ح 5، و196 ح 6.
الثاقب في المناقب: 186 ح 171.
قطعة منه في (علائم إمامته) و(ما رواه عن أبيه موسي بن جعف ( عليهم السلام ) : ) و(إنّ الصادق ( عليه السلام ) أعلم اهل زمانه) و(إنّ الكاظم ( عليه السلام ) كان أعلم أهل زمانه) و(وجود اسم النبيّ والأئمّ ( عليهم السلام ) : في التوراة والإنجيل والزبور) و(سورة الجنّ: 26/72 و 27) و( إنّه ( عليه السلام ) عالم بالتوراة والإنجيل) و(تكلّمه ( عليه السلام ) بألسنة مختلفة) و(مشاورة الحكّام معه في عصره) و(علّة ابتداء الكلام بالسلام) و(إخباره ( عليه السلام ) بالوقايع الآتية) و(النصّ علي إمامته عن أبيه الكاظم ( عليهماالسلام ) ) و(عنده جميع ما كان للنّبي ( صلي الله عليه وآله وسلم ) ) و(طيّ الارض له ( عليه السلام ) إلي البصرة والكوفة). )


- احتجاجه ( عليه السلام ) علي الصبّاح بن نصر الهنديّ و العمران الصابيّ:
1 - ابن شهرآشوب ؛ : ممّا أجاب ( عليه السلام ) بحضرة المأمون لصبّاح بن نصر الهنديّ، وعمران الصابيّ عن مسائلهما، قال عمران: العين نور مركّبة، أم الروح تبصر الأشياء من منظرها؟
قال ( عليه السلام ) : العين شحمة، وهو البياض والسواد، والنظر للروح، دليله أنّك تنظر فيه فتري صورتك في وسطه، والإنسان لا يري صورته إلّا في ماء، أومرآة، وما أشبه ذلك؛
قال صبّاح: فإذا عميت العين، كيف صارت الروح قائمة، والنظر ذاهب؟
قال ( عليه السلام ) : كالشمس طالعة يغشاها الظلام.
قال: أين تذهب الروح؟
قال ( عليه السلام ) : أين يذهب الضوء الطالع من الكوّة في البيت إذا سدّت ( الكوّة: الخرق في الجدار يدخل منه الهواء والضوء. المعجم الوسيط: 806. )
الكوّة؟
قال: أوضح لي؛
قال ( عليه السلام ) : الروح مسكنها في الدماغ، وشعاعها منبثّ في الجسد بمنزلة الشمس دارتها في السماء، وشعاعها منبسط علي الأرض، فإذا غابت الدائرة فلا شمس، وإذا قطع الرأس فلا روح.
قالا: فما بال الرجل يلتحي دون المرأة؟
قال ( عليه السلام ) : زيّن اللّه الرجال باللحي، وجعلها فضلاً يستدلّ بها علي الرجال من النساء.
قال عمران: ما بال الرجل إذا كان مؤنّثاً، والمرأة إذا كانت مذكّرة؟
قال ( عليه السلام ) : علّة ذلك، أنّ المرأة إذا حملت، وصار الغلام في الرحم موضع الجارية كان مؤنّثاً، وإذا صارت الجارية موضع الغلام كانت مذكّرة، وذلك أنّ موضع الغلام في الرحم ممّا يلي ميامنها، والجارية ممّا يلي مياسرها، وربّما ولدت المرأة ولدين في بطن واحد، فإن عظم ثدياها جميعاً تحمل توأمين، وإن عظم أحد ثدييها كان ذلك دليلاً علي أنّه تلد واحد، إلّا أنّه إذا كان الثدي الأيمن أعظم، كان المولود ذكراً، وإذا كان الأيسر أعظم، كان المولود أُنثي، وإذا كانت حاملاً، فضمر ثديها الأيمن، فإنّها تسقط غلاماً، وإذا ضمر ثديها الأيسر، فإنّها تسقط ( ضَمُرَ: هُزِلَ وقَلَّ لَحْمُه. المعجم الوسيط: 543. )
أُنثي، وإذا ضمرا جميعاً تسقطهما جميعاً.
قالا: من أيّ شي ء الطول والقصر في الإنسان؟
فقال ( عليه السلام ) : من قبل النطفة، إذا خرجت من الذكر فاستدارت جاء القصر، وإن استطالت جاء الطول.
