موسوعة الإِمام الجواد عليه السلام

اللجنة العلميّة في مؤسّسة وليّ العصر للدراسات الإسلاميّة

بإشراف‏ سماحة آية اللّه الشيخ أبي القاسم الخزعلي‏

 

 الكتاب       موسوعة الإمام الجوادعليه السلام ج ۱

 المؤلّف      اللجنة العلميّة في مؤسّسة وليّ العصرعليه السلام للدراسات الإسلاميّة

 المشرف على تأليف الموسوعة    سماحة آية اللّه أبي القاسم الخزعلي‏

 الناشر       مؤسّسة وليّ العصرعليه السلام للدراسات الإسلاميّة - قم المشرّفة

 الطبعة      الاولى - ذي الحّجة ۱٤۱٩

 المطبعة    أمير - قم


 

    مركز النشر

    نشر مؤسّسة وليّ العصرعليه السلام للدراسات الإسلاميّة - قم، تلفون: ٧٣٥٨٣۱

    مؤسسّة النشر للآستانة الرضويّة المقدّسة - قم، تلفون:٧٤٢۱٨٣

    طهران: ٦٥٠٦٢٠،مشهد: ٨٣٤٨٠٠ واصفهان: ٦٧٤٤٠٨

 

 

 قال الإمام الجوادعليه السلام:

 إنّ القائم منّا هوالمهدي الذي يجب أن ينتظر في غيبته،ويطاع في ‏ظهوره، وهو الثالث من ولدي.

 والذي بعث محمّداً بالنبوّة، وخصّنا بالإمامة، أنّه لولم ‏يبق من الدنيا إلّا يوم، لطوّل اللّه ذلك اليوم حتّى يخرج ‏فيه، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً.

    موسوعة الإمام الجوادعليه السلام: ۱/٥٦٦         

 

    اللجنة العلميّة برعاية

    سماحة حجّة الإسلام السيّد محمد الحسيني القزويني

 

 حجج الإسلام:

    -١  السيّد أبو الفضل الطباطبائي            -٢  السيّد محمّـــد الموســوي

    -٣  الشيخ عبد اللّه الصالحـي             ٤ - الشيخ مهدي الإسماعيلي

 

 


    أهدافنا

 

     موسوعة الإِمام الجواد عليه السلام / ج ۱

 المقدمة  

 الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة على خاتم الأنبياء، وسيّد المرسلين، محمد وآله الطاهرين.

 أمّا بعد: فإنّ من أفضل العلوم التي عنى البشر منذ نشأته وإلى اليوم، بتعلّمها، وتعرّفها، هي العلوم الدينيّة، إذ تتكفّل له بحياة هنيئة سعيدة في الدارين.

 ولمّا كان الدين الإسلامي وهو آخر الأديان التي تحدّث عنها القرآن المجيد قد حثّنا كثيراً على طلب العلم ونشره، لذلك فقد تمّ في مدينة قم، بمبادرة سماحة حجّة الإسلام والمسلمين، السيد محمد الحسيني القزويني، وبإشراف  سماحة آية اللّه الشيخ أبي القاسم الخزعلي، وبمساندة نخبة من جلّة فضلاء الحوزة العلميّة، في هذا البلد الأمن الطيّب، تأسيس مؤسّسة علمية باسم:

 مؤسّسة وليّ العصر (عج) للدراسات الإسلاميّة

 والهدف من ذلك هو:

 -١  خدمة السنّة النبويّة المطهّرة، وذلك بقيام مراجعات دقيقة، وتحقيقات عميقة، وأبحاث وافية لأحوال حملتها، ورواتها، والمعنيّين بأمرها، ويطلق أهل الشأن على الناجز من هذه الأعمال اسم (علم الرجال) الذي تدور عليه في الغالب مدارك الاستنباطات  الشرعيّة، و تستند إليه الفتاوى الدينيّة.

