نقد كتاب أُصول
مذهب الشيعة
لمؤلفه الدكتور
السلفي ناصر بن عبد الله القفاري
منهج تأسيسي في الإجابة
عن الشبهات المثارة ضدّ المذهب
الشيعي
أ. د. السيّد محمّد الحسيني
القزويني
الاُستاذ في الحوزة
العلمية قسم الدراسات العليا في قم المقدسة،
ورئيس قسم
الحديث، وعضو الهيئة العلمية في جامعة آل البيت العالمية.
اسم
الكتاب:........................... نقد كتاب اُصول مذهب الشيعة
تأليف:..... أ.
د. محمد الحسيني القزويني بمساعدة اللجنة العلمية
الإخراج الفني وتدقيق المصادر:........................... حسن السعدي
الناشر:..................
مؤسسة وليّ العصر # للدراسات الإسلامية
رقم الإيداع
الدولي (ج3):...................... 9 ــ 31 ــ 8615 ــ 964 ــ 978
رقم الإيداع
الدولي للدورة:.................... 6 ــ 32 ــ 8615 ــ 964 ــ 978
الطبعة:............................................
الأولى/ 1434هـ ـ 2013م
عدد
النسخ:..................................................... 5000 نسخة
يحق للجميع طبع الكتاب ونشره مع إعلام المؤلف والناشر قبل
ذلك
د.
فلاح عبد الحسن الدوخي
د.
يحيى عبد الحسن الدوخي
د.حكمت
جارح الرحمة
السيّد
حاتم كاطع البخاتي
أ. د. السيّد
محمد الحسيني القزويني
إلى من كان رمز الجهاد
والتضحية والفداء، إلى من أفنى حياته في الدفاع عن حريم الإسلام وإعلاء كلمته، إلى
من وطّد أركان الإسلام بجهده وجهاده، إلى من كان همه الحفاظ على وحدة المسلمين
وتقوية شوكتهم في وجه أعدائه، إلى ابن عم النبي’ وأخيه، أمير المؤمنين علي ابن أبي
طالب× نهدي هذا الجهد المتواضع والبضاعة المزجاة، راجين من الله تعالى القبول.
ويتضمن فصلين:
الفصل الأول :شبهات حول
المهدي ×
الفصل الثاني: شبهات
حول التوسل
لم يكن الحديث عن عقيدة المهدي× حديثاً عن فكرة
خيالية أو مخترعة من قبل بعض في عصور متأخرة عن الإسلام، بل الحديث عنها يعدّ
حديثاً عن صميم العقائد الإسلامية التي ما انفكت تتنقل في أذهان المسلمين ووجدانهم
منذ الرعيل الأوّل وحتى عصرنا هذا، وليس من البعيد أن تكون تلك العقيدة ـ بما تعني
من وجود منقذ وعادل يعيد الاُمور إلى نصابها ـ قد سبقت الإسلام بقرون حملها واعتقد
بها أغلب أصحاب الديانات السماوية الاُخرى؛ إذ لا يعني بالضرورة أنّ كلّ التعاليم
التي جاء بها نبي الإسلام|كانت من مختصاته دون الأديان السابقة، بل هناك كثير من المسائل
الكلية كانت موجودة في الشرائع السابقة قبله وقد سعى الأنبياء لتبيينها، وإلى هذا
المعنى أشار أبو إسحاق الشاطبي في (الموافقات) قال: «وكثير من الآيات اُخبر فيها بأحكام كلِّية كانت في الشرائع
المتقدمة، وهي في شريعتنا ولا فرق بينهما»([1]).
ففكرة
المنقذ والمخلّص وخروجه في آخر الزمان لينقذ الاُمّة من الظلم والتعسف ويقيم العدل
والرخاء في أرجاء العالم هي فكرة بطبيعتها تتناغم مع فطرة الإنسان وارتكازاته، فهو
مجبول على الاعتقاد بها، كجبلته وفطرته القائمة على قبول الدين والإيمان بفكرة
الخالق تعالى، لذلك من الصعوبة بمكان أن يتجه التفكير إلى رفض هذه الفكرة إذا ما
فرضنا بقاء تلك الفطرة على نقائها وطهارتها، فالنزوع إلى رفضها بلا مبرر ـ مع
كونها من الثوابت المسلّمة في الدين الإسلامي كما سيتضح لاحقاً ـ يخالف مبادئ تلك
الفطرة أولاً، ويخالف تلك الثوابت التي آمنت بها كلّ الفرق والمذاهب الإسلامية، فهي
رغم خلافاتها الكثيرة إلاّ أنها لا ترفض فكرة ظهور المنقذ والمخلص الذي هو المهدي في
آخر الزمان، ابتداء من الشيعة بكلّ مذاهبها، مروراً بالخوارج والمعتزلة والأشاعرة،
وأهل الحديث والظاهرية، وغيرها، وانتهاءً بالوهابية السلفية، فهم ـ أي الوهابية ـ
أيضاً رغم انكماشهم في الفكر الديني، إلاّ أنّهم يعتقدون بظهور الإمام المهدي× بعد
أن بشَّر به النبي|، وبعد الاعتقاد بوجوب تصديق النبي|؛ كونه لا ينطق عن الهوى إن
هو إلاّ وحي يوحى، قال شيخ السلفية ابن تيمية: «وأحاديث المهدي معروفة، رواها الإمام أحمد وأبو داود
والترمذي وغيرهم»([2]).
وقد ذكر الشيخ الألباني
تصحيح خمسة من كبار العلماء لأحاديث المهدي, وهم الحاكم والذهبي وابن خلدون وابن حبان
والترمذي, وقال بعدها: >فهؤلاء خمسة من كبار أئمّة الحديث قد صحّحوا أحاديث خروج
المهدي ومعهم أضعافهم من المتقدمين والمتأخرين< ثم شرع بذكر أحد عشر عالماً قد صحّحوا أحاديث
ظهور المهدي([3]).
ونحن حينما نطالع ما كتبه
القفاري في شبهاته حول المهدي نجده قد استعمل أعنف عبارات الاتهام والطعن بالشيعة،
مستخدماً اُسلوب التهكّم والسخرية في كثير من الأحيان. مع أنهم لا يفترقون في
عقيدتهم مع أهل السنة في خصوص المهدي الموعود، نعم وقع الخلاف في مصداق المهدي في
الخارج، فأهل السنة يرون أنّه لم يولد بعدُ، وأنه سيولد في يومٍ ما، والشيعة ذهبت
ـ وفق ما آمنت به من أدلة شرعية صحيحة مستفيضة ـ إلى أنّه قد ولد، وهو محمد بن
الحسن العسكري×، ويعيش طيلة هذه السنين متوارياً عن الأنظار، منتظراً أمر ربه
بالخروج.
فالشيعة
الإمامية إذن يقولون بولادته، وبوجوده وحياته وغيبته وإنّه سيظهر بإذن الله تعالى،
وإنه الإمام الثاني عشر، وهو ابن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن
محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب^، ورواياتهم في ذلك معتبرة، وكثير منها
من الصحاح، بل بملاحظة مجموعها يحصل القطع بصدروها.
وهذه الروايات لم تكن قد
رويت بعد ولادته حتى يقال: إنّها من مخترعات الشيعة، بل هي مخرّجة في أصول الشيعة
وكتبهم المؤلفة قبل ولادة المهدي×.
فليس هناك ما يدعو القفاري إلى تلك الحملة العنيفة
التي فقد فيها توازنه كباحث عن الحقيقة، وراح يخلط الأوراق، ويكيل التهم
والافتراءات للشيعة واصفاً إياهم تارة بالجهل وتارة بعدم العقل، ولم تكن تلك التهم
مستندة إلى مبرر صحيح على الإطلاق، فلئن كان السبب ينحصر في تحديد مصداق المهدي
خارجاً وأنه يستلزم القول بطول عمره، فلا ندري ما هو الفرق الواضح بينه وبين من
يؤمن بحياة عيسى×([4])، ويؤمن بحياة الخضر×([5]) ويؤمن بطول عمر نوح، ويقرأ في القرآن: {فَلَبِثَ فِيهِم أَلْفَ سَنَةٍ إلاّ خَمْسِينَ عَاماً}([6]) ويؤمن بحياة إدريس وأن الله تعالى رفعه إلى السماء
الرابعة وقد رآه النبي’ في عروجه، ففي سنن الترمذي، قال: «حدثنا أنس بن مالك أن نبي الله (صلّى الله عليه وسلّم)
قال: لمّا عرج بي رأيت إدريس في السماء الرابعة. هذا حديث حسن صحيح»([7]).
ويؤمن بحياة الدجال
الكافر، ويروي روايات عن النبي| أنّ ابن صيّاد هو الدجال، وفيها دلالة واضحة في
أنّه كان حياً في عصر النبي| وأنّه يخرج في آخر الزمان([8])، وأمثال هذه الاُمور، فلماذا لا يغيب العقل عند من
يؤمن بذلك، ويغيب العقل عند من يؤمن بالمهدي كما يؤمن به الشيعة؟
ونحن
نعتقد ـ من خلال استقرائنا لما كَتَب في هذا البحث ـ أن القفاري لا يؤمن بفكرة
المهدوية من الأساس، وقد يتذرّع لذلك بعدة ذرائع، منها: أن تلك العقيدة لم تذكر
بشكل صريح في الصحيحين البخاري ومسلم، ومنها: أن أحاديث المهدي معارضة بأحاديث اُخرى
صحيحة تنفي المهدي، وغير ذلك من المبررات التي سنتعرّض إلى ذكرها لاحقاً.
وقبل
الدخول في الإجابة عن إشكالاته، سوف نتطرّق بشكل مختصر إلى بعض المسائل المهمة
التي تساهم في رفع بعض أوجه الخفاء التي قد تحيط بعقيدة المهدي عند بعض المسلمين
بشكل عام، وعند الشيعة بشكل خاص، ومن هذه المسائل:
1ـ
عالمية عقيدة المنقذ.
2ـ
صحة أحاديث المهدي× وتواترها.
3ـ حكم من أنكر المهدي× عند أهل السنة.
4ـ الأحاديث التي تحدد هوية المهدي×.
5ـ المهدي× من ولد فاطمة÷ ومن ولد الحسين×.
6ـ الأحاديث التي دلت على وجوده.
7ـ الأئمة الاثنا عشر هم أهل البيت^.
8ـ شبهة التعارض في أحاديث المهدي×.
9ـ شبهة عدم إخراج البخاري ومسلم لأحاديث المهدي×.
عالمية
الإيمان بفكرة المنقذ والمخلص
إنّ الإيمان بفكرة ظهور منقذ ومخلّص للبشرية في آخر
الزمان يتحقق على يديه إقامة دولة العدل والمساواة، وذلك بالقضاء على الظلم
والفساد في جميع العالم.
هذا الإيمان وهذه الفكرة قد تمسّكت بها معظم شعوب
الأرض واعتنقتها الأمم على مرّ العصور.
فقد آمن بها اليهود([9])، كما آمن النصارى
بعودة عيسى×([10])، وكذلك نجد فلاسفة
الغرب وعباقرته تؤمن بوجود منتظر مصلح يوحّد العالم على يديه وتترسخ مبادئ الحب
والإخاء في دولته. ومن هؤلاء العلماء:
الفيلسوف الإنجليزي (برتراند راسل)، حيث يقول: «إنّ
العالم في انتظار مصلح يوحِّد العالم تحت علم واحد وشعار واحد»([11]).
آينشتاين صاحب النظرية
النسبية، قال: «إنّ
اليوم الذي يَسُود العالم كلّه الصلح والصفاء، ويكون الناس مُتَحَابِّينَ
مُتَآخِينَ ليس ببعيد»([12]).
إذن هناك يوم ينتظره
العالم يسود فيه الصلح والصفاء، وذلك من خلال منقذ يوحّده، وهذه حقيقة فطرية
أوجدها الله تعالى في النفس البشرية وهي تعيش في أعماق عقله ويشعر بها الضمير
الإنساني، والعقل أيضاً يدرك في كينونته أن العالم قائم على موازين العدالة والحق،
وإلاّ لزم الفوضى والعبثية، وهو محال في ساحة قدسه تعالى، ومعلوم أن الإسلام يمثّل
الرسالة العالمية والرحمة الإلهية {وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إلاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}([13]).
فهذا الدين الذي أنقذ العالم من الجاهلية وظلماتها
سوف يعود مرة اُخرى بمصلح عالمي ينشر العدالة الربانية، ويقضي على الفوضى والجهل،
ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، قال تعالى: {وَنُرِيدُ
أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ
أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}([14]).
أخرج أحمد بن حنبل في
مسنده بسنده عن أبي الطفيل، قال حجاج: «سمعت
علياً (رضي
الله عنه)،
يقول: قال رسول الله (صلّى
الله عليه وسلّم): لو
لم يبق من الدنيا إلاّ يوم لبعث الله عزّ وجلّ رجلاً منّا يملؤها عدلاً، كما ملئت
جوراً»([15]).
وقال الإمام علي×: «لتعطفن
الدنيا علينا بعد شماسها عطف الضروس على ولدها» ثم تلا× الآية
المتقدمة {وَنُرِيدُ
أَن نَّمُنَّ ...}، وقد علّق ابن أبي
الحديد، قائلاً: «وأصحابنا
يقولون: إنّه وعد بإمام يملك الأرض ويستولي على الممالك»([16]).
وما ذلك الإمام إلاّ المهدي× من ولد النبي الأكرم،
قال’: «والذي
بعثني بالحق بشيراً لو لم يكن في الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى
يخرج منه ولدي المهدي، فينزل روح الله عيسى بن مريم، فيصلّي خلفه، فتشرق الأرض
بنور ربها، ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب»([17]). أي يبلغ سلطانه جميع
العالم شرقاً وغرباً ويسود العدل تلك البقاع، ويقضي على الظلم عند قيام دولته
المباركة.
لذا نجد أنّ ابن خلدون يصرّح باتفاق المسلمين على
ظهور رجل من أهل البيت^ اسمه المهدي×. قال: «إنّ
في المشهور بين الكافّة من أهل الإسلام على ممرّ الأعصار، أنّه لابدّ في آخر
الزمان من ظهور رجل من أهل البيت، يؤيد الدين ويظهر العدل ويتبعه المسلمون ويستولي
على الممالك الإسلامية ويسمّى بالمهدي، ويكون خروج الدجال وما بعده من أشراط
الساعة الثابتة في الصحيح على أثره، وأن عيسى ينزل من بعده»([18]).
وكذلك أحمد أمين بعد نقله
اعتراف ابن خلدون الآنف الذكر، قال: «قد
أحصى ابن حجر الأحاديث المروية في المهدي، فوجدها نحو الخمسين»([19]).
إذن؛
فالإيمان بظهور المنقذ والمخلّص متفق عليه بين المسلمين وغيرهم، وكلام ابن حجر
الذي نقله أحمد أمين، المعروف بإنكاره لفكرة المهدي×، يشهد بوجود خمسين حديثاً
وبطرق مختلفة تؤكد هذا المعنى، لذا نجد أن هناك من جعل المهدي× من أشراط الساعة،
وقد اُلّفت الكتب في هذا المجال، وثبتت صحة هذه الأحاديث وتواترها، كما سيأتي ذكره
في الأبحاث اللاحقة.
إنّ أحاديث الإمام
المهدي× استفاضت، بل تواترت ومنكرها يعد منكراً للضروريات والبدَهيات، ولعلّنا لا
نجد كثرة الأحاديث الصحيحة في مصادر الفريقين في موضوع ما كما نجده في وجود
المهدي× وظهوره.
وإليك جملة ممن قالوا بصحة هذه الأحاديث:
1ـ الترمذي (ت/ 279هـ).
ذكر ثلاثة أحاديث
ووصفها بالصحيح أو الحسن، في باب ما جاء في المهدي، عن رسول الله|، قال: «لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ
اسمه اسمي»، وقال عنه الترمذي: «هذا حديث صحيح»([20]).