قال صبّاح: ما أصل الماء؟
قال ( عليه السلام ) : أصل الماء خشية اللّه، بعضه من السماء، ويسلكه في الأرض ينابيع، وبعضه ماء عليه الأرضون، وأصله واحد عذب فرات.
قال: فكيف منها عيون نفط وكبريت، ومنها قار وملح، وأشبه ذلك؟
( القار: مادّة سوداء تطلي بها السفن، يقال بالفارسيّة: قير. )
قال ( عليه السلام ) : غيّره الجوهر، وانقلبت كانقلاب العصير خمراً، وكما انقلبت الخمر فصارت خلاًّ، وكما يخرج من بين فرث ودم لبناً خالصاً.
قال: فمن أين أخرجت أنواع الجواهر؟
قال ( عليه السلام ) : انقلبت منها كانقلاب النطفة علقة، ثمّ مضغة، ثمّ خلقه مجتمعة مبنيّة علي المتضادّات الأربع.
قال عمران: إذا كانت الأرض خلقت من الماء، والماء البارد رطب، فكيف صارت الأرض باردة يابسة؟
قال ( عليه السلام ) : سلبت النداوة، فصارت يابسه.
قال: الحرّ أنفع أم البرد؟
قال ( عليه السلام ) : بل الحرّ أنفع من البرد، لأنّ الحرّ من حرّ الحياة، والبرد من برد الموت، وكذلك السموم القاتلة، الحارّ منها أسلم وأقلّ ضرراً من السموم الباردة.
وسألاه عن علّة الصلاة؟
فقال ( عليه السلام ) : طاعة أمرهم بها، وشريعة حملهم عليها، وفي الصلاة توقير له وتبجيل، وخضوع من العبد إذا سجد، والإقرار بأنّ فوقه ربّاً يعبده، ويسجد له.
وسألاه عن الصوم؟
فقال ( عليه السلام ) : امتحنهم بضرب من الطاعة، كيما ينالوا بها عنده الدرجات، ليعرفهم فضل ما أنعم عليهم من لذّة الماء، وطيب الخبز، وإذا عطشوا يوم صومهم، ذكروا يوم العطش الأكبر في الآخرة، وزادهم ذلك رغبة في الطاعة.
وسألاه لِمَ حرّم الزنا؟
قال ( عليه السلام ) : لما فيه من الفساد، وذهاب المواريث، وانقطاع الأنساب، لا تعلم المرأة في الزنا مَن أحبلها، ولا المولود يعلم مَن أبوه، ولا أرحام موصولة، ولاقرابة معروفة.
( المناقب: 353/4 س 18. عنه البحار: 111/6 ح 6، و335/57 ح 8.
قطعة منه في (علّة تحريم الزنا) و(علّة الصلاة) و(علّة الصوم). )


- احتجاجه ( عليه السلام ) علي أبي قرّة المحدّث صاحب شبرمة في التوحيد:
1 - أبو منصور الطبرسيّ ؛ : عن صفوان بن يحيي قال: سألني أبو قرّة المحدّث صاحب شبرمة، أن أدخله علي أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) ، فاستأذنه فأذن له، فدخل، فسأله عن أشياء من الحلال والحرام، والفرائض والأحكام، حتّي بلغ سؤاله إلي التوحيد، فقال له: أخبرني جعلني اللّه فداك، عن كلام اللّه لموسي ( عليه السلام ) ؟
فقال: اللّه أعلم ورسوله بأيّ لسان كلّمه، بالسريانيّة أم بالعبرانيّة؟
فأخذ أبو قرّة بلسانه فقال: إنّما أسألك عن هذا اللسان؟
فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : سبحان اللّه! عمّا تقول! ومعاذ اللّه! أن يشبه خلقه، أويتكلّم بمثل ما هم به متكلّمون، ولكنّه تبارك وتعالي ليس كمثله شي ء، ولاكمثله قائل، ولا فاعل.
قال: كيف ذلك؟ قال ( عليه السلام ) : كلام الخالق لمخلوق، ليس ككلام المخلوق لمخلوق، ولا يلفظ بشقّ فم ولسان، ولكن يقول له: «كن»، فكان بمشيّته ما خاطب به موسي ( عليه السلام ) من الأمر والنهي، من غير تردّد في نفس.
فقال أبو قرّة: فما تقول في الكتب؟
فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، وكلّ كتاب أُنزل، كان كلام اللّه أنزله للعالمين نوراً وهدي، وهي كلّها محدثة، وهي غير اللّه، حيث يقول: ( أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا) وقال: ( مَا يَأْتِيهِم مِّن ( طه: 113/20. )
ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ) ، واللّه أحدث الكتب ( الأنبياء: 2/21. )
كلّهاالذي أنزلها.