 وحيث إنّ السنّة النبويّة قد وصلت إلى المسلمين عن طريقين:

 الأوّل: مارواه المحدثّون عن أتباع التابعين عن التابعين عن الصحابة، عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.

 الثاني: مارووه عن الأئمّة المعصومين، عن آبائهم، عن جدّهم رسول اللّه‏ صلى الله عليه وآله وسلم.

 وحيث إنّ حملة القسم الأوّل قد استوفى علماء الجمهور، الكلام فيهم وفي أحوالهم من حيث الجرح والتعديل إستيفاء تامّاً، في حين أنّ حملة القسم الثاني وإن أشبع علماؤنا الرجاليّون الكلام في الغالبيّة العظمى منهم، إلاّ أنّ نفراً من الرواة المختلف فيهم، لم يبتّ بعد في أمرهم، وأنّ جملة من المطالب الرجاليّة مازالت بحاجة إلى المراجعة والمناقشة، لذلك فإنّ (معهدنا) قد أخذ على نفسه أن يقوم بسدّ هذه الثلمة، فجمع وحقّق وحرّر شيئاً كثيراً ممّا يتعلقّ بهذا الموضوع (علم الرجال) وكان ممّا أنجزه وأخرجه، طبع ونشر كتاب (سماء المقال في علم الرجال) وسيصدر إن‏شاءاللّه بالتتالي وعمّا قريب ما اختاره ممّا ألّف في هذا العلم، بعد أن ينال تحقيقنا كما ناله (سماء المقال).

 بناءً على اقتراح سماحة آية اللّه الخزعلي ورغبته، تقرّر أن نقوم - إضافة إلى استمرارنا في دراساتنا الرجاليّة - ببحث وتمحيص متون الأحاديث والآثار الواردة عن العترة الطاهرة، وجميع ما صدر عنهم ‏عليهم السلام قولاً وفعلاً وتقريراً في الأحكام الإلهيّة والشئون المختلفة وتدوين ذلك في اثنتي عشرة موسوعة، يخصّ كلّ موسوعة منها بإمام من الأئمّة سلام اللّه عليهم، وهذا البحث يمهّد لمن أراد أن تغمره الفيوضات الإلهيّة المودعة فيهم، أن يرتوي من مناهل علومهم الفيّاضة العذبة التي بسطناها في الموسوعات المومأ إليها.

 وحيث إنّ اليوم الذي تمّ فيه هذا القرار، صادف ذكري يوم استشهاد الإمام الجوادعليه السلام؛ لذا بدأنا أوّلاً بتصنيف الموسوعة الخاصّة به ‏عليه السلام.

 

 ملاحظات ينبغي الإلتفات إليها عند مطالعة الكتاب‏

 الأولى: ولمّا كان من أهدافنا من تصنيف الموسوعات المشار إليها، هو تفريع الموضوعات الكلاميّة، والفقهيّة، والتاريخيّة و...  حسب مايستفاد من كلام المعصوم‏ عليه السلام فإنّا بعد أن نذكر الحديث بتمامه في الباب الخاصّ به، نبيّن الفروعات المستفادة من كلامه‏ عليه السلام، في الأبواب المناسبة لها.

 وأشرنا في الهامش بأنّ قطعة منه مذكورة في الفصل  والباب المعيّن له، وذلك للوقوف على ما استفيد منه من الفروعات.

 الثانية: إذا كان الحديث مذكوراً بعبارات مختلفة، وأسانيد متعدّدة، أخذنا منها ما كان أقدمها تدويناً، وأطولها متناً، وأشرنا في الهامش إلى سائر طرقه، ومصادره، وموارد اختلافه.

 الثالثة: أشرنا إلى الأغلاط، والتصحيفات الواقعة في متن الحديث، أو سنده في الهامش أيضاً، وأصلحنا ما أمكن منها.

 الرابعة: إذا مرّت بنا كلمة، أو عبارة مبهمة، أوغامضة، قمنا بتوضيحها في الهامش.