وعن رسول الله| أيضاً: «يلي
رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي»([21])،
وعنه أيضاً: «إنّ
في أمتي المهدي يخرج ويعيش خمساً أو سبعاً ...» قال الترمذي: «هذا
حديث حسن»([22]).
2ـ الحاكم النيسابوري (ت/ 405 هـ).
صحّح الحاكم جملة من
الأحاديث، كقوله|: «... إذا رأيتموه فبايعوه ولو حبوا على الثلج، فإنّه
خليفة الله المهدي» قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين»([23]). وغير ذلك من الأحاديث.
نقل عبارته المزي في تهذيبه حيث قال: «والأحاديث في التنصيص على خروج المهدي أصحّ إسناداً،
وفيها بيان كونه من عترة النبي (صلّى الله عليه وسلّم)»([24]).
4ـ البغوي (ت/ حدود 510 هـ أو 516 هـ).
أورد ثلاثة أحاديث في
المهدي، في كتابه (شرح السنة)، باب المهدي، ثم صحّح الحديث الثالث: «عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم): يخرج في آخر الزمان خليفة يعطي المال بغير عدد»، ثم علّق عليه قائلا ً: «هذا حديث صحيح أخرجه مسلم»([25]).
قال في كتابه (التذكرة
في أحوال الموتى واُمور الآخرة)، في معرض كلامه حول حديث: >لا مهدي إلاّ عيسى بن مريم<: «إسناده ضعيف، والأحاديث عن النبي (صلّى الله عليه وسلّم) في التنصيص على خروج المهدي من عترته من ولد فاطمة
ثابتة أصحّ من هذا الحديث، فالحكم لها دونه»([26]).
قال في معرض تعليقه على
حديث >يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي اسمه اسمي ...<: «إنّ الأحاديث التي يحتجّ بها على خروج المهدي أحاديث
صحيحة، رواها أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم من حديث ابن مسعود وغيره»([27]).
سكت عمّا صحّحه الحاكم في مستدركه من أحاديث المهدي،
وصرّح بصحة الحديث المروي عن أبي سعيد: «يخرج في آخر أمتي المهدي يسقيه الله الغيث. ويخرج
الأرض نباتها ويعطي المال صحاحاً ...»([28]).
8ـ محمد ناصر الألباني (ت/ 1420 هـ).
ذكر في مقال له بعنوان (حول المهدي) ما نصّه: «أمّا مسألة المهدي فليعلم أنّ في خروجه أحاديث صحيحة،
قسم كبير منها له أسانيد صحيحة»([29]).
لم تكن بعض الأحاديث في الإمام المهدي× صحيحة فحسب،
بل بلغت كثرتها حدّ التواتر، وقد قال بهذا التواتر كبار علماء أهل السنة، منهم:
1ـ الحافظ أبو الحسن محمد بن الحسين الآبري السجزي (ت/
363هـ).
قال: «وقد تواترت الأخبار واستفاضت عن المصطفى (صلّى الله عليه وسلّم) في المهدي وأنّه من أهل بيته، وأنّه يملك سبع سنين، وأنّه
يملأ الأرض عدلاً وأنّ عيسى× يخرج فيساعده على قتل الدجال، وأنّه يؤمّ هذه الاُمّة
ويصلّي عيسى خلفه، في طول من قصّته وأمره»([30]).
2ـ القرطبي المالكي (ت/ 716 هـ)، في تعليقه على حديث
(المهدي هو عيسى فقط)، قال: «الأخبار
الصحاح قد تواترت على أن المهدي من عترة الرسول (صلّى
الله عليه وسلّم)»([31]).
3ـ الحافظ جمال الدين المزّي (ت/ 742 هـ)، نقل قول
الآبري المتقدّم وارتضاه وهو كاشف عن إيمانه به([32]).
بعد أن نقل قول الآبري
ذكر الأحاديث الصحيحة التي تؤيد قول الآبري([33]).
قال
في رسالته المسمّاة: (الرد على من حكم وقضى أنّ المهدي الموعود جاء ومضى): «لا شكّ
أنّ وجود المهدي الموعود ثبت بالأحاديث والآثار نحو من ثلاثمائة فصاعداً»([34]).
وواضح أنّ هذا العدد من الأحاديث والآثار يحقق
بل، يفوق التواتر.
6ـ القاضي محمد بن علي الشوكاني (ت/ 1255هـ).
قال الكتاني في (نظم المتناثر) نقلاً عن الشوكاني: «والأحاديث
الواردة في المهدي التي أمكن الوقوف عليها منها خمسون حديثاً فيها الصحيح والحسن
والضعيف المنجبر، وهي متواترة بلا شك ولا شبهة، بل يصدق وصف التواتر على ما هو
دونها في جميع الاصطلاحات المحرّرة في الأصول، وأمّا الآثار عن الصحابة المصرحة
بالمهدي فهي كثيرة أيضاً، لها حكم الرفع، إذ لا مجال للاجتهاد في مثل ذلك»([35]).
7ـ الشيخ محمد بن جعفر الكتاني (ت/ 1345هـ).
ذكر في كتابه (نظم المتناثر من الحديث المتواتر) من خرّج أحاديث الإمام المهدي× من الصحابة،
فقال: «خروج المهدي الموعود المنتظر الفاطمي [روي] عن:
1ـ ابن مسعود، أخرجه أحمد وأبو
داود والترمذي وابن ماجه.
2ـ وأمّ سلمة: أخرجه أبو داود
وابن ماجه والحاكم في المستدرك.
3ـ وعلي بن أبي طالب: أخرجه
أحمد وأبو داود وابن ماجه.
4ـ وأبي سعيد الخدري: أخرجه
أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأبو يعلى والحاكم في المستدرك.
5ـ وثوبان: أخرجه أحمد وابن ماجه
والحاكم في المستدرك.
6ـ وقرة بن إياس المزني: أخرجه
البزار والطبراني في الكبير والأوسط.
7ـ وعبد الله بن الحارث: أخرجه
ابن ماجه والطبراني في الأوسط.
8ـ وأبي هريرة: أخرجه أحمد
والترمذي وأبو يعلى والبزار في مسندهما والطبراني في الأوسط وغيرهم.
9ـ وحذيفة بن اليمان: أخرجه
الروياني.
10ـ وابن عباس: أخرجه أبو نعيم
في أخبار المهدي.
11ـ وجابر بن عبد الله: أخرجه
أحمد ومسلم إلاّ أنّه ليس فيه تصريح بذكر المهدي، بل أحاديث مسلم كلّها لم يقع
فيها تصريح به.
12ـ وعثمان: أخرجه الدارقطني في
الأفراد.
13ـ وأبي اُمامة: أخرجه الطبراني
في الكبير.
14ـ وعمار بن ياسر: أخرجه
الدارقطني في الأفراد والخطيب وابن عساكر.
15ـ وجابر ابن ماجد الصدفي: أخرجه
الطبراني في الكبير.
16ـ وابن
عمر.
17ـ وطلحة بن عبيد الله: أخرجهما
الطبراني في الأوسط.
18ـ وأنس بن مالك: أخرجه ابن ماجه.
19ـ وعبد الرحمان بن عوف: أخرجه
أبو نعيم.
20ـ وعمران بن حصين: أخرجه
الإمام أبو عمرو الداني في سننه. وغيرهم»
ثم قال الكتّاني: «...
والحاصل أنّ الأحاديث الواردة في المهدي المنتظر متواترة، وكذا الواردة في الدجال
وفي نزول سيدنا عيسى بن مريم×»([36]).
8ـ أحمد بن محمد بن الصديق أبو الفيض الغماري (ت/
1380هـ).
قال في مقدمة كتابه (إبراز الوهم المكنون في كلام ابن خلدون): «ظهور الخليفة الأكبر ... محمد بن عبد الله المنتظر،
قد تواترت بكونه من أعلام الساعة وأشراطها، وصحّت عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في ذلك الآثار، وشاع ذكره وانتشر خبره بين الكافة
من أهل الإسلام على مرّ الدهور والأعصار. فالإيمان بخروجه واجب، واعتقاد ظهوره ـ تصديقاً لخبر الرسول ـ محتّم لازب»([37]).
ونحن وإن كنّا نتفق مع
اعتقاد الغماري في تواتر أحاديث الإمام المهدي× وانتشار خبره بين أهل الإسلام
كافة، ولكن لا نشاطره الرأي في أن خليفة الله الأكبر هو (محمد بن عبد الله) بل نعتقد أنّه (محمد بن الحسن العسكري) وذلك وفقاً لنصوص
صحيحة ومتواترة في كونه من ولد علي وفاطمة والحسين^، وكذلك ما أجمع وأطبق عليه علماء الإمامية
وجمع من علماء أهل السنة، من كونه من ولد الحسن العسكري× كما سيأتي ذلك لاحقاً.
9ـ ابن باز، مفتي السعودية العام سابقاً، ورئيس
الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، قال: «إنّ
أمر المهدي معلوم، والأحاديث فيه مستفيضة، بل متواترة متعاضدة، وقد حكى غير واحد
من أهل العلم تواترها، وهي متواترة تواتراً معنوياً؛ لكثرة طرقها واختلاف مخارجها
ورواتها وألفاظها، فهي بحق تدل على أن هذا الشخص الموعود به، أمره ثابت وخروجه حق»([38]).
إذن تواتر أحاديث الإمام المهدي× واستفاضتها حقيقة
ثابتة وواضحة، وقد اعترف بها معظم علماء المسلمين، ومن تنكّر لها فهو شاذّ نادر،
ولا عبرة بكلامه.
النصوص المبشرة بالإمام المهدي× قبل
ولادته
إنّ الإيمان بالإمام المهدي× الذي تؤمن به الشيعة
الإمامية لم يكن خيالاً أو أسطورة كما يزعم البعض؛ بل جاء على إثر النصوص الصحيحة
والصريحة التي تبشّر به وتتحدث عنه، وهو الذي يملأ الأرض عدلاً بعدما ملئت ظلماً
وجوراً.
ويمكن تقسيم تلك النصوص إلى طائفتين: طائفة حدّدت
شخصية الإمام وهويته، وكونه من أهل البيت^، ومن ذرية رسول الله’، ومن ولد فاطمة ÷، وإنه من ولد الحسين×.
وطائفة اُخرى من الأحاديث لا تنطبق بمعناها العام
إلاّ على الإمام المهدي×: كحديث (الاثني عشر) و(الثقلين) وحديث (لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة) والتي تفيد ضرورة وجوده واستمرار حياته، وليس
هناك تطبيق صحيح لهذه الأحاديث سوى ما تذهب إليه المدرسة الإمامية، كما سيأتي.
الأحاديث
التي تحدد هوية وشخصية الإمام المهدي×
وردت عدة روايات في أن المهدي× من عترة رسول الله| وأهل
بيته جاءت بعدة ألفاظ كقوله|: >المهدي
من عترتي< أو: >من
أهل بيتي<، أو قوله: >منّا<، أو: >من
ولدي<، وكلّها تؤدي إلى
معنى واحد هو أنّ المهدي من أهل بيت رسول الله| ومن هذه الروايات:
1ـ أخرج أبو داود في سننه، وابن أبي شيبة، عن علي×
عن رسول الله’، قال: «لو لم
يبق من الدهر إلاّ يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً»([39]).
وقال الطبرسي في مجمع
البيان: «رواه
الخاص والعام عن النبي’، أنّه
قال: لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد، لطوّل الله ذلك اليوم، حتى يبعث رجلاً
صالحاً من أهل بيتي، يملأ الأرض عدلاً وقسطاً، كما قد ملئت ظلماً وجوراً»([40]).
وقد تكلم ابن خلدون عن
هذا الحديث؛ لأن في سنده فطر بن خليفة، حيث قال: «وقطن
بن خليفة وإن وثّقه أحمد ويحيى بن القطان وابن معين والنسائي وغيرهم إلاّ أن
العجلي قال: حسن الحديث وفيه تشيّع قليل.. وقال أحمد بن عبد الله بن يونس: كنا
نمرّ على قطن وهو مطروح لا نكتب عنه ... وقال الدارقطني: لا يحتجّ به ...»([41]).
أولاً: الصواب هو (فطر) وليس (قطن)، وقد وثّق، وهذا واضح لمن تتبّع ترجمته، ولا نعلم
هل كان هذا خلطاً من ابن خلدون أم أنّه من خطأ النسّاخ([42]).
ثانياً: قال المزّي في تهذيبه: «قال
عبد الله بن حنبل عن أبيه: ثقة صالح الحديث، قال: وقال أبي: كان فطر عند يحيى بن
سعيد ثقة، وقال أبو بكر بن أبي خيثمة، عن يحيى بن معين: ثقة، وقال العجلي: كوفي
ثقة حسن الحديث.
وقال أبو حاتم: صالح الحديث كان يحيى بن سعيد يرضاه
ويحسن القول فيه ويحدّث عنه، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال في موضع آخر: ثقة
حافظ كيّس»([43]).
وقال العظيم آبادي: «وثّقه
أحمد بن حنبل ويحيى بن سعيد القطان ويحيى بن معين والنسائي والعجلي وابن سعد
والساجي، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وأخرج له البخاري. ويكفي توثيق هؤلاء الأئمة
لعدالته، فلا يلتفت إلى قول ابن يونس وأبي بكر بن عياش الجوزجاني في تضعيفه؛ بل هو
قول مردود. والله أعلم»([44]).
فالرجل موثّق ورواياته معتبرة، ولا عبرة بقول ابن
خلدون وغيره.
2ـ أخرج أبو يعلى وابن حبّان والحاكم النيسابوري عن
أبي سعيد (رضي
الله عنه)، قال: «قال
رسول الله (صلّى
الله عليه وسلّم): لا
تقوم الساعة حتى تمتلئ الأرض ظلماً وعدواناً، ثم يخرج رجل من أهل بيتي، فيملؤها
قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وعدواناً»([45]).
وهذا الحديث صحّحه
الحاكم النيسابوري، قائلاً: «هذا
حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه»([46]).
3ـ أخرج أحمد بسنده عن أبي
سعيد أن رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) قال: «تملأ
الأرض ظلماً وجوراً، ثم يخرج رجل من عترتي يملك سبعاً أو تسعاً فيملأ الأرض قسطاً
وعدلاً»([47]).
4ـ روى المقدسي الشافعي في (عقد الدرر) عن علي× أنّه
قال للنبي’: «أمِنَّا
المهدي أم من غيرنا يا رسول الله؟ قال: بل منّا، يختم الله به الدين كما فتحه ...».
ثم عقّب عليه، فقال: «أخرجه
جماعة من الحفاظ في كتبهم، منهم أبو القاسم الطبراني، وأبو نعيم الأصبهاني، وعبد
الرحمن بن أبي حاتم، وأبو عبد الله نعيم بن حماد، وغيرهم وفيه (أمنا
المهدي أو من غيرنا؟ بل منا، يختم الله به الدين، كما فتحه بنا) وزاد
في روايته الثانية. (وبنا
ينقذون من الفتن، كما أنقذوا من الشرك) ...»([48]).
وعن الكنجي الشافعي في
كتابه (البيان في أخبار صاحب الزمان): «قلت:
هذا حديث حسن عال، رواه الحفاظ في كتبهم»([49]).
5ـ أخرج أبو
داود في سننه ـ واللفظ له ـ والطبراني في الأوسط عن أبي سعيد الخدري، عن النبي’:
«المهدي
مني، أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً،
يملك سبع سنين»([50]).
قال المباركفوري في تحفة الأحوذي: «أمّا
حديث أبي سعيد فأخرجه أبو داود عنه مرفوعاً: (المهدي
مني، أجلى الجبهة أقنى الأنف يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً ويملك
سبع سنين)، قال
المنذري: في إسناده عمران القطان وهو أبو العوام عمران بن داود القطان البصري، استشهد
به البخاري ووثقه عفان بن مسلم، وأحسن عليه الثناء يحيى بن سعيد القطان»([51]).