فقال أبو قرّة: فهل تفني؟
فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : أجمع المسلمون علي أنّ ما سوي اللّه فان، وما سوي اللّه فعل اللّه، والتوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، فعل اللّه، ألم تسمع الناس يقولون: «ربّ القرآن»، وأنّ القرآن يقول يوم القيامة: «يا ربّ هذا فلان - وهو أعرف به منه - قد أظمأت نهاره، وأسهرت ليله، فشفّعني فيه»، وكذلك التوراة، والإنجيل، والزبور، وهي كلّها محدثة مربوبة، أحدثها من ليس كمثله شي ء، هدي لقوم يعقلون، فمن زعم أنّهنّ لم يزلن معه، فقد أظهر أنّ اللّه ليس بأوّل قديم، ولاواحد، وأنّ الكلام لم يزل معه، وليس له بدؤ، وليس بإله.
قال أبو قرّة: وإنّا روينا: أنّ الكتب كلّها تجي ء يوم القيامة، والناس في صعيد واحد صفوف قيام لربّ العالمين، ينظرون حتّي ترجع فيه، لأنّها منه، وهي جزء منه، فإليه تصير.
قال أبو الحسن ( عليه السلام ) : فهكذا قالت النصاري في المسيح: إنّه روحه وجزء منه، ويرجع فيه، وكذلك قالت المجوس في النار والشمس: إنّهما جزء منه ويرجع فيه، تعالي ربّنا أن يكون متجزّياً أو مختلفاً، وإنّما يختلف ويأتلف المتجزّي، لأنّ كلّ متجزٍّ متوهّم، والكثرة والقلّة مخلوقة دالّة علي خالق خلقها.
فقال أبو قرّة: فإنّا روينا: أنّ اللّه قسّم الرؤية والكلام بين نبيّين، فقسّم لموسي ( عليه السلام ) الكلام، ولمحمّد ( صلي الله عليه وآله وسلم ) الرؤية.
فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : فمن المبلّغ عن اللّه إلي الثقلين، الجنّ والإنس أنّه لاتدركه الأبصار، ولا يحيطون به علماً، وليس كمثله شي ء، أليس محمّد ( صلي الله عليه وآله وسلم ) ؟
قال: بلي.
قال أبو الحسن ( عليه السلام ) : فكيف يجي ء رجل إلي الخلق جميعاً، فيخبرهم أنّه جاء من عند اللّه، وأنّه يدعوهم إلي اللّه بأمر اللّه ويقول: إنّه لا تدركه الأبصار، ولايحيطون به علماً، وليس كمثله شي ء، ثمّ يقول: أنا رأيته بعينيّ، وأحطت به علماً، وهو علي صورة البشر، أما تستحيون؟
ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون أتي عن اللّه بأمر، ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر.
فقال أبو قرّة: إنّه يقول: ( وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَي ) ؛
( النجم: 13/53. )
فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : إنّ بعد هذه الآية مايدلّ علي ما رأي، حيث قال: ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَي ) ؛ يقول: ما كذب فؤاد محمّد ) ( صلي الله عليه وآله وسلم ) النجم: 11/53. )
ما رأت عيناه، ثمّ أخبر بما رأت عيناه فقال: ( لَقَدْ رَأَي مِنْ ءَايَتِ رَبِّهِ الْكُبْرَي ) ، فآيات اللّه غير اللّه، وقال: ( وَلَايُحِيطُونَ بِهِ ي عِ ( النجم: 18/53. )
لْمًا) ، فإذا رأته الأبصار، فقد أحاط به العلم، ووقعت المعرفة.
( طه: 110/20. )
فقال أبو قرّة: فتكذب بالرواية؟
فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : إذا كانت الرواية مخالفة للقرآن كذّبتها، وما أجمع المسلمون عليه: إنّه لا يحاط به علماً، ولا تدركه الأبصار، وليس كمثله شي ء.