 الخامسة: إذا تناولنا الأحاديث المضمرة التي لم يسمّ فيها المعصوم ‏عليه السلام بينّا بالقرائن الرجاليّة، بأنّ المعصوم المراد منها إمّا هو الإمام الجوادعليه السلام أو مردّد بينه وبين معصوم آخر.

 السادسة: ومن المطالب الدقيقة التي تعرّضنا لها في هذه الموسوعة، ولم تسترع انتباه غيرنا على ما نعلم، هو فرز الأحاديث المحمولة على الإمام الجوادعليه السلام - وهي عن غيره من المعصومين ‏عليه السلام كأبي جعفر الباقرعليه السلام - عمّا صحّ وثبت عنه، وإنّما التبس أمرها على بعض العلماء، لدواع أشرنا إليها في مواردها، منها:

 أنّهم إذا رأوا حديثاً عن أبي جعفرعليه السلام، ظنّوا بأنّ المراد منه، هو: أبو جعفر الجوادعليه السلام وأضافوا بعد كنيته: الجواد، أو قيّدوها بالثاني، والقرائن تشهد بأنّها لم تصدر عنه عليه السلام، بل صدرت عن أبي جعفر الباقرعليه السلام.

 السابعة: إنّ الأحاديث والأخبار التي نوردها من المصادر، لانتعرّض لتصحيحهاوتضعيفها سنداً، لأنّ الأنظار تختلف في ذلك، لذا يعود أمرها إلى القارى‏ء الكريم، أو إلى من تتوفّر فيه الصلاحيّة لذلك.

 الثامنة: ولّما كان الجواد عليه السلام تاسع الأئمّة الإثنى عشرعليهم السلام جعلنا هذه الموسوعة في تسعة فصول وخاتمة.

 التاسعة: بذلنا الجهد الكثير ليخرج الكتاب من الطبع سالماً من الهنات فإذا وجد فيه شي‏ء من ذلك، فهو ممّا غضّ عنه البصر.

 وفي الختام نقدّم شكرنا الجزيل لسماحة آية اللّه الخزعلي، لإشرافه على المؤسّسة ولمراجعته هذه الموسوعة وتصحيح ماخطر بباله الشريف من الملاحظات، فجزاه اللّه أفضل الجزاء.

 ونشكر أيضاً من اخواننا الذين ساعدوننا في هذه الموسوعة في قسم الصفّ والمقابلة وتقويم النصّ ولاسيّما من الأخ الفاضل الاستاد مسجدجامعي قائم مقام وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي، لمساعدته في التحقيق والطبع والنشر، جزاهم اللّه  خير الجزاء وجعلها ذخراً لهم ولنا ليوم لاينفع فيه مال ولابنون.

    اللجنة العلميّة                               

    في مؤسّسة ولي العصرعليه السلام للدراسات الإسلاميّة 

 


  مقدمة

 

    "الحمد للّه وكفى، والصلوة على رسوله المصطفى، وعلى آله أبواب العلم والهدى، لاسيّما بقيّة اللّه، باسط العدل والتقى، وقامع الجور والشقا، واللعن على أعدائهم أزمّة الظلم وأسباب الردى، من الآن إلى يوم الملتقى".

 

 أمّا بعد:

     موسوعة الإِمام الجوادعليه السلام / ج ۱

 المقدمة  

 فنوجز الكلام في هذه المقدّمة على  هذه الموسوعة المباركة فنقول:

 إنّ موضوعاتها ومطالبها تختصّ بتاسع الأئمّة المعصومين ‏عليهم السلام وهو:

 الإمام الجواد محمد بن علي بن موسى الرضا عليه و على آبائه السلام، أحد السادة النجباء النقباء، وعِدل من أعدال القرآن، وعبد من عباد اللّه الذين اصطفاهم اللّه وأورثهم الكتاب، وممّن كانوا والكتاب كالفرقدين، يصطحبان ولايفترقان، يؤيّد كلّ منهما الآخر، ويتقوّى أحد الصاحبين بصاحبه، وقطعاً يكون ما للكتاب من الحقّ والفضل على الناس،  لأهل البيت ‏عليهم السلام أيضاً، وما لأهل البيت ‏عليهم السلام من ذلك للكتاب، وإن كان الكتاب الثقل الأكبر.