6ـ روى الجويني الشافعي في (فرائد السمطين)،
والقندوزي الحنفي في (ينابيع المودة) عن أمير المؤمنين×، عن رسول الله’ قال: «المهدي
من ولدي تكون له غيبة وحيرة تضلّ فيها الأمم، يأتي بذخيرة الأنبياء^،
فيملؤها عدلاً وقسطاً، كما ملئت جوراً وظلماً»([52]).
1ـ قال ابن حجر الهيتمي
في صواعقه، عند تعليقه على الأحاديث الواردة في زواج علي من فاطمة ÷: «وقد
ظهرت بركة دعائه في نسلهما، فكان منه من مضى ومن يأتي ولو لم يكن في الآتين إلاّ
الإمام المهدي لكفى، وسيأتي في الفصل الثاني جملة مستكثرة من الأحاديث المبشّرة به،
ومن ذلك ما أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه والبيهقي وآخرون، المهدي من
عترتي من ولد فاطمة»([53]).
فالظاهر أنّ مسلماً في صحيحه أخرج هذا الحديث بشهادة
ابن حجر الهيتمي المتقدمة، ولكننا لم نجد اليوم هذا الحديث في النسخ الحديثة،
ولعلّ يد التحريف أسقطته، ولكن هذا لا يضر، لوجود الأحاديث التي سوف تأتي، وإن لم
يذكرها مسلم والبخاري، فالعبرة بصحة الحديث ولحاظ رواته وطرقه، وإن لم يذكراه.
فهذا الحديث أخرجه بطريق صحيح ابن ماجه، وأبو داود
في سننهما، والطبراني في معجمه، والحاكم النيسابوري في مستدركه: «عن
أمّ سلمة، عن النبي (صلّى
الله عليه وسلّم) أنّه
قال: المهدي من ولد فاطمة»([54]).
قال الكنجي الشافعي: «هذا
حديث حسن صحيح أخرجه ابن ماجه، كما أخرجناه ورويناه عالياً»([55]).
وكذلك أخرجه البخاري في تاريخه: «عن
أمّ سلمة عن النبي (صلّى
الله عليه وسلّم):
المهدي حقّ، وهو من ولد فاطمة»([56]).
قال السيوطي في الجامع الصغير عن أمّ سلمة: «المهدي
من عترتي من ولد فاطمة»([57])، وصححه الألباني([58]).
2ـ أخرج نعيم بن حماد
في (الفتن)، وأبو عمرو الداني في سننه: «عن
عبد الرزاق، عن معمر، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، قال: قلت لسعيد بن المسيب: المهدي
حق؟ قال: حق، قال: قلت: ممن هو؟ قال: من قريش، قلت: من أي قريش؟ قال: من بني هاشم،
قلت: من أي بني هاشم؟ قال: من بني عبد المطلب، قلت: من أي عبد المطلب؟ قال: من ولد
فاطمة»([59]).
وكذلك أخرج البخاري في
تاريخه عن ابن المسيب: «المهدي
من ولد فاطمة»([60]).
3ـ قال العجلوني بعد أن أورد حديث: >المهدي
من ولد فاطمة<: «ورد
ذكره في أحاديث أفردها بعض الحفاظ بالتأليف: منهم الحافظ السخاوي في كتاب سمّاه
ارتقاء الغرف، ومنهم ابن حجر الهيتمي في جزء سمّاه القول المختصر في أحوال المهدي
المنتظر، وكذلك ذكر كثيراً منها في الفتاوى الحديثية، وكذلك شيخنا البرزنجي في (الإشاعة) فمن
تلك الأحاديث: ما أخرجه أبو داود وابن ماجه عن أمّ سلمة مرفوعاً (المهدي
من ولد فاطمة)»([61]).
إلى هنا نكاد نقترب من حقيقة ونسب المهدي المنتظر،
وقد نقترب أكثر حينما نعرف أن المهدي× إلى أي ولد من أولاد فاطمة ينتمي، والروايات
تفيد بأنه ينتمي إلى الحسين× وليس إلى الحسن×.
1ـ أخرج الكنجي الشافعي
في (البيان في أخبار صاحب الزمان) بسنده عن حذيفة، قال: قال رسول الله (صلّى
الله عليه وسلّم): «لو
لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لبعث الله فيه رجلاً، اسمه اسمي وخلقه خلقي، يكنى
أبا عبد الله، يبايع له الناس بين الركن والمقام، ّيرد الله به الدين، ويفتح له
الفتوح، فلا يبقى على ظهر الأرض إلاّ من يقول لا إله إلاّ الله.
فقال سلمان: يا رسول الله من أي ولدك هو؟ قال: من ولد
ابني هذا، وضرب بيده على الحسين»، ثمّ قال الكنجي
الشافعي: «قلت:
هذا حديث حسن رزقناه عالياً بحمد الله»([62]).
وأخرج أيضاً بسنده عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله’،
أنّه قال: «يا
فاطمة، إنّا أهل بيت أعطينا ست خصال لم يعطها أحد من الأوّلين، ولا يدركها أحد من
الآخرين غيرنا أهل البيت، نبيّنا خير الأنبياء وهو أبوك ... ومنّا مهدي الاُمّة
الذي يصلّي عيسى خلفه، ثم ضرب على منكب الحسين×، فقال: من هذا مهديّ الاُمّة»([63])، وعلّق الكنجي الشافعي
عن هذا الحديث قائلاً: «قلت:
هكذا أخرجه الدارقطني صاحب الجرح والتعديل»([64]).
2ـ في (عقد الدرر) للمقدسي الشافعي عن الإمام
الباقر× في حديث طويل جاء فيه: «والمهدي
يا جابر رجل من ولد الحسين»([65]).
3ـ في (كتاب الفتن) لابن حماد المروزي عن أبي قبيل، قال:
«يخرج
رجل من ولد الحسين، من قبل المشرق لو استقبلته الجبال لهدّها واتخذ فيها طرقاً»([66]).
4ـ في (ينابيع المودة)، للقندوزي الحنفي: «عن
علي (كرم
الله وجهه) قال:
قال رسول الله (صلّى
الله عليه وسلّم): لا
تذهب الدنيا حتى يقوم بأمتي رجل من ولد الحسين يملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً»([67]).
المهدي
ليس من ولد الإمام الحسن×
وأمّا ما جاء من أنّ المهدي× من ولد الحسن× فلا يوجد
ما يدلّ عليه في كتب أهل السنة إلاّ حديث واحد فقط أخرجه أبو داود السجستاني في
سننه، قال: «حُدِّثْتُ
عن هارون بن المغيرة، قال: حدثنا عمر بن أبي قيس، عن شعيب بن خالد، عن أبي إسحاق،
قال: قال علي (رضي الله
عنه) ـ
ونظر إلى ابنه الحسن ـ فقال: إنّ ابني هذا سيّد كما سمّاه النبي (صلّى
الله عليه وسلّم)،
وسيخرج من صلبه رجل يسمّى باسم نبيّكم، يشبهه في الخُلُق ولا يشبهه في الخَلْق، ثم
ذكر قصة: يملأ الأرض عدلاً»([68]).
وعند دراسة سند الحديث ومتنه، ومقارنة ذلك بأحاديث
كون المهدي من ولد الحسين×، يتّضح ضعف الحديث وربما وضعه؛ لأسباب ستتضح خلال البحث.
ضعف
سند حديث أن المهدي× من ولد الحسن
نقول: إنّ هذا الحديث
ضعيف السند من جهتين:
الاُولى: أنّ أبا داود لم يروِه
عن هارون بن المغيرة نفسه، وإنما رواه عمّن حدَّثه عنه، فيكون الحديث منقطعاً.
الثانية: أنّ أبا إسحاق السبيعي
لم يروِ عن أمير المؤمنين× وإنّما رآه رؤية، قال المنذري: >هذا
[الحديث] منقطع، أبو إسحاق السبيعي رأى عليّاً× رؤية<([69])، وقد كان عمره يوم
شهادة أمير المؤمنين× سبع سنين؛ لأنّه ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان في قول ابن
حجر([70]).
وضعّفه الألباني في السلسلة الضعيفة([71])، وفي تعليقته على
مشكاة المصابيح، قال معلّقاً على الحديث: «وإسناد
الحديث ضعيف»([72]).
اختُلف في نقل الحديث
عن أبي داود، فقد أورد الجزري الشافعي (ت 833هـ) هذا الحديث بسنده عن أبي داود
نفسه وفيه اسم: الحسين مكان الحسن، فقال: «والأصح
أنّه من ذرية الحسين بن علي لنصّ أمير المؤمنين علي على ذلك، فيما أخبرنا به شيخنا
المسند رحلة زمانه عمر بن الحسن الرّقي ... أنبأنا أبو داود الحافظ قال: حُدِّثْتُ
عن هارون بن المغيرة، قال: حدثنا عمر بن أبي قيس، عن شعيب بن خالد، عن أبي إسحاق،
قال: قال علي× ـ
ونظر إلى ابنه الحسين، ـ فقال: إنَّ ابني هذا سيّد كما سمّاه النبي (صلّى
الله عليه وسلّم)...»([73]).
وقال القندوزي الحنفي: «وعن
أبي إسحاق، قال: قال علي ـ ونظر إلى ابنه الحسين ـ قال: إنّ ابني هذا سيّد... ثم
ذكر قصة: يملأ الأرض عدلاً (رواه أبو داود ولم يذكر القصة)»([74]).
وهذا
الاختلاف في النقل يجعلنا لا نثق بصحّة صدور الحديث بهذا اللفظ ما لم يعتضد بدليل
آخر غير هذا الحديث، وهو مفقود، فيبقى احتمال أنّ اللفظ الصحيح هو الحسين بدل
الحسن‘ لوجود الأدلة الكثيرة على ذلك.
يحتمل قوياً حصول التصحيف في الاسم من الحسين إلى
الحسن في حديث أبي داود بقرينة اختلاف النقل، إمّا من دون قصد أو عن قصد وعمد،
ويؤيد الاحتمال الثاني أنّ الحسنيّين وأتباعهم وأنصارهم زعموا مهدوية محمد بن عبد
الله بن الحسن المثنى ابن الإمام الحسن السبط×، الذي قتل سنة145هـ في زمن المنصور
العباسي، فربما وضعوا هذا الحديث أو حرّفوه؛ وذلك من أجل تحقيق أهداف ومصالح
سياسية كبيرة لا يمكن الوصول إليها بسهولة من دون اختلاق هكذا حديث([75])، فالراوي لا يريد أن يواصل الحديث ويثبت أنّه من
ولد الحسين× حتى لا يصير ورقة بيد الشيعة في إثبات ما تذهب إليه من أن المهدي من
ولد الحسين×. والأمثلة على إخفاء مثل هذه الحقائق كثيرة.
الأحاديث
العامة الدالة على هويته واستمرار وجوده×
بعد أن تعرّضنا لذكر الأحاديث الخاصة، ننتقل إلى ذكر الأحاديث التي تكلّمت بشكل عام عن الإمام المهدي× ولم تشخّص هويته، لكنّ هذه الأحاديث ليس لها مصداق صحيح إلاّ المهدي الذي التي تذهب إليه الشيعة.
ومن النصوص التي تدلّ على هويته بشكل عام واستمرار
وجوده وبقائه حيّاً، هو ما أخبر به رسول الله’ في جملة من الأحاديث نذكر منها:
أـ أخرج البخاري في الصحيح في كتاب الأحكام بسنده عن
جابر بن سمرة، قال: «سمعت
النبي (صلّى
الله عليه وسلّم)،
يقول: يكون اثنا عشر أميراً، فقال كلمة لم أسمعها، فقال لي: إنّه قال: كلّهم من
قريش»([76]).
ب ـ أخرج مسلم في الصحيح في كتاب الإمارة بسنده «عن
جابر بن سمرة، قال: سمعت النبي (صلّى
الله عليه وسلّم)،
يقول: لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً، ثم تكلّم النبي (صلّى
الله عليه وسلّم)
بكلمة خفيت عليّ، فسألت أبي: ماذا قال رسول الله (صلّى
الله عليه وسلّم)؟
فقال: كلّهم من قريش»([77]).
وأخرج أيضاً بسنده «عن
جابر بن سمرة، قال: دخلت مع أبي على النبي (صلّى
الله عليه وسلّم)
فسمعته يقول: إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة، قال: ثم تكلّم
بكلام خفي عليّ، قال: فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلّهم من قريش»([78]).
ج ـ أخرج الترمذي في
السنن كتاب الفتن بسنده «عن
جابر بن سمرة، قال: قال رسول الله (صلّى
الله عليه وسلّم):
يكون من بعدي اثنا عشر أميراً، قال: ثم تكلّم بشيء لم أفهمه، فسألت الذي يلي،
فقال: كلّهم من قريش»، وقال الترمذي
معلّقاً: «هذا
حديث حسن»([79]).
د ـ
أخرج أبو داود في السنن بسنده:
«عن جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) يقول: لا يزال هذا
الدين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم تجتمع عليه الاُمّة، فسمعت
كلاماً من النبي (صلّى الله عليه وسلّم) لم أفهمه، قلت لأبي: ما يقول؟ قال: كلّهم
من قريش»([80]).
وفي رواية اُخرى عن
جابر بن سمرة، قال:
«سمعت
رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) يقول: لا يزال هذا الدين عزيزاً إلى اثني عشر
خليفة، فكبّر الناس وضجّوا، ثم قال كلمة خفيّة، قلت لأبي: يا أبتِ، ما قال؟ قال:
كلّهم من قريش»([81]).
هـ ـ أخرج أبو يعلى في مسنده ـ واللفظ له ـ والطبراني
في المعجم الكبير، والحاكم النيسابوري في مستدركه: «عن
الشعبي، عن مسروق، قال: كنّا جلوساً عند ابن مسعود ليلة بالمغرب، وهو يقرئنا
القرآن، فسأله رجل: يا أبا عبد الرحمن، أسألتم رسول الله (صلّى
الله عليه وسلّم) كم
يملك هذه الاُمّة من خليفة؟ فقال ابن مسعود: ما سألني مذ قدمت العراق قبلك، قال: نعم،
سألنا رسول الله (صلّى
الله عليه وسلّم)، فقال:
اثنا عشر عدّة نقباء بني إسرائيل»([82]).
وأخرج الطبراني في
الكبير بسنده عن جابر بن سمرة، قال: «كنت
مع أبي عند النبي (صلّى
الله عليه وسلّم)،
فقال: يكون لهذه الاُمّة اثنا عشر قيّماً لا يضرّهم من خذلهم»([83]).
وأخرج أيضاً عن جابر عن النبي|، قال: «اثنا
عشر قيّماً من قريش لا يضرّهم عداوة من عاداهم»([84]).
وفي ضوء هذه الأحاديث نستنتج ما يلي:
أولاً: حصر الأئمة باثني عشر خليفة.
ثانياً: إن هوية هؤلاء الأئمة أنهم من قريش؛ بل ومن بني هاشم
تحديداً، كما روي ذلك عن عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سمرة: «كنت
مع أبي عند رسول الله (صلّى
الله عليه وآله وسلّم)،
فسمعته يقول: بعدي اثنا عشر خليفة، ثم أخفى صوته، فقلت لأبي: ما الذي أخفى صوته؟
قال: قال: كلّهم من بني هاشم»([85]).
ثالثاً: إنّ اختياره’ للمقارنة بينهم وبين عدة نقباء بني إسرائيل فيه
دلالة واضحة على أنّ خلافتهم ليست بانتخاب من الناس، بل تعيين من الله، فقد قال
الله تعالى عن النقباء: {وَبَعَثْنَا
مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً}([86]).
رابعاً: عدم خلو الزمان منهم؛ لأن قيام الدين وعزته مقرونة
بهم^.