وسأله عن قول اللّه: ( سُبْحَنَ الَّذِي أَسْرَي بِعَبْدِهِ ي لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا)
فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : قد أخبر اللّه تعالي: أنّه أسري به، ثمّ أخبر: لِمَ أسري به فقال: ( لِنُرِيَهُ و مِنْ ءَايَتِنَآ) فآيات اللّه غير اللّه، فقد ( الإسراء: 1/17. )
أعذر وبيّن لِمَ فعل به ذلك، وما رآه، وقال ( عليهم السلام ) ( فَبِأَيِ ّ حَدِيثِ م بَعْدَ اللَّهِ وَءَايَتِهِ ي يُؤْمِنُونَ ) فأخبر أنّه غير اللّه.
( الجاثية: 6/45. )
فقال أبو قرّة: فأين اللّه؟
فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : الأين مكان، وهذه مسألة شاهدٍ عن غايب، فاللّه تعالي ليس بغائب، ولا يقدمه قادم، وهو بكلّ مكان موجود، مدبّر صانع، حافظ ممسك السماوات والأرض.
فقال أبو قرّة: أليس هو فوق السماء دون ما سواها؟
فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : هو اللّه في السماوات وفي الأرض، وهو الذي في السماء إله، وفي الأرض إله، وهو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء، وهو معكم أينما كنتم، وهو الذي استوي إلي السماء وهي دخان، وهو الذي استوي إلي السماء فسوّاهنّ سبع سماوات، وهو الذي استوي علي العرش، قد كان ولا خلق، وهو كما كان إذ لا خلق، لم ينتقل مع المنتقلين.
فقال أبو قرّة: فما بالكم إذ دعوتم رفعتم أيديكم إلي السماء؟
فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : إنّ اللّه استعبد خلقه بضروب من العبادة، وللّه مفازع يفزعون إليه، ومستعبد فاستعبد عباده بالقول، والعلم والعمل والتوجّه، ونحو ذلك، استعبدهم بتوجّه الصلاة إلي الكعبة، ووجّه إليها الحجّ والعمرة، واستعبد خلقه عند الدعاء والطلب والتضرّع، ببسط الأيدي ورفعها إلي السماء لحال الاستكانة، وعلامة العبوديّة، والتذلّل له.
قال أبو قرّة: فمَن أقرب إلي اللّه، الملائكة، أو أهل الأرض؟
قال أبو الحسن ( عليه السلام ) : إن كنت تقول بالشبر والذراع، فإنّ الأشياء كلّها باب واحد هي فعله، لا يشتغل ببعضها عن بعض، يدبّر أعلي الخلق من حيث يدبّر أسفله، ويدبّر أوّله من حيث يدبّر آخره من غير عناء، ولا كلفة، ولا مؤونة، ولامشاورة، ولا نصب، وإن كنت تقول مَن أقرب إليه في الوسيلة؟ فأطوعهم له، وأنتم تروون: أنّ أقرب ما يكون العبد إلي اللّه وهو ساجد؛
ورويتم: أنّ أربعة أملاك التقوا أحدهم من أعلي الخلق، وأحدهم من أسفل الخلق، وأحدهم من شرق الخلق، وأحدهم من غرب الخلق، فسأل بعضهم بعضاً، فكلّهم قال: «من عند اللّه»، أرسلني بكذا وكذا.
ففي هذا دليل علي أنّ ذلك في المنزلة دون التشبيه والتمثيل.
فقال أبو قرّة: أتقرّ أنّ اللّه محمول؟
فقال أبو الحسن: كلّ محمول مفعول، ومضاف إلي غيره محتاج، فالمحمول اسم نقص في اللفظ، والحامل فاعل، وهو فاعل، وهو في اللفظ ممدوح، وكذلك قول القائل: فوق، وتحت، وأعلي، وأسفل، وقد قال اللّه تعالي: ( وَلِلَّهِ الأَْسْمَآءُ الْحُسْنَي فَادْعُوهُ بِهَا) ولم يقل في شي ء من كتبه أنّه محمول؛ بل هو ( الأعراف: 180/7. )
الحامل في البرّ والبحر، والممسك للسماوات والأرض، والمحمول ما سوي اللّه، ولم نسمع أحداً آمن باللّه وعظّمه قطّ، قال في دعائه: «يا محمول».
قال أبو قرّة: أفتكذب بالرواية: إنّ اللّه إذا غضب يعرف غضبه الملائكة الذين يحملون العرش يجدون ثقله علي كواهلهم، فيخرّون سجّداً، فإذا ذهب الغضب ( الكاهل من الإنسان: ما بين كَتِفه أو مَوصل العُنُق في الصلب. المعجم الوسيط: 803. )
خفّ، فرجعوا إلي مواقفهم؟
فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : أخبرني عن اللّه تبارك وتعالي منذ لعن إبليس إلي يومك هذا، وإلي يوم القيامة، فهو غضبان علي إبليس وأوليائه، أو عنهم راض؟
فقال: نعم، هو غضبان عليه.