 ولنوضّح ذلك بمجمل من الكلام ويسير من المقال:

 فالكتاب جعله اللّه قرآناً عربيّاً، أنزله علينا لنعقل عنه، ونتفهّم منه، وإن كان عند اللّه سبحانه عليّاً حكيماً، وكان بمأمن من تناول أيدينا.

 وأهل البيت ‏عليهم السلام هم كذلك، فقد كانوا أنواراً محدقين بعرشه، مَنّ اللّه بهم علينا، فأنزلهم: "في بيوت أذن اللّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه"(۱)، لتعمّنا بركاتهم: "فبهم فتح اللّه، وبهم يختم".

 والقرآن كتاب، شامخ مقامه، عميق أثره، به يمكن أن تتزلزل الجبال، وتتقطّع الأرض، وبه يكلّم الموتى: "ولو أنّ قرآناً سيّرت به الجبال، أو قطّعت به الأرض، أو كلّم به الموتى"(٢).

 وأهل البيت ‏عليهم السلام بهم "يمسك اللّه السماء أن تقع على الأرض إلّا بإذنه".

 والقرآن كتاب عزيز، "لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد"(٣).

 وأهل البيت‏ عليهم السلام آمنهم من الزلل، وطهّرهم من الدنس، أنزل اللّه سبحانه فيهم: "إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً"(٤).

 والكتاب مهيمن على سائر الكتب، وعلى زبر الأوّلين.

 وأهل البيت ‏عليهم السلام لوثّنيت لهم الوسادة، لحكموا لأهل التوراة بتوراتهم، ولأهل الإنجيل بإنجيلهم، ولأهل الزبور بزبورهم، ولكلّ جيل بدستورهم.

 وللكتاب رموز وأسرار وآيات متشابهة، لايقف عليها وعلى مراميها الناس، ولايعلمها إلّا اللّه والراسخون في العلم.

 وأهل البيت ‏عليهم السلام  هم الراسخون في العلم، كانوا ثالث ثلاثة في الشهادة على التوحيد، وثاني اثنين في الشهادة على النبوّة، وشاهدين يوم القيامة للأُمّة ولجميع الناس، ونوّه بهم ربّهم، اللّه سبحانه وتعالى في قوله المبين: "إنّه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لايمسّه إلّا المطهّرون"(٥).

 وقد هتف بهم من ذي قبل: "إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً".

 وقد أهاب سبحانه بالناس، وحذّرهم الغفلة عن الثقلين، فقال بشأن الكتاب: "وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتّبعوه واتّقوا لعلّكم ترحمون"(٦).

 وقال في حقّ أهل البيت ‏عليهم السلام: "إنّما وليّكم اللّه ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلوة ويؤتون الزكوة وهم راكعون"(٧).

 وفي حجّة الوداع  شدّد أمرهم وقوّاه، فقال عزّ من قائل: "يا أيّها الرسول بلّغ ماأنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته"(٨).

 وبيّن أنّ الرسالة وتبليغ الكتاب طيلة ثلاث وعشرين سنة، لايتمّان ولايلتئمان إلّا بتبليغ هذا الأمر الهامّ.

 فلمّا قام صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وبلّغ ذلك، وأخذ من الناس البيعة له، قال سبحانه وتعالى: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً"(٩).  

 فأرى وأنت معي أنّه كانت لاتلتئم دعوة القرآن، ورسالة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم حتّى يتمّ هذا الأمر، ولمّا تمّ وقعت الرسالة موقع القبول، ووجد الكتاب موضعه، ورضي اللّه تعالى لنا الإسلام ديناً، وأتمّ بذلك نعمته علينا وأكمل بفضله لنا ديننا، فله الشكر على ما أولينا.