خامساً: إن من خصائص ومميّزات هؤلاء الاثني عشر أنّهم لا
يضرهم خذلان من خذلهم، ولا عداوة من عاداهم، لأنهم على الهدى ودين الحق، وهم هداة
الاُمّة وقادتها الحقيقيون.
وبناءً على ما تقدّم؛
يطرح سؤال مهم وهو: هل يوجد خلفاء فيهم هذه المزايا؟ وهل تحقّقت عزّة الإسلام
وأهدافه في خلافة معاوية وابنه يزيد وأمثالهما في الدولتين الأموية والعباسية؟ أم
أن هناك أئمة تصدق وتنطبق عليهم هذه الأحاديث؟
الأئمة
الاثنا عشر هم أئمة أهل البيت^
لقد روي من طرق أهل
السنة في كتاب (ينابيع المودة) عن أبي الطفيل عامر بن واثلة عن علي×، قال: «قال
رسول الله (صلّى
الله عليه وسلّم): يا
علي، أنت وصيي، حربك حربي وسلمك سلمي وأنت الإمام وأبو الأئمة الإحدى عشر الذين هم
المطهّرون المعصومون ومنهم المهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً»([87]).
وقال أيضاً: «قال
رسول الله (صلّى
الله عليه وسلّم):
الأئمة من بعدي اثنا عشر أولهم أنت يا علي وآخرهم القائم»([88]).
وروى الجويني في (فرائد السمطين) عن ابن عباس، قال: «قال
رسول الله (صلّى
الله عليه وسلّم): أنا
سيد النبيين وعلي بن أبي طالب سيد الوصيين، وأن أوصيائي اثنا عشر أوّلهم علي بن
أبي طالب وآخرهم القائم»([89]).
وروي عن ابن عباس
أيضاً، عن رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) قال: «إن
خلفائي وأوصيائي وحجج الله على الخلق بعدي الاثنا عشر أولهم أخي وآخرهم ولدي، قيل:
يا رسول الله، ومن أخوك؟ قال: علي بن أبي طالب، قيل: فمن ولدك؟ قال: المهدي الذي
يملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً»([90]).
فهذه الأحاديث تشير
وتؤكد بأنّ (الاثني
عشر) هم أئمة أهل البيت^،
أولهم علي بن أبي طالب× وآخرهم المهدي×.
ولو تأمّل الإنسان
المنصف ودقّق في حديث (الخلافة
في قريش إلى قيام الساعة)([91])، لوجد أنّ هناك خصوصية
ناظرة إلى وجود إمام حيّ باقٍ إلى قيام الساعة.
روى أحمد بن حنبل في
مسنده ـ واللفظ له ـ وأبو يعلى في مسنده وابن حبّان في صحيحه، في باب أن ولاية أمر
المسلمين تكون في قريش إلى قيام الساعة «عن
عبد الله بن عمر... يقول: قال رسول الله (صلّى
الله عليه وسلّم): لا
يزال هذا الأمر في قريش ما بقي في الناس اثنان»([92]). والتعبير بلفظ (ما
بقي اثنان) أي إلى قيام الساعة.
قال السيوطي في الديباج
على صحيح مسلم: «لا
يزال هذا الأمر في قريش، أي: الخلافة ما بقي في الناس اثنان، أي أنّ هذا
الحكم مستمر إلى آخر الدنيا»([93]).
وواضح أن استمرار
الخلافة إلى آخر الدنيا ينطبق على ما تعتقده الشيعة؛ بأنّ الإمام الثاني عشر (الإمام المهدي×) حي في جميع الأزمنة، وأنه لابدّ من ظهوره في
آخر الزمان، ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً، على وفق ما بشّر به
جده المصطفى’.
تضارب
آراء أهل السنة في معنى حديث
(الاثني عشر)
ولو قرأنا وتفحصنا أقوال
علماء أهل السنّة وآرائهم في هذا الحديث الشريف، نجد أنها لا تنطبق على خلفائهم أبداً،
بل لم نر إجماعاً في تطبيقه خارجاً على مجموعة عندهم؛ فاختلفوا فيما بينهم؛ بل
اعترفوا أنهم لم يفهموا هذا الحديث، كما قال ابن العربي المالكي، في شرح الترمذي: «لم أعلم
للحديث معنى»([94]).
وقال ابن حجر في فتح
الباري عن ابن البطال، أنّه حكى عن المهلب قوله: «لم ألق
أحداً يقطع في هذا الحديث بشيء معين»([95]).
وعن ابن الجوزي، قال: «قد أطلت
البحث عن معنى هذا الحديث، وتطلبت مضامينه، وسألت عنه، فلم أقع على المقصود»([96]).
وقد علّق الشيخ محمود أبو ريّة متهكماً على ما أورده
السيوطي، قال: «أما
السيوطي فبعد أن أورد ما قاله العلماء في هذه الأحاديث المشكلة، خرج برأي غريب
نورده هنا تفكهةً للقراء، وهو: وعلى هذا فقد وجد من الاثني عشر، الخلفاء الأربعة
والحسن ومعاوية وابن الزبير وعمر بن عبد العزيز ـ وهؤلاء ثمانية ويحتمل أن يضم
إليهم المهدي من العباسيين؛ لأنّه فيهم كعمر بن عبد العزيز في بني أمية، وكذلك
الظاهر، لما أوتيه من العدل وبقي الاثنان المنتظران!! أحدهما المهدي! لأنّه من أهل
بيت محمد ـ ولم يبيّن المنتظر الثاني ـ ورحم الله من قال في السيوطي: إنّه حاطب
ليل»([97]).
إذن أهل السّنة لم يتفقوا على تسمية الاثني عشر، لذا
لجأ بعضهم إلى إدخال يزيد بن معاوية ومروان وعبد الملك ونحوهم، وصولاً إلى عمر بن
عبد العزيز لكي يكملوا العدد الوارد في نص حديث (الإثني عشر خليفة)، ولكن فاتهم أن
الحديث يصرّح بأنّ الدين لا يزال قائماً بوجودهم ومستمراً إلى آخر الدنيا كما تقدم
في قول السيوطي، وعلى هذا تكون الخلافة قد انقطعت بعد عمر بن عبد العزيز.
فلو فسّرنا أحاديث الخلفاء الاثني عشر من وجهة النظر
السنية، فلا نستطيع أن نجد الحلّ الصحيح الذي يلائم ما قاله رسول الله’ في هذا
الحديث الشريف؛ لأنّه لو تخلّينا عن حملها على ما تعتقده المدرسة الشيعية، لوقعنا
في إشكالية أنّ الذين مارسوا الحكم وادّعوا أنهم من قريش هم أضعاف العدد المنصوص
عليه في هذه الأحاديث، فضلاً عن انقراضهم وموتهم، سواء كانوا أمويين أم عباسيين.
لذا نجد أنّ القندوزي
الحنفي المذهب كان ملتفتاً لهذا الأمر، وهذا ما صرح به، حيث قال: «قال
بعض المحققين: إنّ الأحاديث الدالة على كون الخلفاء بعده (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) اثني
عشر قد اشتهرت من طرق كثيرة، فبشرح الزمان وتعريف الكون والمكان علم أن مراد رسول
الله (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) من
حديثه هذا، الأئمة اثنا عشر من أهل بيته وعترته، إذ لا يمكن أن يحمل هذا الحديث
على الخلفاء بعده من أصحابه، لقلتهم عن اثني عشر، ولا يمكن أن نحمله على الملوك
الأموية لزيادتهم على اثني عشر، ولظلمهم الفاحش إلاّ عمر بن عبد العزيز، ولكونهم
غير بني هاشم؛ لأنّ النبي (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) قال:
كلّهم من بني هاشم، في رواية عبد الملك، عن جابر، وإخفاء صوته (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) في
هذا القول يرجح هذه الرواية؛ لأنّهم لا يحسنون خلافة بني هاشم، ولا يمكن أن يحمل
على الملوك العباسية، لزيادتهم على العدد المذكور، ولقلة رعايتهم... ويؤيد هذا
المعنى ـ أي:
أنّ مراد النبي (صلّى
الله عليه وآله وسلّم)
الأئمة الاثنا عشر من أهل بيته ـ ويرجّحه
حديث الثقلين»([98]).
الانطباق
القهري للحديث على أئمة أهل البيت^
بعدما تقدم من تضارب الأقوال عند أهل السنة، وأنهم
تحيّروا في التفسير الحقيقي والواقعي لهذا الحديث، لذا فالتطبيق الصحيح هو ما
أثبتته المدرسة الإمامية القائلة بإمامة اثني عشر إماماً من أهل البيت^ ـ أولهم
الإمام علي بن أبي طالب× وآخرهم المهدي× ـ لذا لا مناص من المصير إلى ما ذهبت إليه
الشيعة، فلا نعرف لهذه الروايات تطبيقاً آخر في تاريخنا المعاصر والقديم غيرهم،
فلم يدّع غير أئمّة الشيعة الاثني عشر العصمة، ولم يقل غيرهم إنّه الحجة على الخلق
وإنّه إمام طاعته هدى ودين، ومخالفته ضلال وجاهلية، ولم يدّع غيرهم أنّهم هم
المقصودون بالأئمة الاثني عشر.
ولكي تتضح هذه الرؤية أكثر من ذلك، نقول:
أولاً: أنّ أهل البيت^ هم حجج الله تعالى على خلقه بمقتضى
ما ورد عن رسول الله’ في حديث الثقلين، قال: «وأنا
تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله... وأهل بيتي»([99])، فمخالفتهم جاهلية وضلال، فهم المنصوص عليهم وهم
المؤهلون لهذا المنصب الرباني.
ثانياً: لم نجد أنّ أحداً أحصى عليهم تناقضاً في قول أو فعل،
وتشهد لهم بذلك آية التطهير: {إِنَّمَا
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أهل الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيراً}([100]).
ثالثاً: لو فتشنا في كتب التاريخ والحديث لم نجد من يدّعي
لنفسه هذا الأمر من العصمة وإمامة المسلمين، وأنّه لا يخلو منهم زمان ولا تخلو
الأرض من حجة منهم، قال الإمام علي×: «اللّهم
بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة إمّا خائفاً مستوراً؛ لئلا تبطل حجج الله..»([101]).
رابعاً: قد تقدم أن الأحاديث أفادت أنّ المهدي من ولد علي، أو
من ولد فاطمة، أو من ولد الحسين^، فهذه
الأحاديث تدلّ بالدلالة العرفية على أنّهم من قريش، فهي مفسّرة لحديث >كلّهم
من قريش<.
هذه النقاط الأربع
بمجموعها لو قُرنت وضُمت إلى تلك الأحاديث التي ذكرناها سابقاً في الصحاح التي
أثبتت أن الأئمة اثنا عشر، وهم من قريش، لما بقي شك أن المصداق والتطبيق الصحيح
ينحصر فيما ذهبت إليه المدرسة الإمامية الاثني عشرية.
حديث
(الاثني عشر) سبق
ولادة الأئمة^
إنّ حديث: >الاثني
عشر خليفة< سابق للتسلسل التاريخي للأئمة^، فقد بشّر رسول الله| بهم
وبولادتهم^، قبل تكامل الواقع الإمامي الاثني عشري، وهذا يعبّر عن واقع وحقيقة لا
يمكن إلاّ أن يذعن لها المنكر والمشكك؛ لأنها
وردت وضبطت في أصحّ الكتب وبأصحّ الطرق، كما تقدم.
قال السيد محمد باقر
الصدر (رحمه الله): «إنّ
الحديث المذكور سبق التسلسل التاريخي للأئمة الاثني عشر، وضبط في كتب الحديث قبل
تكامل الواقع الإمامي الاثني عشري، أمكننا أن نتأكد من أن هذا الحديث ليس انعكاساً
لواقع؛ وإنما هو تعبير عن حقيقة ربانية نطق بها من لا ينطق عن هوى، فقال: (إن
الخلفاء بعدي اثنا عشر) وجاء
الواقع الإمامي الاثني عشري ابتداءً من الإمام علي وانتهاء بالمهدي، ليكون التطبيق
الوحيد المعقول لذلك الحديث النبوي الشريف»([102]).
فكل المحاولات التي سعت إلى إيجاد تطبيق صحيح للحديث
في الواقع الخارجي واجهت عدة مشاكل لا يمكن علاجها، في حين أنّه بناءً على قبول
الاعتقاد الشيعي، فسيكون التطبيق صحيحاً ومقبولاً.
ومن الأحاديث العامة الاُخرى التي تؤكد النظرية
الشيعية في كون الأئمة هم من أهل البيت^ وأنّ خلافتهم لا تنتهي إلى يوم القيامة،
هو حديث الثقلين، الذي قال فيه النبي|: «إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر، كتاب
الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا
علي الحوض»([103]). والذي يلتقي مع الحديث السابق: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي في الناس اثنان» في حيثية بقاء أحد هؤلاء الأئمّة إلى قيام الساعة،
وبما أنّه ورد لفظ (العترة) في هذا الحديث، فهذا لازمه أنّ العترة لها استمرار
وبقاء مع الكتاب إلى أن يردا على النبي’، وهذا لا يمكن توجيهه إلاّ بوجود الإمام
المهدي× وكونه حياً، وهذا ما صرح به علماء الشيعة، وإلاّ يلزم الإخبار على خلاف
الواقع.
صحة
حديث الثقلين: الكتاب والعترة عند أهل السنة
بات من المسلّمات صحة حديث الثقلين لا سيما في مصادر
أهل السّنة، بل هو من الأحاديث المتواترة، وقد نقلنا بعض مصادر وطرق الحديث عند
إجابتنا عن الشبهات المثارة حول عقيدة الشيعة بالسنة النبوية، فقد ورد هذا الحديث
في واحد من أصحّ الكتب عند أهل السنة وهو صحيح مسلم: «وأنا
تارك فيكم ثقلين، أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا
به.. وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي...»([104]).
وقال ابن كثير في تفسيره: «وقد
ثبت في الصحيح أنّ رسول اللّه (صلّى الله عليه وسلّم) قال في خطبته بغدير خمّ: إنّي
تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي وإنّهما لم يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض»([105]).
وقال أيضاً: «قال
شيخنا أبو عبد اللّه الذهبي: وهذا حديث صحيح»([106]).
وقال الهيثمي: «رواه
الطبراني في الكبير ورجاله ثقات»([107])، وقال في موضع آخر: «رواه
أحمد وإسناده جيّد»([108]).
وحكم بصحته ابن حجر الهيتمي: «روى
هذا الحديث ثلاثون صحابيّاً وأنّ كثيراً من طرقه صحيح وحسن»([109]).
وكذلك صححه البغوي في
شرح السنة، قال: «هذا
حديث صحيح أخرجه مسلم»([110])، وصحّحه الحاكم في
مستدركه([111])، وشهد بصحّته ناصر
الدين الألباني في صحيح الجامع الصغير([112]).
وقال أبو منذر سامي بن
أنور المصري الشافعي: «فحديث
العترة بعد ثبوته من أكثر من ثلاثين طريقاً وعن سبعة من صحابة سيّدنا رسول الله
(صلّى الله عليه وسلّم) ورضي عنهم، وصحته التي لا مجال للشك فيها يمكننا أن نقول:
إنّه بلغ حد التواتر»([113]).
دلالة
الحديث على وجود الإمام المهدي×
بعدما تقدم من صحة هذا
الحديث، فدلالته على وجود الإمام المهدي× واضحة؛ لأنّه يدلّ على وجود إمام من
العترة ـ وهو الخليفة ـ مع الكتاب، ولا يمكن أن يفترق عنه إلى يوم القيامة.
والتطبيق المعقول الوحيد له من أهل البيت هو الإمام المهدي وهو آخر الأئمة^، الذي
يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً؛ لأنّه لا معنى للاستمرار
بالتمسّك بهم والأخذ والاقتداء بإمامتهم والتسليم لهم، إلاّ إذا فسّرناه بما تقول
به الإمامية الاثنا عشرية، وهو التفسير الحقيقي والواقعي والمنطقي.