قال ( عليه السلام ) : فمتي رضي فخفّ، وهو في صفتك لم يزل غضباناً عليه، وعلي أتباعه؟ ثمّ قال: ويحك! كيف تجتري أن تصف ربّك بالتغيّر من حال إلي حال، وأنّه يجري عليه ما يجري علي المخلوقين؟ سبحانه! لم يزل مع الزائلين، ولم يتغيّر مع المتغيّرين.
قال صفوان: فتحيّر أبو قرّة، ولم يُحِر جواباً، حتّي قام وخرج.
( الاحتجاج: 373/2 ح 285. عنه البحار: 152/4 ح 4، وقِطَعٌ منه في: 343/10 ح 5، ونور الثقلين: 575/1 ح 681، و752 ح 215، و396/3 ح 124، و412 ح 6، ووسائل الشيعة: 47/7 ح 8684.
الكافي: 95/1 ح 2، و130 ح 2، قِطَعٌ منه في نور الثقلين: 103/2 ح 373، و153/5 ح 33، و157 ح 52، و405 ح 27، والبرهان: 546/1 ح 3، والوافي: 378/1 ح 300، و498 ح 397، والفصول المهمّة للحرّ العاملي: 178/1 ح 123،
التوحيد: 110 ح 9. عنه البحار: 36/4 ح 14، ونور الثقلين: 194/5 ح 36.
روضة الواعظين: 41 س 20.
الفصول المهمّة للحرّ العاملي: 125/1 ح 23، و198 ح 155.
قطعة منه في (سورة الجاثية: 6/45) و(سورة الإسراء: 1/17) و(سورة النجم: 11/53، و13، و18) و(سورة الأعراف: 180/7) و(سورة الأنبياء: 2/21) و(سورة طه: 113/20، و110) و(إنّ رسول اللّه ( صلي الله عليه وآله وسلم ) هو المبلّغ إلي الثقلين). )

- احتجاجه ( عليه السلام ) علي الفضل بن سهل بحضرة المأمون:
1 - أبو عليّ الطبرسيّ ؛ : روي العيّاشيّ في تفسيره بالإسناد عن الأشعث بن حاتم قال: كنت بخراسان حيث اجتمع الرضا ( عليه السلام ) والفضل بن سهل والمأمون في أيوان الحبريّ بمرو، فوضعت المائدة، فقال الرضا ( عليه السلام ) : إنّ رجلاً من بني إسرائيل سألني بالمدينة فقال: النهار خلق قبل أم الليل، فما عندكم؟
قال: فأداروا الكلام، فلم يكن عندهم في ذلك شي ء.
فقال الفضل للرضا ( عليه السلام ) : أخبرنا بها أصلحك اللّه.
قال ( عليه السلام ) : نعم، من القرآن أم من الحساب؟
قال له الفضل: من جهة الحساب.
فقال: قد علمت يا فضل! أنّ طالع الدنيا السرطان، والكواكب في مواضع شرّفها، فزحل في الميزان، والمشتري في السرطان، والشمس في الحمل، والقمر في الثور، فذلك يدلّ علي كينونة الشمس في الحمل، في العاشر من الطالع، في وسط السماء، فالنهار خلق قبل الليل، وفي قوله تعالي: ( لَاالشَّمْسُ يَنم-بَغِي لَهَآ أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَاالَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ) أي قد سبقه ( يس: 40/36. )
النهار.
( مجمع البيان: 425/4 س 12، عنه نور الثقلين: 387/4 ح 53، والبرهان: 11/4 ح 2، عنه وعن كتاب النجوم، البحار: 226/54 ح 187
فرج المهموم: 95 س 5.
البحار: 162/55 ح 20، عن كتاب النجوم للسيّد بن طاووس.
المناقب لابن شهرآشوب: 353/4 س 8، قطعة منه.
قطعة منه في (سورة يس: 40/36). )



الفصل الثاني: مكاتيبه ورسائله ( عليه السلام ) :
وفيه موضوعان

(أ) - كتبه ( عليه السلام ) إلي أفراد معيّنة
وفيه تسعة وثمانون شخصاً

صفحه قبل
صفحه بعد