 فعلم المنصفون أن لاسبيل إلى اللّه سبحانه إلّا بالتمسّك بهذين الكريمين، وليس يصحّ ولا يجوز شرعاً أن نقول: "حسبنا كتاب اللّه".

 فقد أنذر سبحانه حبيبه ونجيبه، فقال: "وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته"، أي كنت كأنّك لم تبلغ شيئاً من رسالات ربّك. وعلموا ببيان الرسول ‏صلّى الله عليه وآله وسلم بأنّ هذين الصاحبين لايفترقان.

 ثمّ إنّ هذا المقام الرفيع وهو ولاية الإمامة، له في فسحة الوجود واقع يحاذيه، ووجود يمثّله، وليس أمراً اعتباريّاً كما يفعله واحد من الناس لآخر من أصحابه، فيهب رئاسة الوزارة مثلاً لأحد من الناس، فينفذ أمره، ويطيعه الناس شاءوا، أم أبوا، فهذا العطاء وآثاره ليس إلّا أموراً اعتباريّة، اصطلح عليها الناس لتمشية أُمورهم، وليتخلّصوا من الهرج.

 وأمّا الولاية فتأييد بروح القدس، فهو ينزل على الإمام فتصير النفس غير النفس، كما في نفخ الروح في الجسد، فيصير خلقاً آخر.

 قال أبو الحسن الهادي عليه السلام - وهو بالمدينة - : "إنّا للّه وإنّا إليه راجعون مضى أبو جعفر عليه السلام". يعني أباه الكريم - وهو ببغداد - . قالوا: "وكيف عرفت ذلك"؟

 قال ‏عليه السلام: "لأنّه تداخلني ذلّة للّه لم أكن أعرفها."، على حسب تعبير الكليني(۱٠).

 وعلى حدّ تعبير إثبات الوصيّة كما نقله العلّامة المجلسي(۱۱)، دخلني من إجلال اللّه جلّ وعزّ جلاله شي‏ء علمت معه أن قد مضى أبو جعفر عليه السلام.

 وهذا ليس ببدع، فقد آنسنا القرآن بذلك في أوليائه: "إذ قال اللّه يا عيسى ابن مريم، اُذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيّدتك بروح القدس، تكلّم الناس في المهد وكهلاً ..."(۱٢).

 وبذلك قام عيسى عليه السلام بخلق طير من طين فنفخ فيه فصار حيّاً، وأبرأ الأبرص والأكمه وأحيى الموتى بإذن اللّه.

 فاللّه سبحانه يتفضّل على الإمام ويهب له من عنده علماً يرى به ماوراء الحجاب، ويرى ما يكون للناس إلى يوم القيامة، وبذلك العلم الذي آتاه اللّه يكون الامام شهيداً على الناس في مايعملون في دنياهم ويشفع لهم عند بارئهم في آخرتهم، وبذلك الروح القدسي يفعل ما يفعل في الموجودات، وينفذ فيهم ما يريد، فيشفي المريض، ويبرأ الأكمه والأبرص، على خلاف السنّة الجارية.

 وبذلك أُعطي يحيى الحكم صبيّاً، وتكلّم عيسى في المهد، وكأنّ يحيى كان مقدمّة لعيسى لتزول عنهم الدهشة، إذ رأوا قبل ذلك في يحيى ما رأوه، فسهل عليهم الأمر في عيسى في ولادته بغير أب، وفي تكلّمه في المهد صبيّاً.