3ـ
حديث: (لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة)
ومن الأحاديث العامّة
أيضاً حديث: «إنّ
الأرض لا تخلو من قائم لله بحجة»([114]) وهذا الحديث
مشهور عند أهل السنة، وقد صحّحه ابن حجر وابن القيّم وغيرهم.
قال ابن حجر العسقلاني وكذا
العيني: «...
دلالة للصحيح من الأقوال، أن الأرض لا تخلو عن قائم لله بحجة، والله أعلم»([115]).
وقال ابن القيّم: >ويأبى
الله إلا أن يتم نوره ويصدق قول رسوله: إنه لا تخلو الأرض من قائم لله بحججه ولن
تزال طائفة من أمته على محض الحق الذي بعثه به<([116]).
وهذا الحديث أيضاً يدلّ
على استمرار حجة الله في الأرض، ولا يصحّ ادّعاء أنّ غير أئمّة أهل البيت^ هم حجج
الله على الخلق.
الآلوسي
يصرح بخلافة الإنسان الكامل إلى قيام الساعة
صرّح الآلوسي في معرض
كلامه حول تفسير معنى (الخليفة) في قوله تعالى: {إِنِّي
جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}([117])، قال: «المشهور
أن المراد به آدم×»، ثم استدرك على كلامه
قائلاً: «ولم
تزل تلك الخلافة في الإنسان الكامل إلى قيام الساعة وساعة القيام، بل متى فارق هذا
الإنسان العالِم مات العالَم؛ لأنّه الروح الذي به قوامه، فهو العماد المعنوي للسماء،
والدار الدنيا جارحة من جوارح جسد العالم الذي الإنسان روحه، ولمّا كان هذا الاسم
الجامع قابل للحضرتين بذاته، صحّت له الخلافة وتدبير العالم، والله سبحانه الفعّال
لما يريد ولا فاعل في الحقيقة سواه»([118]).
ولكن الآلوسي سكت ولم يصرح بالتطبيق، ومن هو ذلك الإنسان
الكامل الذي يبقى إلى قيام الساعة، فاكتفى بقوله: «وفي
المقام ضيق، والمنكرون كثيرون ولا مستعان إلاّ بالله عزّ وجلّ»([119]).
فالآلوسي لم يفصح عن بيان ماهية هذا الإنسان الكامل،
وحجته كثرة المنكرين، ومن ثم يستعين على هذا السكوت بالله عزّ وجلّ. أليس الإنسان
الكامل الذي تصح له الخلافة، وتدبير العالم إلى قيام الساعة هو الإمام
المهدي×؟ أليس ما ذكرناه من تلك الأحاديث المتقدمة، كحديث الاثني عشر والثقلين
وعدم خلو الأرض من حجة، كلّها شواهد على تلك الحقيقية، وهي وجود (الإنسان
الكامل الذي تصحّ له الخلافة والإمامة). والتي لا يمكن إلاّ وأن يذعن لها العقل والفطرة السليمة؟
شبهة التعارض في أحاديث الإمام المهدي×
ذكر السيد محمد رشيد
رضا في تفسيره، قائلاً: «وأمّا
التعارض في أحاديث المهدي فهو أقوى وأظهر والشبهة فيها أظهر، ولذلك لم يعتد
الشيخان بشيء من رواياتها في صحيحيهما»([120]). وعليه فتتعارض وتتساقط.
إنّ هذه الشبهة مردودة من وجوه:
أولاً: قد تقدّم أنّ هناك جمّاً غفيراً من كبار العلماء ممن
قال بصحة وتواتر أحاديث الإمام المهدي×، وهذا بطبيعة الحال يكشف عن عدم الخلاف في
هذه القضية. ثم إنّ التعارض لا يعني إلاّ التنافي بين دليلين أو أكثر، بحيث يتحيّر
العرف في العمل بأيّ منهما، ويكون هناك تدافع وتناقض بين الدليلين، والعرف هنا لم
يتحيّر بل جمع بين أحاديث الإمام المهدي× فلا تعارض أصلاً.
ثانياً: التعارض إنّما يحصل بين الأدلة الظنيّة لا القطعية،
وما دلّ على عقيدة المهدي قطعيّ جزماً؛ لأنّ اتفاق ما يزيد على خمسين حديثاً رواه
أكثر من صحابي وصحابية يورث الاطمئنان والجزم، وكذلك التواتر بطرقها في جميع
الطبقات، فلا تصل المسألة إلى التعارض، لأنّ ما كان جزمياً لا ينافيه ما كان ظنياً.
وعليه؛ فما فرض من تعارض أحاديث الإمام المهدي× ليس
صحيحاً، لعدم وجود موضوع لهذا التعارض حتى نقول به.
شبهة
عدم إخراج البخاري ومسلم أحاديث المهدي في صحيحيهما
من الشبهات التي أدّت إلى إنكار أحاديث الإمام
المهدي× من قبل البعض: عدم ورودها في صحيح البخاري ومسلم، وعدم ذكرها في الصحيحين
علامة على ضعفها، قال محمد رشيد رضا: «لم
يعتد الشيخان بشيء من رواياتها في صحيحيهما»([121]).
وقال أحمد أمين: «ولم
يرو البخاري ومسلم شيئاً من أحاديث المهدي؛ مما يدلّ على عدم صحتها عندهما»([122])، والقفاري قد نهج نفس الأسلوب واقتفى نفس الأثر.
الوجه
الأول:
أنّ البخاري ومسلم لم يدّعيا أنّهما استوعبا في كتابيهما جميع الأحاديث الصحيحة،
إن سلّمنا بأنّ جميع ما فيهما من أحاديث صحيحة([123]).
أمّا البخاري، فواضح من
اسم كتابه الذي ذكره ابن الصلاح في مقدمته، قال: «اسمه
الذي سمّاه به هو الجامع المسند الصحيح المختصر من اُمور رسول الله (صلّى الله
عليه وسلّم) وسننه وأيامه»([124])، فهو يصرّح بأنّه
المختصر من اُمور رسول الله’، فكلمة (الجامع) في اسم كتابه هي للمختصر، وليس لكل
ما ورد في سنته’.
وقال الذهبي وابن حجر
العسقلاني: «قال
إبراهيم بن معقل: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: ما أدخلت في كتاب الجامع إلاّ ما صحّ
وتركت من الصحاح كي لا يطول الكتاب»([125]).
وقال الحازمي: «فقد
ظهر أن قصد البخاري كان وضع مختصر في الحديث، وأنه لم يقصد الاستيعاب لا في
الرجال، ولا في الحديث»([126]).
أمّا مسلم، فقد صرّح هو
بنفسه بعدم جمعه لكلّ الصحاح، قال:
«ليس
كلّ شيء عندي صحيح وضعته هاهنا إنّما وضَعْتُ هاهنا ما أجمعوا عليه»([127]).
وقال النووي في مقدمة شرحه: إنّ مسلماً قال: «إنّما
أخرجت هذا الكتاب وقلت: هو صحاح، ولم أقل ما لم أخرجه من الحديث في هذا الكتاب فهو
ضعيف، وإنما خرّجت هذا الحديث من الصحيح؛ ليكون مجموعاً عندي، وعند من يكتبه عني».
وأضاف النووي: «ألزم
الحافظ الدار القطني وغيره، البخاري ومسلماً إخراج أحاديث تركا إخراجها، مع أن
أسانيدها أسانيد قد أخرجا لرواتها في صحيحهما. وذكر الدارقطني وغيره: أن جماعة من
الصحابة (رضي الله عنهم) رووا عن رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) ورويت أحاديثهم
من وجوه الصحاح لا مطعن في ناقليها، ولم يخرجا من أحاديثهم شيئاً، فيلزمهما
إخراجهما على مذهبهما. وذكر البيهقي: إنهما اتفقا على أحاديث صحيفة همام بن منبه،
وأن كلّ واحد منهما انفرد عن الآخر بأحاديث منها، مع أن الإسناد واحد.. وهذا الإلزام
ليس بلازم في الحقيقة، فإنهما لم يلتزما استيعاب الصحيح؛ بل صحّ عنهما تصريحهما
بأنهما لم يستوعباه، وإنما قصدا جمع جمل من الصحيح، كما يقصد المصنف في الفقه جمع
جملة من مسائله لا أنّه يحصر جميع مسائله»([128]).
أضف إلى ذلك، فإنّ هناك
ما يشير إلى أنّ مسلماً قد أخرج بعض أحاديث المهدي, فقد قال ابن حجر الهيتمي: >ما
أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة والبيهقي وآخرون: المهدي من عترتي من ولد
فاطمة<([129]), فلعلّ الحديث سقط أو
أُسقط!
الوجه الثاني: من الثابت عند علماء
الحديث أنّ المقبول من الحديث أعمّ من الصحيح، فهو يشمل الصحيح لذاته، والصحيح
لغيره، والحسن لذاته، والحسن لغيره، والصحيح ليس مقصوراً وجوده في كتاب الصحيحين، كما
هو بدَهي، فالعلماء قسّموا الصحيح بحسب القوة إلى سبعة مراتب:
المرتبة الاُولى: ما اتفق عليه الشيخان، والثانية:
ما تفرد به البخاري، والثالثة: ما تفرد به مسلم، والرابعة: ما كان على شرط البخاري
ومسلم، والخامسة: ما هو على شرط البخاري، والسادسة: ما هو على شرط مسلم، والسابعة:
ما رواه من غيرهم من الأئمة الذين التزموا الصحة وصحّحوه([130]).
ومعلوم أنّه ليس في الصحيحين من هذه المراتب إلاّ
الثلاث الاُولى، أمّا الأربع الباقية، فوجودها إنّما هو خارج الصحيحين.
ومعلوم أيضاً أنّ العلماء في جميع العصور يحتجون
بالأحاديث الصحيحة، بل والحسنة حتى ما كان منها خارج الصحيحين، والعمل بها مطلقاً،
واعتبار ما دلّت عليه من غير حطّ من شأنها أو التقليل من قيمتها، سواء أكان ذلك في
اُمور الاعتقاد أم في اُمور الأحكام.
فهناك أحاديث قد احتج
بها علماء أهل السنة في غير الصحيحين، فليس بالضرورة أن كلّ حديث لم يخرجه البخاري
ومسلم هو ضعيف أو لا يحتجّ به.
الثالث: أنّ الأحاديث التي وردت
في صحيح البخاري ومسلم لا نستطيع أن نجزم بعدم شمولها لأحاديث الإمام المهدي×؛ بل
هناك أحاديث وردت فيهما وإن لم يرد فيها التصريح بذكر المهدي× على جهة التفصيل، وقد
أشارت تلك الأحاديث إلى المهدي× وإن لم تصرّح باسمه، فدّلت على ظهور رجل صالح يؤم
المسلمين عند نزول عيسى× في آخر الزمان، يصلّي عيسى بن مريم خلفه.
ومن ذلك ما أخرجه
البخاري ومسلم في باب نزول عيسى بن مريم، عن أبي هريرة، قال: «قال
رسول الله (صلّى
الله عليه وسلّم): كيف
أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم»([131]).
وكذلك
أخرج مسلم عن جابر بن عبد اللّه، أنّه سمع النبي (صلّى
الله عليه وسلّم) يقول: «لا
تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى بن
مريم× فيقول
أميرهم: تعال صلّ لنا، فيقول: لا، إنّ بعضكم على بعض أمراء؛ تكْرِمةَ اللهِ هذه الاُمّة»([132]).
وجاء ما يفسر هذه الأحاديث في السنن والمسانيد
الاُخرى ويبيّن اسم هذا الأمير الذي يصلّي عيسى× خلفه، وصفته أنّه هو المهدي×؛ وأحاديث
السنة يفسر بعضها بعضاً:
روى ابن أبي شيبة في
المصنّف عن ابن سيرين قال: «المهدي
من هذه الاُمّة وهو الذي يَؤُمُّ عيسى بن مريم»([133])،
وقال ابن حجر: «وقال
أبو الحسن الخسعي الأبدي في مناقب الشافعي: تواترت الأخبار بأنّ المهدي من هذه الاُمّة
وأن عيسى يصلي خلفه»([134]).
وروى ابن قيم في المنار
المنيف عن مسند الحارث بن أبي أسامة وصحّحه، قال: «روى
الحارث بن أبي أسامة في مسنده، حدّثنا إسماعيل بن عبد الكريم، حدثنا إبراهيم بن
عقيل، عن أبيه، عن وهب بن منبه، عن جابر، قال: قال: رسول الله (صلّى
الله عليه وسلّم):
ينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم المهدي: تعال صل بنا، فيقول: لا، إن بعضهم أمير
بعض تكرمة الله لهذه الاُمّة»، ثم قال معلقاً: «وهذا
إسناد جيد»([135]). وأيضاً صحّحه
الألباني في السلسلة الصحيحة([136]).
وقال السيوطي في ردّ من ينكر أن عيسى بن مريم يصلّي
خلف المهدي: «وهذا
من أعجب العجب، فإن صلاة عيسى خلف المهدي ثابتة في عدة أحاديث صحيحة بأخبار رسول
الله (صلّى
الله عليه وسلّم)، وهو
الصادق المصدوق الذي لا يخلف خبره»([137]).
وخلاصة القول: إنّ هذه
الأحاديث وإن رويت في الصحاح بشكل مجمل، ولكن كتب السنة قد فسّرتها وشرحتها؛ ولعل
السبب في عدم ذكر البخاري أو مسلم لها مخافة إثارة القلق بسبب أنّ ذكر المهدي كان
يشكّل هاجساً مخيفاً للسلطة العباسية الحاكمة آنذاك، فكانت عيونهم وجواسيسهم
تتحرّى وترصد كلّ المواليد في ذلك الوقت، فهل يعقل والحال هذه أن يقدم ويجازف
الشيخان على هذا الفعل؟ فلذا كانا يتجنّبان الحديث عن المهدي× صراحة، ومع هذا قد
أشارا إلى ذلك تلويحاً حين ذكرا أحاديث خروج الدجال، وأحاديث نزول عيسى، وإمامة
أمير المسلمين لعيسى×، فهما يعبّران عن وجود الإمام المهدي: (بكلمة أمير) أو (الإمام)
مطلقاً([138]).
إذن؛ هناك أحاديث كثيرة
منها الصحيح وغير الصحيح في أمر المهدي ولم ترد في صحيحي البخاري ومسلم؛ لذا نجد
الحفّاظ الآخرين كابن خزيمة وتلميذه ابن حبّان، و الحاكم النيسابوري وغيرهم قد
استدركوا وجمعوا وصحّحوا أحاديث المهدي× وصنّفوها في مؤلفاتهم المشهورة والمعروفة
عند أهل العلم والمعرفة.
وبهذا اتّضح سقوط شبهة
ضعف أحاديث الإمام المهدي× لعدم إخراج البخاري ومسلم لها في صحيحيهما، وكذلك شبهة
التعارض.
ومن مجموع ما تقدم سقطت أيضاً دعوى خرافة وأسطورة
القول بالإمام المهدي وغيبته، فهي محض ادعاء لا تستند إلى دليل علمي.
وبعد ذكر هذه المقدّمة عن عقيدة المنقذ أو المهدي
عند المسلمين وغيرهم، نحاول الآن الإجابة عن بعض الشبهات التي أوردها القفاري حول
المهدي والمهدوية في هذا الجزء، تاركين ما تبقّى إلى الأجزاء الباقية إذا وفقنا
الله تعالى لذلك.
الشبهة: إن الإمام العسكري× مات بلا عقب
قال القفاري في فصل (نشأة فكرة الغيبة عند الشيعة الاثني عشرية):
«إذ بعد وفاة الحسن ـ إمامهم الحادي عشر ـ سنة (260هـ) لم يُر له خلف، ولم يُعرف له ولد ظاهر، فاقتسم ما ظهر
من ميراثه أخوه جعفر وأمّه، كما تعترف بذلك كتب الشيعة نفسها، وبسبب ذلك اضطرب أمر الشّيعة وتفرّق جمعهم؛ لأنّهم أصبحوا
بلا إمام، ولا دين عندهم بدون إمام، لأنّه هو الحجّة على أهل الأرض...»([139]).