 وقد امتاز الإمام الجواد عليه السلام بالنظر إلى من سلف من الأئمّة عليهم السلام بتلك الميزة، فقام بالأمر في السابعة من عمره، ونهض بأعباء الإمامة، وحيّر الناس بما أبدى من المسائل الدينيّة الدقيقة في أيّام إمامته، كما حيّر من قبل عيسى ويحيى‏عليهما السلام أهل زمانهم. وكأنّه ‏عليه السلام كان كيحيى مقدّمة لمن يقوم بأعباء الإمامة ويتصدّى لإزالة الجور والعدوان، ويبسط العدل على بسيطة الأرض، ويحقق وعد اللّه أن يرث الأرض عباده الصالحون.

 كان أبو جعفر الجوادعليه السلام مقدّمة لبقيّة اللّه وليّ العصر القائم بأمر الناس - روحي له الفداء - في الخامسة من عمره الشريف. قام عليه السلام بذلك بتأييد من روح القدس ومهمّة الإمامة في صغر السنّ، وفي محيط خاصّ، وفي برهة قصيرة من الدهر، لها شادة(۱٣) مخصوصة، فقد انتشر فيها ما ليونان وغيرها من الأُمم الراقية من الفلسفة والعلوم، ما لم يقف عليها العرب والمسلمون من قبل.

 فاضطرب أمر الناس، وتشوّشت الأذهان، وتسرّبت الشبهات في النفوس، وكثر فيهم أهل الكلام، وتجمّع علماء الملل والنحل، فاضطلع الإمام ‏عليه السلام، بإزاحة ما شغل بال الناس من الالتباسات الطارئة عليهم وما يجابهون من المسائل المستغلقة، فأضاء لهم السبيل، ونوّر الأفكار، وحلّ المشكلات، وأوضح المعضلات، وكشف عن الغوامض والمبهمات من دقائق المسائل التي لم يسبق لغيره بيانها.

 فمن ذلك ما سأله مشاهير علماء عصره عن أعقد المسائل في الفقه والكلام والفلسفة، فأجابهم بما اشتهر وذاع، وصار حديث الأندية والمجالس، ومازال يذكر بالإعجاب والإكبار على امتداد التاريخ، ولاغرو، فإنّهم كالنجوم يهتدي بهم في ظلمات البرّ والبحر، يقومون بإسعاف الناس وقضاء  حوائجهم في كلّ عصر، وفي كلّ مصر.

 ألم تر أنّ أبا جعفر الأوّل منهم: محمد بن علي الباقرعليه السلام، نهض بنشر السنّة عند ما فُتح باب تدوين الرواية بعد ما كان مسدوداً قرابة قرن سدّه الخليفة الثاني، ولأمر ما جدع قصير أنفه، فقام ولم يأل جهداً حتّى أضاء للسائلين الطريق، ونهج لهم المنهج، فأخذوا منه ‏عليه السلام مناسكهم، وسائر مسائلهم، وظهر عياناً للقاصي والداني ما كان مخبّأً من سننهم  في المخابئ خوفاً من إظهارها ونشرها.

 وأبو جعفر الثاني - روحي فداه - بقيامه بتوضيح ما تبهّم على المسلمين من أمور دينهم وبتمييزه لحقائق الشرع المبين عمّا عارضه من معارف مخالفيه يكون قد بسط للناس علمه، فارتووا من نميره العذب، وعينه الصافية، ما أغناهم عن الرجوع إلى غيره، فتتابعت الأسئلة عليه، واكتظّ بابه بالسائلين، وأجاب في بعض الأندية سؤالات أعلامهم الأفذاذ، كقاضي القضاة يحيى بن أكثم، وفرّع مسائله فروعاً كثيرة، فتحيّر وملكه العجب العجاب، وإن كان قد سبقه إلى ذلك أبوه الكريم علي بن موسى الرضا سلام اللّه عليه ببرهة قليلة؛ إذ حضر في الأندية العلميّة الشهيرة التي أعدّها له المأمون وأتى من البيان بماعجب منه الحاضرون.

 وكم كان علماء ذلك الزمان الذين لم تقع بأيديهم تفاصيل محاضر تلك الجلسات العلميّة العالية والأسئلة والأجوبة التي طرحت فيها، يتمنّون الظفر بنصوص مباحثاتها.