ثم قال في فصل نقد عقيدة الغيبة: «حتى
قال بعضهم: إنّا قد طلبنا الولد بكل وجه فلم نجده، ولو جاز لنا دعوى أن للحسن ولداً
خفياً لجاز مثل هذه الدعوى في كلّ ميت من غير خلف، ولجاز أن يقال في النبي (صلّى
الله عليه وسلّم) إنّه
خلف ابناً نبيّاً رسولاً؛ لأن مجيء الخبر بوفاة الحسن بلا عقب كمجيء الخبر بأنّ
النبي (صلّى
الله عليه وسلّم) لم
يخلف ولداً من صلبه، فالولد قد بطل لا محالة»([140]).
1ـ إنّ الإمام الحسن العسكري× لم ير، ولم يعرف له
ولد.
2ـ بعد وفاته انحصر تقسيم ميراثه بين أم الإمام
الحسن× وأخيه فقط.
3ـ اضطراب الشيعة واختلافهم بعد وفاة الإمام الحسن×.
4ـ ادعاء الولد للإمام
العسكري× يشبه ادعاء أنّ النبي’ قد خلّف ولداً نبيّاً.
الجواب: الشبهة باطلة من عدة وجوه
الوجه الأول: تهافت أقوال القفاري
زعم القفاري أن كتب الشيعة قد
صرّحت بأنّ الإمام العسكري× لم يعرف له ولد ظاهر، بينما نجده في نصّ آخر ينقل عن
الشيعة أنفسهم، فيقول: «أما
الاثنا عشريّة فقد ذهبت إلى الزّعم بأنّ للحسن العسكري ولداً كان قد أخفى (أي
الحسن)
مولده، وستر أمره؛ لصعوبة الوقت وشدّة طلب السّلطان له، فلم يظهر ولده في حياته،
ولا عرفه الجمهور بعد وفاته»([141]).
وهو بهذا يصرّح بأنّ رأي الشيعة الإمامية هو أنّ
للإمام العسكري ولداً وقد أخفي مولده، وهذا الكلام بطبيعة الحال يقتبس من كتب
الشيعة التي تمثل رأيهم.
فهناك تهافت واضح في
نقله لآراء الشيعة في مسألة ولادة الإمام المهدي× والمفترض أنّه ينقل آراء الشيعة
الإمامية حسب عنوان أطروحته التي خصّها بالإمامية الاثني عشرية، فلا معنى لأن يكون
مقصوده بعض الأقوال لغير الشيعة الإمامية الاثني عشرية، وهذا هو الخطأ الكبير
والفاحش الذي وقع في منهج نقده للشيعة الإمامية، فهناك خلط واضح بين المذهب
الإمامي الاثني عشري وبقية الفرق التي تنسب للشيعة.
الوجه الثاني: كتب الشيعة تصرح بأن الخلف
من صلب الإمام العسكري
إنّ القفاري نقل ادّعاء
أنّ الإمام العسكري× لم ير له خلف من الأشعري صاحب كتاب (المقالات والفرق) ونسبه
للشيعة مطلقاً، بينما كان الأشعري بصدد نقل أقوال الفرق بعد وفاة الإمام الحسن
العسكري×، فبعد أن ذكر أن الإمام لم ير له خلف، قال: «ففرقة
منها وهي المعروفة بالإمامية قالت:... فنحن متمسكون بإمامة الحسن بن علي، مقرّون
بوفاته موقنون مؤمنون بأنّ له خلفاً من صلبه، متدينون بذلك، وأنه الإمام من بعد
أبيه الحسن بن علي، وأنه في هذه الحالة مستتر خائف مأمور بذلك حتى يأذن الله عزّ
وجلّ له فيظهر ويعلن أمره»([142]).
وقد قطع القفاري كلام
الأشعري، ولم ينقل ذيله المتقدم الذي يفيد أن الإمامية الاثني عشرية: موقنون
مؤمنون متدينون بأنّ للإمام الحسن العسكري خلفاً من صلبه، وأنه الإمام من بعد
أبيه، وهو يتبنى هذا القول؛ لأن مذهبه وعقيدته هي (الإيمان باثني عشر إماماً)، فأين اعتراف كتب الشيعة الإمامية بأنّ
الإمام لم يخلف ولدا ً؟!
الوجه الثالث: عدم الرؤية
لا تدل على عدم الوجود
إنّ قول الأشعري في النصّ الذي نقله القفاري: «ولم
ير له خلف ولم يعرف له ولد ظاهر» على تقدير صحّته، ليس فيه دلالة على أنّ الإمام
العسكري لم يخلّف ولداً، فعدم رؤيته من قبل الناس ومعرفتهم له لا تدلّ على عدم
ولادته، لعدم الملازمة بينهما، ففرق بين أن يقال: لم يولد له ولد، وبين أن يقال:
لم ير له ولد.
الوجه الرابع: اقتسام جعفر لميراث العسكري
لا يدل على عدم ولادة المهدي
لقد استدلّ القفاري على
عدم ولادة الإمام المهدي× بانحصار قسمة ميراث الإمام العسكري× بين اُمّه وبين أخيه
جعفر الكذّاب، وهذا الانحصار يدلّ على عدم ولادته، قال: «قال: فاقتسم
ما ظهر من ميراثه أخوه جعفر وأمّه»، وهو استدلال لا يخلو
من غرابة؛ لأنّ بعض كتب الشيعة عندما تنقل ذلك، لا تدّعي أنّ الإمام المهدي× غير
مولود، بل تقول: إنّ جعفراً الكذاب قد ادّعى الإمامة بعد أخيه الحسن بن علي‘ حسداً
وطمعاً وكذباً، لذلك ادعى ميراثه، فاقتسامه الميراث مع اُمّ الإمام المهدي× لا
يدلّ على عدم ولادته×، بل هو فعل أراد به أن يقوّي زعمه بأنه هو الإمام من بعد
أبيه، كما صرّحت بذلك عدّة روايات من طرقنا.
فقد روى الصدوق بسنده
عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي خالد الكابلي، عن الإمام زين العابدين×، قال: «حدّثني
أبي، عن أبيه‘: أنّ
رسول الله (صلّى
الله عليه وآله) قال:
إذا ولد ابني جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب^ فسموّه
الصادق، فإن للخامس من ولده ولداً اسمه جعفر يدّعي الإمامة؛ اجتراءً على الله
وكذباً عليه، فهو عند الله جعفر الكذاب المفتري على الله عزّ وجلّ، والمدّعي لما
ليس له بأهل، المخالف على أبيه والحاسد لأخيه، ذلك الذي يروم كشف ستر الله عند
غيبة وليّ الله عزّ وجلّ، ثم بكى علي بن الحسين‘ بكاءً
شديداً، ثم قال: كأنّي بجعفر الكذاب وقد حمل طاغية زمانه على تفتيش أمر وليّ الله،
والمغيّب في حفظ الله والتوكيل بحرم أبيه؛ جهلاً منه بولادته، وحرصاً منه على قتله
إن ظفر به؛ طمعاً في ميراثه حتى يأخذه بغير حقه»([143]).
فالرواية وردت على لسان
رسول الله’، وتشير بشكل صريح أن جعفراً
كان يروم كشف ستر الله تعالى عند غيبته؛ حرصاً منه على قتله وطمعاً في ميراثه.
وهذه الرواية تحمل
صدقها معها، لوجود قرينة تدل على ذلك، وهي حكاية الواقع وصدقه بما أخبر به×، فجعفر
كان حاسداً لأخيه، وطامعاً في ميراثه ساعياً لأخذه بغير حقّ، لذا نجد الشيخ المفيد
رحمه الله يصرّح بقوله: «وتولى
جعفر بن علي أخو أبي محمد× أخذ
تركته، وسعى في حبس جواري أبي محمد× واعتقال
حلائله، وشنّع على أصحابه بانتظارهم ولده وقطعهم بوجوده والقول بإمامته، وأغرى
بالقوم حتى أخافهم وشرّدهم، وجرى على مخلفي أبي محمد× بسبب
ذلك كلّ عظيمة، من اعتقال وحبس وتهديد وتصغير واستخفاف وذل، ولم يظفر السلطان منهم
بطائل. وحاز جعفرٌ ظاهرَ تركة أبي محمد×، واجتهد
في القيام عند الشيعة مقامه، فلم يقبل أحد منهم ذلك ولا اعتقده فيه، فصار إلى
سلطان الوقت يلتمس مرتبة أخيه، وبذل مالاً جليلاً، وتقرّب بكلِّ ما ظنّ أنّه يتقرب
به، فلم ينتفع بشيء من ذلك»([144]).
خلاصة رأي الإمامية في جعفر لا سيما في هذه المسألة
تندرج في النقاط التالية:
أولاً: أنّه ادّعى الإمامة وهو غير مؤهل لها؛ مما اضطرّه
إلى اللجوء للسلطة الحاكمة للتمهيد لهذا الأمر، ولكن خاب سعيه في ذلك، لذا نجد أن الوزير
عبيد الله بن يحيى بن خاقان نهره عندما جاء إليه في هذا الأمر، حيث قال له: «يا
أحمق، السلطان جرّد سيفه في الذين زعموا أن أباك وأخاك أئمّة؛ ليردهم عن ذلك، فلم يتهيأ
له ذلك، فإن كنت عند شيعة أبيك وأخيك إماماً فلا حاجة لك إلى السلطان؛ ليرتّبك
مراتبهم ولا غير السلطان، وإن لم تكن عندهم بهذه المنزلة لم تنلها بنا...»([145]).
ولم يكتف جعفر مجرد
ادعائه الإمامة؛ بل استخدم الأموال الكثيرة ليصل إلى مآربه الخبيثة، ولكن أيضاً لم
يوفّق في هذا المسعى، فحمل للسلطان الحاكم آنذاك أموالاً طائلة تقدر بـ (عشرين ألف دينار)، طالباً منه أن يجعل له مرتبة أخيه ومنزلته، فأجابه
السلطان بنحو جواب الوزير ابن خاقان([146]).
ثانياً: لقد ادّعى تركة الأموال
والميراث الذي تركه أخوه بلا وجه حق، ومن ثم حيازته لها بإذن من السلطة الحاكمة.
قال ابن شهر آشوب في مناقبه: «تولّى
أخوه أخذ تركته... واجتهد جعفر في المقام مقامه فلم يقبله أحد وبرؤوا منه ولقبّوه
الكذاب»([147]).
ثالثاً: لقد قام بإفشاء سرّ أخيه
العسكري× إلى الدولة من خلال الإيعاز لهم بولادة الإمام المهدي×، ومن هنا بدأت
سلسلة من المطاردات والاعتقالات لعيال الإمام×، بل تسببت في جلب المحن والبلاء
لشيعة علي×.
قال الشيخ الطبرسي: «وشنّع
على الشيعة في انتظارهم ولده وقطعهم بوجوده واعتقادهم لإمامته، وجرى بسبب ذلك على
مخلفة أبي محمد×
وشيعته كل بلاء ومحنة، من حبس واعتقال وشدة»([148]).
إذن هذا هو حال جعفر؛ فجاءت تسميته بـ (الكذاب) عند الإمامية، وهذا بطبيعة الحال، لا يدلّ على أن
الإمام العسكري لم يخلّف، أو لم يولد له ولد، كما صوّر وادعى الدكتور ذلك.
الوجه الخامس: أحاديث
ولادة المهدي×
متواترة
إنّ الأحاديث التي تقدّم ذكرها، كحديث (الثقلين) وحديث (الاثني عشر) وحديث (عدم خلو الأرض من قائم لله بحجة) والتي دلّت على استمرار وجوده، فهي تدّل
جزماً على ولادته، وكذلك ما ورد من تطبيقٍ لهذه الأحاديث من مصادر الحديث السنية،
وكذلك ما تواتر من أحاديث تحديد هويته، وكونه من قريش ومن أهل البيت من ولد النبي’ ومن ولد علي وفاطمة والحسين^. كما روى الجويني عن مجاهد، عن رسول الله’: «إن وصيي
علي بن أبي طالب، وبعده سبطاي: الحسن والحسين، يتلوه تسعة من صلب الحسين أئمّة
أبرار... إذا مضى الحسين فابنه عليّ، فإذا مضى عليّ فابنه محمد، فإذا مضى محمد
فابنه جعفر، فإذا مضى جعفر فابنه موسى، فإذا مضى موسى فابنه عليّ، فإذا مضى عليّ
فابنه محمد، ثم ابنه عليّ، ثم ابنه الحسن، ثم الحجة بن الحسن، فهذه اثنا عشر أئمة
عدد نقباء بني إسرائيل»([149]). وغيرها من الأحاديث التي تقدم ذكرها.
وسوف
نتناول اعتراف جملة كبيرة من العلماء ممن قالوا بولادته× وكونه من ولد الإمام
الحسن العسكري×؛ ولاسيما ممن اشتهر بخبرته واطلاعه في علم الأنساب، فسنذكر الذين
دوّنوا واعترفوا في صحفهم هذه الحقيقة، وكذلك نذكر بشكل عام ممن قال بولادته
من غير علماء الأنساب.
وأيضاً سننقل الروايات والأحاديث من طرق الشيعة من
خلال الشهادات والوثائق التي تثبت لنا ولادته×، مع وضوح هذا الأمر عند الإمامية؛
لأنها من صلب عقيدتهم؛ ولكن لتشكيك بعض في روايات الشيعة في هذا الأمر سنضطر
لنقلها.
اعتراف
علماء الأنساب بولادة الإمام المهدي×
في البدء ننقل عبارة
القفاري التي نفى فيها تصريح علماء الأنساب بولادة الإمام المهدي×، حيث قال في فصل
(نقد عقيدة الغيبة والمهدية عند الاثني عشرية): «وقد
ذكر أهل العلم بالأنساب والتواريخ أن الحسن بن علي لم يكن له نسل ولا عقب»([150]).
نقول: هذا قول من لا خبرة له بما قاله علماء الأنساب، فقد
ذهب جملة منهم من كلا الفريقين إلى القول بولادة الإمام المهدي×، فهم الأدرى
والأعلم بشجرة الأنساب، وقولهم يورث الاطمئنان بالصدق، فيكون حجة بلا نزاع في ذلك،
ومن هؤلاء العلماء:
وهو النسّابة الشهير الشيخ أبو نصر سهل بن عبد الله
بن داود بن سليمان بن أبان بن عبد الله البخاري من أعلام القرن (الخامس الهجري)([151]).
قال في سرّ السلسلة العلوية: «وولد
علي بن محمد النقي× الحسن
بن علي العسكري× من أمّ
ولد نوبية([152]) تدعى
ريحانة، وولد سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وقبض سنة ستين ومائتين بسامراء، وهو ابن
تسع وعشرين سنة... وولد علي النقي ابن محمد التقي× جعفراً
وهو الذي تسميّه الإمامية جعفر الكذاب، وإنما تسمّيه الإمامية بذلك لادعائه ميراث
أخيه الحسن× دون
ابنه القائم الحجة×، لا
طعن في نسبه»([153]).
2ـ السيد الشريف نجم
الدين أبو الحسن بن محمد العلوي العمري.
النسابة المشهور، من أعلام (القرن الخامس) في كتابة (المجدي
في أنساب الطالبيين) قال: «ومات
أبو محمد× وولده
من نرجس معلوم عند خاصة أصحابه وثقات أهله... وامتحن المؤمنون، بل كافة الناس
بغيبته»([154]).
3ـ فخر الدين محمد بن
عمر الرازي الشافعي (ت/606 هـ)([155]).
قال في كتابه (الشجرة المباركة في أنساب الطالبية): «أما
الحسن العسكري الإمام× فله
ابنان وبنتان: أمّا الابنان، فأحدهما: صاحب الزمان، والثاني موسى درج في حياة أبيه...»([156]).
4ـ النسابة الشهير
السيد جمال الدين أحمد بن علي الحسنى، المعروف بابن عنبة والمتوفى سنة (828 هـ) في
كتابه (عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب)، قال: «الإمام
أبو محمد الحسن العسكري× كان
من الزهد والعلم على أمر عظيم، وهو والد الإمام محمد المهدي صلوات الله عليه ثاني
عشر الأئمة عند الإمامية، وهو القائم المنتظر عندهم، من أمّ ولد اسمها نرجس، واسم
أخيه أبو عبد الله جعفر الملقب بالكذّاب؛ لادعائه الإمامة بعد أخيه الحسن»([157]).
5ـ الشيخ أبو المعالي
محمد سراج الدين الرفاعي (ت/ 885 هـ)([158]).
قال في كتابه (صحاح الأخبار في نسب السادة الفاطمية الأخيار): «وكان
له [أي الإمام الهادي] خمسة أولاد الإمام الحسن العسكري والحسين ومحمد وجعفر
وعائشة، فالحسن العسكري أعقب صاحب السرداب الحجة المنتظر، وليّ الله الإمام محمد
المهدي×...»([159]).
6ـ محمد أمين السويدي (ت/
1246 هـ)([160]).
قال في كتابه (سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب): «محمد
المهدي: وكان عمره عند وفاة أبيه خمس سنين، وكان مربوع القامة، حسن الوجه والشعر،
أقنى الأنف، صبيح الجبهة»([161]).
اعتراف
علماء السنة بولادة الإمام المهدي×
اعترف جملة كبيرة من
علماء أهل السّنة ـ غير علماء الأنساب ـ بولادة الإمام المهدي×، فهم على صنفين: منهم
من ذكر ولادته من دون أن يشكّك فيها ومنهم من ذكر ذلك ونسبه لرأي الشيعة، والقسم
الأول الذي اعترف بولادته لم يتطرق إلى زمان وكيفيّة وفاة الإمام المهدي، مع أنّ
السيرة المعروفة عندهم ـ في الغالب ـ أن تذكر الوفيات لكل من يترجم له، أو من تذكر
سيرته عندهم، بل صرح بعضهم أنّه لا يعلم كيف مات الإمام المهدي.
قال الذهبي والصفدي وغيرهما عند ترجمتهم للإمام
الحسن العسكري×: «عُدم،
ولم يعلم كيف مات...» وهذه العبارة فيها اعتراف ضمني بولادته؛ لأنهم لا
يعلمون كيف مات، كما هو صريح عبارتهم([162]).
فالمسألة يلفّها الغموض بينهم، فيدور حالهم بين
أمرين:
إمّا الاعتراف بما تقول به الشيعة من تحقّق غيبته×،
وإمّا أن يبرّروا للقارئ ـ بموضوعية ـ سبب عدم ذكر وفاته!!
وعليه نستطيع القول إنّ هناك اتفاقاً على ولادته في
الجملة، وهذا كاف في رفع هذا الإشكال.
يقول مصطفى الرافعي([163]) في كتابه (إسلامنا) بعد أن ذكر جملة من علماء السنّة الذين قالوا
بولادته: «وكثيرٌ
غيرهم من علماء السنّة الأجلاء الذين ذاع صيتهم ويذكرون بكل إعجاب وتقدير. هؤلاء وكثير
غيرهم ممّن لا يتّسع المقام لذكرهم يقولون بمقولة الإمامية: من أن المهدي هو محمد
بن الحسن العسكري وأنّه حي في مكان ما في هذا العالم، ولا يجدون في مقولتهم هذه ما
يناهض العقل، وبخاصة إذا اعتبرت حياة المهدي من الاُمور الخارقة للعادة، كالتي
أجراها الله؛ معجزة لبعض أنبيائه، أو كرامة لبعض أوليائه، وذلك كحياة المسيح
والخضر من الأتقياء وإبليس الدجّال من الأشقياء»([164]).
ومن جملة علماء أهل السنّة الذين صرحوا بولادته:
1ـ ابن الأثير الجزري (ت/630
هـ)([165]).
قال في كتابه (الكامل في التاريخ) في حوادث سنة (260هـ): «وفيها
توفي أبو محمد العلوي العسكري، وهو أحد الأئمة الاثني عشر، على مذهب الإمامية، وهو
والد محمد الذي يعتقدونه المنتظر...»([166]).
2ـ محيي الدين بن العربي (ت/ 638 هـ)([167]). قال نقلاً عن
الشعراني في كتابه (اليواقيت والجواهر): «وعبارة
الشيخ محيي الدين في الباب السادس والستين وثلاثمائة من الفتوحات: واعلموا أنّه
لابدّ من خروج المهدي×، ولكن
لا يخرج حتى تمتلئ الأرض جوراً وظلماً فيملؤها قسطاً وعدلاً، ولو لم يكن من الدنيا
إلاّ يوم واحد طوّل اللّه تعالى ذلك اليوم حتى يلي ذلك الخليفة، وهو من عترة رسول
اللّه (صلّى
الله عليه وسلّم) من
ولد فاطمة (رضي
الله عنها)، وجدّه
الحسين بن علي بن أبي طالب، ووالده حسن العسكري ابن الإمام علي النقي...»([168]).
وهذه العبارة التي
نقلها الشعراني عن ابن العربي قد حذفت من النسخ المطبوعة، وهو بلا شك خلاف الأمانة
العلمية، لذا أدرج الشيخ مهدي فقيه إيماني نسخة مصوّرة من الفصل المتعلق بالموضوع
في كتابه (المهدي عند أهل السنّة) وهذا إن دلّ فهو يشير إلى حقيقة ولادة الإمام
المهدي، لذا نجد أن النصوص غير المرغوب فيها تارةً تقطّع وتارةً تحذف.
3ـ كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي (ت/ 652 هـ)([169]).
قال في كتابه (مطالب السؤول في مناقب آل الرسول): «محمد
ابن الحسن الخالص بن علي المتوكل بن محمد القانع بن علي الرضا بن موسى
الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الزكي
بن علي المرتضى أمير المؤمنين بن أبي طالب، المهدي الحجة الخلف الصالح
المنتظر عليهم السلام ورحمة الله وبركاته».
ثم ذكر أبياتاً من الشعر:
«فهذا الخلف الحجة قد أيّده الله |
|
|
||
|
|
هداه منهج الحق وأتاه سجاياه |
||
وأعلى في ذرى العليا بالتأييد
مرقاه |
|
|
||
|
|
وأتاه حلى فضل عظيم فتحلاّه |
||
قال رسول الله قولاً قد رويناه |
|
|
||
|
|
وذو العلم بما قال إذا أدرك معناه |
||
ترى الأخبار في المهدي جاءت بمسماه |
|
|
||
|
|
وقد أبداه بالنسبة والوصف وسماه» |
||
إلى آخر أبياته، ثم قال: «فأما
مولده: فبِسُرّ من رأى، في ثالث وعشرين رمضان سنة ثمان وخمسين ومائتين للهجرة»([170]).
4ـ سبط ابن الجوزي
الحنفي (ت/ 654 هـ)([171]).
قال في كتابه (تذكرة الخواص) فصل في ذكر الحجة المهدي: «هو
محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا بن جعفر بن محمد بن علي بن
الحسين بن علي بن أبي طالب، وكنيته أبو عبد الله وأبو القاسم، وهو الخلف الحجة
صاحب الزمان، القائم المنتظر، والتالي، وهو آخر الأئمة...»([172]).
5ـ محمد بن يوسف بن
محمد الكنجي الشافعي (ت/658هـ)([173]).
قال في كتابه (كفاية الطالب): «ودفن
في داره بِسُرَّ من رأى في البيت الذي دفن فيه أبوه وخلّف ابنه وهو الإمام المنتظر
صلوات الله عليه...»([174]).
وفي كتابه الآخر الذي
أسماه (البيان في أخبار صاحب الزمان) في الباب الخامس والعشرين في الدلالة على كون
المهدي حياً باقياً منذ غيبته إلى الآن، قال: «ولا
امتناع في بقائه؛ بدليل بقاء عيسى وإلياس والخضر من أولياء الله تعالى، وبقاء
الدجال وإبليس الملعونين من أعداء الله تعالى، وهؤلاء قد ثبت بقاؤهم بالكتاب
والسنّة»([175]).
6ـ ابن خلّكان: (ت/ 681
هـ)([176]).
قال في كتابه (وفيات الأعيان) تحت عنوان الحجة المنتظر: «أبو
القاسم محمد بن الحسن العسكري بن علي الهادي بن محمد الجواد المذكور قبله، ثاني
عشر الأئمة الاثني عشر على اعتقاد الإمامية، المعروف بالحجة، وهو الذي تزعم الشيعة
أنّه المنتظر والقائم والمهدي... كانت ولادته يوم الجمعة منتصف شعبان سنة خمس
وخمسين ومائتين، ولمّا توفي أبوه... كان عمره خمس سنين»([177]).
7ـ الجويني الشافعي (ت/ 722 هـ)([178]).
ذكر في كتابه (فرائد
السمطين) عدّة روايات في عدد الأئمة وأسمائهم، ونصّ على أنّ المهدي هو الحجة
القائم المنتظر، كما نجد ذلك واضحاً عند ذكره لحديث اللوح، حيث ذكر الأئمة الاثني
عشر واحداً واحداً، وأنّ آخرهم القائم، المهدي المنتظر بن الحسن العسكري([179]).
وأخرج كذلك بسنده إلى دعبل
الخزاعي عن الإمام الرضا×، قال: «...
يا دعبل، الإمام بعدي محمد ابني، وبعد محمد ابنه علي، وبعد علي ابنه الحسن، وبعد
الحسن ابنه الحجة القائم المنتظر في غيبته، المطاع في ظهوره...»([180]).
8ـ أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن علي (ت/732 هـ)([181]).
قال في تاريخه (المختصر من أخبار البشر) عند ذكره لوفاة الإمام الحسن العسكري في
أحداث سنة (254هـ): «والحسن
العسكري المذكور هو والد محمد المنتظر صاحب السرداب، ومحمد المنتظر المذكور هو
ثاني عشر الأئمة الاثني عشر على رأي الإمامية، ويقال له: القائم والمهدي والحجة
وولد المنتظر المذكور في سنة خمس وخمسين ومائتين»([182]).
9ـ شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت/ 748
هـ)([183]).
قال في كتابه (تاريخ الإسلام) في ترجمة الإمام الحسن العسكري×: «وأمّا
ابنه محمد بن الحسن الذي يدعوه الرافضة القائم الخلف الحجة، فولد سنة ثمان وخمسين،
وقيل: سنة ست وخمسين، عاش بعد أبيه سنتين ثم عُدم، ولم يعلم كيف مات...»([184]).
10ـ محمد بن يوسف الزرندي (ت/ 750 هـ)([185]).
قال في كتابه (معارج الوصول إلى معرفة فضل آل الرسول): «الإمام
أبو القاسم محمد بن الحسن... وكان مولده× على ما نقلته الشيعة ليلة الجمعة للنصف
من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين، بِسُرَّ من رأى في زمان المعتمد، واُمّه: نرجس
بنت قيصر الروم، أم ولد، وكان نقش خاتمه: الله عصمتي ومحمد حجتي، وعلي قوتي»([186]).
11ـ خليل بن أيبك
الصفدي الشافعي (ت/ 764 هـ)([187]).
قال في كتابه (الوافي بالوفيات) عند ترجمته للإمام الحسن العسكري×: «وأمّا
ابنه محمد الحجة الخلف الذي تدّعيه الرافضة، فولد سنة ثمان وخمسين، وقيل: ست
وخمسين، عاش بعد أبيه سنتين، ومات، عُدِمَ ولم يُعلم كيف مات...»([188]).
12ـ أحمد بن علي بن حجر
العسقلاني (ت/ 852هـ)([189]).
قال في كتابه: (لسان الميزان) عند ترجمته لجعفر الكذاب: «أخو
الحسن الذي يقال له العسكري، وهو الحادي عشر من الأئمّة الإمامية، ووالد محمد صاحب
السرداب...»([190]).
13ـ نور الدين علي بن
الصباغ المالكي (ت/ 855 هـ)([191]).
قال في كتابه (الفصول المهمة في معرفة الأئمة): «ولد
أبو القاسم محمد الحجة بن الحسن الخالص بِسُرَّ من رأى، ليلة النصف من شعبان سنة
خمس وخمسين ومائتين للهجرة، وأمّا نسبه أباً وأمّاً، فهو أبو القاسم محمد الحجة بن
الحسن الخالص بن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر
الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، صلوات
الله عليهم أجمعين... وأمّا لقبه فالحجّة والمهدي والخلف الصالح والقائم المنتظر
وصاحب الزمان، وأشهرها المهدي...»([192]).
14ـ الفضل بن روزبهان (ت/
بعد 909 هـ)([193]).
نظّم في كتابه (إبطال الباطل) أبياتاً شعرية رائعة
في فضل أهل البيت^ واحداً تلو الآخر، ثم ذكر القائم المنتظر وأنّه من سلالة الحسن
العسكري، وأنه سيملأ الأرض عدلاً، وبذلك فهو ينصّ على الاثني عشر إماماً، كما سترى
من هذا النظم الشعري.
قال:
«ونعم ما قلت فيهم منظوماً:
سلام على المصطفى المجتبى |
|
سلام على السيد المرتضى |
|
سلام على ستنا فاطمة |
|
مَن اختارها الله خير النسا |
|
سلام على المسك أنفاسه |
|
على الحسن الألمعي الرضا |
|
سلام على الأورعي الحسين |
|
شهيد يرى جسمه كربلا |
|
سلام على سيد العابدين |
|
علي بن الحسين المجتبى |
|
سلام على الباقر المهتدي |
|
سلام على الصادق المقتدى |
|
سلام على الكاظم الممتحن |
|
رضي السجايا إمامِ التقى |
|
سلام على الثامن المؤتمن |
|
علي الرضا سيد الأصفيا |
|
سلام على المتقي التقي |
|
محمد الطيب المرتجى |
|
سلام على الأريحي النقي |
|
علي المكرم هادي الورى |
|
سلام على السيد العسكري |
|
إمام يجهز جيش الصفا |
|
سلام على القائم المنتظر |
|
أبي القاسم القرم نور الهدى |
|
سيطلع كالشمس في غاسق |
|
ينجيه من سيفه المنتقى |
|
ترى يملأ الأرض من عدله |
|
كما ملئت جور أهل الهوى |
|
سلام عليه وآبائه |
|
وأنصاره ما تدوم السما»([194]) |
15ـ محمد بن طولون الدمشقي الحنفي (ت/953 هـ)([195]).
قال في كتابه (الأئمة الاثنا عشر): «وثاني
عشرهم ابنه محمد بن الحسن، وهو أبو القاسم محمد بن الحسن بن علي الهادي بن محمد
الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين
العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، (رضي الله عنهم)... كانت ولادته (رضي الله
عنه) يوم الجمعة، منتصف شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين»([196]).
16ـ القاضي حسين بن
محمد الديار بكري (ت/ 966 هـ)([197]).
قال في كتابه (تاريخ الخميس): «وفي
سنة ستين ومائتين، مات الحسن بن علي الجواد بن الرضا العلوي، أحد الأئمة الاثني
عشر الذين تعتقد الرافضة عصمتهم، وهو والد منتظرهم محمد بن الحسن»([198]).
17ـ عبد الوهاب بن أحمد
الشعراني الشافعي (ت/ 973 هـ)([199]).