 وعلى ذكر الندوات التي كانت تعقد في ذلك العصر نقول:

 إنّا نشاهد اليوم بحمد اللّه وبعد قيام الثورة الإسلاميّة المباركة في مدينة قم المحروسة، بلدة العلم والإجتهاد، ومبعث النور والجهاد، نشاطات دراسيّة كبيرة، ومجالس علميّة هامّة تطرح فيها وتناقش، أهمّ المسائل الدينيّة والعلميّة، ويشارك فيها أفاضل طلّاب العلم وأساتذتهم ومدرّسيهم، وتأتينا بثمار طيّبة ونتائج حسنة، وقد نمت هذه المجالس واتّسع نطاقها بعد مجيي الثورة المباركة، وبفضل ما توليها من حماية ورعاية، وكان من آثارها الحميدة مساندتها لانعقاد المؤتمر العالمي لألفيّة الشيخ المفيدقدس سره فنأمّل أن تكون:

 "كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزرّاع..."(۱٤). ونتفاءل بها ونرجو أن تستمرّ ويقوي شطؤها ويقوي حتّى قيام مولانا صاحب العصر - عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف - إن شاء اللّه.

 وممّا يدعونا إلى التفاؤل وجود هذا الجمّ الغفير من أعلام أهل العلم الكرام في هذا البلد الآمن وانهماكهم المستمرّ في الدرس والتدريس وفي بثّ المعارف الإسلاميّة الصحيحة ونشرها بين الناس عن طريق التأليف والتحقيق والطبع، أخصّ هنا منهم بالذكر، الفاضل العليم حجّة الإسلام والمسلمين السيّد محمد الحسيني القزويني ، حيّاه اللّه وبيّاه، وحيّاهم وبيّاهم، وشكر سعيه ومساعيهم، وأفاض سِجال توفيقه وكرمه عليه وعليهم، وأمدّه وأمدّهم بإمداد غيبيّ وبأموال وبنين على ما يقتضيه جوده وفضله.

 هذا، مع إنّي لا أعلم هناك نعمة أفضل للمسلم من الودّ لأهل البيت النبوي‏ عليهم السلام  وأتباعهم وهم بحمد اللّه ومنّه متمتّعون بهذه النعمة.

 هذا ولم يغب عن بالنا هنا جهود الذين تولّوا طبع هذه الموسوعة الشريفة المختصّة بجواد أهل البيت‏ عليهم السلام وما بذلوه من عناية بالغة بإخراجها على الوجه المطلوب، فنتضرّع إلى المولى جلّ شأنه أن يضاعف لهم الأجر والثواب ويمنّ عليهم بالصحّة والعافية والعمر الطويل حتّى يوفّقوا لطبع وإخراج سائر الموسوعات المتعلّقة بأئمّتنا المعصومين سلام اللّه عليهم أجمعين.

    حرّره العبد المبتلى: أبو القاسم الخزعلي‏

    أحد المدرّسين بقمّ المشرّفة

    وعضو صيانة الدستور للجمهورية الإسلاميّة

   

   ٢١ رجب المرجّب ۱٤۱٩

 

   ١النور: ٢٤/٣٦

   ٢الرعد: ۱٣/٣۱

   ٣فصّلت: ٤۱/٤٢

   ٤الأحزاب: ٣٣/٣٣

   ٥الواقعه: ٥٦/٧٧ - ٧٩

   ٦الأنعام: ٦/۱٥٥

   ٧المائده: ٥/٥٥

   ٨المائده: ٥/٦٧

   ٩المائده: ٥/٣

 ١٠الكافي: ۱/٣٨۱

 ١١البحار: ٢٧/٢٩۱

 ١٢المائده: ٥/۱۱٠

 ١٣شادة: علامة، آية.

١٤ الفتح: ٢٩

الفهرست