قال في كتابه (اليواقيت والجواهر) في المبحث الخامس والستين من الجزء الثاني، في
بيان أن جميع أشراط الساعة التي أخبرنا بها الشارع حق لابدّ أن تقع كلّها قبل قيام
الساعة: «وذلك كخروج
المهدي، ثم الدجال ثم نزول عيسى» إلى أن قال: «ثم
تأخذ في ابتداء الاضمحلال إلى أن يصير الدين غريباً كما بدأ، وذلك الاضمحلال يكون
بدايته من مضي ثلاثين سنة من القرن الحادي عشر، فهناك يُترقّب خروج المهدي×، وهو
من أولاد الإمام حسن العسكري، ومولده× ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين
ومائتين، وهو باقٍ إلى أن يجتمع بعيسى بن مريم×، فيكون عمره إلى وقتنا هذا ـ وهو
سنة ثمان وخمسين وتسعمائة ـ سبعمائة وست سنين»([200]).
18ـ ابن حجر الهيتمي الشافعي (ت/ 974 هـ)([201]).
قال في كتابه (الصواعق المحرقة): «أبو
محمد الحسن الخالص... مات بسُرَّ من رأى، ودفن عند أبيه وعمه، وعمره ثمانية وعشرون
سنة. ويقال: إنّه سُمَّ أيضاً، ولم يخلف غير ولده أبي القاسم محمد الحجة، وعمره
عند وفاة أبيه خمس سنين، لكن آتاه الله فيها الحكمة، ويسمى القائم المنتظر، قيل:
لأنّه سُتر بالمدينة وغاب فلم يعرف أين ذهب»([202]).
19ـ الملاّ علي القاري (ت:
1014 هـ)([203]).
قال في كتابه (مرقاة المفاتيح) معلقاً على حديث (الاثني عشر من قريش): «قلت:
وقد حمل الشيعة: الاثني عشر على أنهم من أهل بيت النبوّة متوالية، أعم من أن تكون
لهم خلافة حقيقية أو استحقاقاً، فأولهم علي، فالحسن، فالحسين، فزين العابدين،
فمحمد الباقر، فجعفر الصادق، فموسى الكاظم، فعلي الرضا، فمحمد التقي، فعلي النقي،
فحسن العسكري، فمحمد المهدي (رضوان الله تعالى عليهم أجمعين)، على ما ذكره زبدة
الأولياء خواجة محمد بارسا في كتاب (فصل الخطاب) مفصلة، وتبعه مولانا نور الدين عبد
الرحمن الجامي في أواخر (شواهد النبوّة) وذكر فضائلهم ومناقبهم وكراماتهم
ومقاماتهم مجملة..»([204]).
20ـ ابن العماد الحنبلي
(ت/1089 هـ)([205]).
قال في كتابه (شذرات الذهب في أخبار من ذهب): «وفيها:
[أي سنة 260 هـ توفي] الحسن بن علي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن
جعفر الصادق العلوي الحسيني، أحد الاثني عشر الذين تعتقد الرافضة فيهم العصمة، وهو
والد المنتظر محمد صاحب السرداب»([206]).
21ـ سليمان بن إبراهيم
المعروف بالقندوزي الحنفي (ت: 1294 هـ)([207]).
قال في كتابه (ينابيع
المودة) الباب التاسع والسبعون في ذكر ولادة القائم المهدي: «فالخبر
المعلوم المحقّق عند الثقات أنّ ولادة القائم× كانت ليلة الخامس عشر من شعبان سنة
خمس وخمسين ومائتين في بلدة سامراء»([208]).
22ـ خير الدين الزركلي (ت: 1410 هـ)([209]).
قال في كتابه (الأعلام): «محمد
بن الحسن العسكري (الخالص) بن علي الهادي، أبو القاسم: آخر الأئمة الاثني عشر عند
الإمامية، وهو المعروف عندهم بالمهدي، وصاحب الزمان، والمنتظر، والحجة، وصاحب
السرداب ولد في سامراء...»([210]).
23ـ محمد ناصر الألباني (ت 1420 هـ)([211]).
قال في كتابه (التعليقات الرضية
على الروضة الندية)، لمؤلفه (صديق حسن خان (ت/1307 هـ): «قال
الماتن رحمه الله: ومن هذا القبيل استثناء الفاطمية من قوله: (ويغتفر برضا الأعلى
والولي) وجعل بنات فاطمة (رضي الله عنها) أعلى قدراً وأعظم شرفاً من بنات رسول
الله (صلّى الله عليه وسلّم)، لصلبه» ثم قال:
«فيا عجباً كل العجب من هذه التعقيبات الغريبة ... انظر اُمّهات العترة الطاهرة
الذين هم قدوة السادة واُسوة القادة في كلّ خير ودين مَنْ كُنّ؟
فاُمّ
أبي العترة الإمام زين العابدين علي بن الحسين شهربان بنت يزدجرد بن شهريار بن
شيرويه بن خسروبرويز بن هرمز بن نوشيروان ـ ملك الفرس ـ واُمّ الإمام موسى الكاظم اُمّ
ولد اسمها حميدة، واُمّ الإمام علي الرضا بن موسى الكاظم اُمّ ولد أيضاً اسمها
تكتم» إلى أن قال: «واُمّ
الإمام محمد بن حسن الملقب بالحجة والقائم والمهدي اُمّ ولد اسمها نرجس، وهكذا كان
شأن التزوج في أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) لم يعرج أحد منهم على
الكفاءة في النسب»([212]).
فهناك اعتراف من الألباني ـ المعروف بتشدده ـ بولادة
الإمام المهدي× من أمّه نرجس، وهذا يؤيد ما قالته الشيعة.
نكتفي بهذا المقدار من الأقوال التي فيها دلالة
واضحة على ولادة الإمام المهدي×.
وننتقل بعد ذلك إلى الروايات الشيعية الصحيحة التي
صرّحت بالولادة، وكذلك الشهادات والوثائق التي تدلّ على إثبات ذلك.
الروايات الدالة على ولادة الإمام المهدي
من طرق الشيعة
من الواضحات والمسلّمات عند مذهب الإمامية الاثني
عشرية ولادة وإمامة المهدي×، ولكن مع هذا نجد القفاري قد شكّك في الوضوح
والتسالم، مدّعياً أن كتب الشيعة تخلو من ذلك؛ لذا سنضطر لنقل بعض الروايات
الصحيحة والشواهد والوثائق التي تدلّ على ذلك.
روى الكليني بسند صحيح، عن محمد بن يحيى العطار، عن
أحمد بن إسحاق، عن أبي هاشم الجعفري، قال: «قلت
لأبي محمد×: جلالتك
تمنعني من مسألتك فتأذن لي أن أسألك؟ فقال: سل، قلت: يا سيدي، هل لك ولد؟ فقال:
نعم، فقلت: فإن حدث بك حدث فأين أسأل عنه؟ قال: بالمدينة»([213]).
سند الرواية
1ـ محمد بن يحيى
العطار: ثقة عين، قال النجاشي: «محمد
بن يحيى أبو جعفر العطار القمي، شيخ أصحابنا في زمانه، ثقة، عين، كثير الحديث»([214]). وكذلك أورد العلامة
الحلّي في خلاصته نفس كلام النجاشي([215]).
2ـ أحمد بن إسحاق: هو ابن سعد الأشعري، ثقة، قال
النجاشي في رجاله: «وكان
خاصة أبي محمد×»([216]).
وقال الطوسي في رجاله: «أحمد
بن إسحاق بن سعد الأشعري، قميّ ثقة»([217]).
وقال في الفهرست: «كان
من خواص أبي محمد×، ورأى
صاحب الزمان× وهو
شيخ القمّيين ووافدهم»([218]).
3ـ أبو هاشم الجعفري: هو داود بن القاسم يكنّى أبا
هاشم، ثقة عظيم المنزلة.
قال النجاشي في رجاله: «كان
عظيم المنزلة عند الأئمة^، شريف القدر، ثقة»([219]).
وقال الطوسي في رجاله: «ثقة
جليل القدر»([220]).
وبهذا يكون سند الرواية
في غاية الاعتبار والصحة.
أما دلالة الرواية فواضحة وصريحة في أن الإمام
العسكري× كان قد خلّف ولداً وهو المهدي×.
روى الكليني أيضاً في
الكافي، والمفيد في الإرشاد، بسند صحيح: «عن علي
بن محمد، عن محمد بن علي بن بلال، قال: خرج إليّ من أبي محمد قبل مضيّه
بسنتين يخبرني بالخلف من بعده، ثم خرج إليّ من قبل مضيه بثلاثة أيام يخبرني
بالخلف من بعده»([221]).
1ـ علي بن محمد: هو القاضي أبو الحسن علي بن محمد بن
بندار، يعتبر من مشايخ الكليني والصدوق، قال الشيخ منتجب الدين في فهرسته: «القاضي
أبو الحسن علي بن بندار بن محمد الهوشمي: فاضل، ثقة»([222]).
وقال الأردبيلي في جامع
الرواة: «علي
بن بندار بن محمد الهوشمي القاضي أبو الحسن: فاضل ثقة»([223]).
2ـ محمد بن علي بن
بلال: وثّقه الشيخ الطوسي في رجاله قائلاً: «محمد
بن علي بن بلال، ثقة»([224]).
وقال العلامة الحلي في
الخلاصة: «أحمد
بن علي بن بلال، من أصحاب أبي محمد العسكري×، ثقة»([225]).
ونقل السيد الخوئي في معجمه، وثاقته، قائلاً: «والمتلخص
من جميع ما ذكرنا: أنّ الرجل كان ثقة مستقيماً... فلا مانع من العمل برواياته،
بناء على كفاية الوثاقة في حجية الرواية، كما هو الصحيح»([226]).
إذن فالرواية صحيحة،
ودلالتها واضحة في إخبار الإمام الحسن العسكري بولادة وإمامة خلفه من بعده‘.
روى الصدوق بسنده عن أبي
الغنائم خادم الإمام×، قال: «ولد
لأبي محمد× ولد، فسمّاه محمداً، فعرضه على أصحابه يوم الثالث، وقال: هذا صاحبكم من
بعدي وخليفتي عليكم، وهو القائم الذي تمتدّ إليه الأعناق بالانتظار، فإذا امتلأت
الأرض جوراً وظلماً خرج فملأها قسطاً وعدلاً»([227]).
وهذه الرواية متحدة المضمون مع الروايتين السابقتين،
وهذا يقوّي صحتها بغضّ النظر عن سندها.
هذه بعض النماذج من الروايات التي تؤكد ولادته،
وهناك روايات اُخرى مستفيضة، ولعلها تصل إلى حدّ التواتر، ولك أن تراجع كتاب
الغيبة للشيخ النعماني وكتاب الغيبة للطوسي، وكتاب إكمال الدين وتمام النعمة للشيخ
الصدوق، وكفاية الأثر للشيخ الخزاز القمي، وغيرها من الكتب في هذا المجال، التي
تدلّ على ما ندّعيه.
الشهادات
الحسية لولادة الإمام المهدي×
أولاً:
شهادة من رآه من أصحابه ومن كان معه ومع أبيه ×
1ـ شهادة حكيمة بنت
محمد بن علي‘ ([228]).
روى الكليني وتبعه المفيد ـ واللفظ للأول ـ بسنده عن
موسى بن محمد بن القاسم، قال: «حدثتني
حكيمة بنت محمد بن علي ـ وهي عمّة أبيه ـ أنها رأته ليلة مولده وبعد ذلك»([229]).
وروى الصدوق بسنده عن حكيمة بنت الإمام محمد الجواد،
قالت: «بعث
إليّ أبو محمد الحسن بن علي×، فقال: يا عمّة اجعلي إفطارك هذه الليلة عندنا، فإنها
ليلة النصف من شعبان، فإن الله تبارك وتعالى سيُظهر في هذه الليلة الحجّة، وهو
حجته في أرضه...» ثم إنّ حكيمة عمّة الإمام العسكري تتحدث عن ولادة
الإمام المهدي وتقول: «فضممته
إليّ فإذا أنا به نظيف، متنظف، فصاح بي أبو محمد×: هلمي إليّ ابني يا عمة...»([230]).
2ـ عثمان بن سعيد أبو
عمرو العمري([231]).
روى المفيد بسنده عن
حمدان القلانسي، قال: «قلت
لأبي عمرو العمري: قد مضى أبو محمد، فقال لي: قد مضى، ولكن قد خلّف فيكم من رقبته
مثل هذه ـ وأشار بيده»([232]).
3ـ محمد بن عثمان
العمري([233]).
روى الصدوق في إكمال الدين، بسند صحيح، عن محمد بن
الحسن (رضي
الله عنه)، قال: «حدثنا
عبد الله بن جعفر الحميري، قال: قلت لمحمد بن عثمان العمري (رضي الله عنه): إني
أسألك سؤال إبراهيم ربه جل جلاله حين قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي
الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}
فأخبرني عن صاحب هذا الأمر هل رأيته؟ قال: نعم، وله رقبة مثل ذي، وأشار بيده إلى
عنقه»([234]).
روى الصدوق بسنده عن معاوية
بن حكيم، ومحمد بن أيوب بن نوح ومحمد بن عثمان العمري (رضي الله عنه)، قالوا: «عرض
علينا أبو محمد الحسن بن علي‘ ونحن في منزله وكنّا أربعين رجلاً، فقال: هذا إمامكم
من بعدي، وخليفتي عليكم، أطيعوه ولا تتفرقوا من بعدي في أديانكم فتهلكوا، أما إنّكم
لا ترونه بعد يومكم هذا، قالوا: فخرجنا من عنده، فما مضت إلاّ أيام قلائل حتى مضى
أبو محمد×»([236]).
روى الصدوق بسنده عن يعقوب
بن منقوش، قال: «دخلت
على أبي محمد الحسن بن علي× وهو جالس على دكّان في الدار... فقلت له: [يا]
سيدي من صاحب هذا الأمر؟ فقال: ارفع الستر، فرفعته فخرج إلينا غلام خماسي([238]) له
عشر أو ثمان أو نحو ذلك، واضح الجبين أبيض الوجه، دري المقلتين... فجلس على
فخذ أبي محمد×، ثم قال لي: هذا صاحبكم...»([239]).
6ـ إبراهيم بن محمد بن
فارس النيسابوري([240]):
وأيضاً روى عن فارس
النيسابوري، قال: «لما
همّ الوالي عمر بن عوف بقتلي... غلب عليّ خوف عظيم، فودّعت أهلي وأحبائي وتوجهت
إلى دار أبي محمد× لأودّعه، وكنت أردت الهرب، فلمّا دخلت عليه رأيت غلاماً جالساً
في جنبه وكان وجهه مضيئاً كالقمر ليلة البدر، فتحيّرت من نوره وضيائه... فقلت لأبي
محمد×: يا سيدي، جعلني الله فداك، من هو؟ وقد أخبرني بما كان في ضميري؟ فقال: هو
ابني وخليفتي من بعدي»([241]).
وهناك الكثير غير ما
ذكرنا ممن رآه وتشرف بلقائه ورؤيته، فقد أفرد الشيخ الكليني باباً سمّاه (فيمن رآه×) وقد ذكر فيه خمسة عشر رواية تدل على مشاهدته من قبل
أصحابه، وكذلك فعل الشيخ الصدوق([242]) والشيخ المفيد([243]) رحمهم الله.
ثانياً:
الإكثار من العقائق عن الإمام المهدي ×
لعل واحدة من الإجراءات
الإعلامية التي اتخذها وسلكها الإمام العسكري× لإثبات ولادة ولده القائم المهدي×،
ولكي يثبت للشيعة أنّه هو الإمام من بعده، هي كثرة العقائق عن ولده، فقد حدثتنا
الروايات عن حالات اتخذها الإمام جديرة بأن يُلتفت إليها، منها:
أـ إنّه لم يعق عن أحد من الأئمة^ كما كان للإمام
المهدي×، فقد أمر الإمام العسكري× وكيله عثمان بن سعيد بهذه المهمة، وكلّفه بشراء (عشرة
آلاف رطل خبز ومثله من اللحم) وفرقه على الفقراء.
روى الشيخ الصدوق بسنده
عن أبي جعفر العمري، قال: «لمّا
ولد السيد [أي الإمام المهدي×]، قال أبو محمد×: ابعثوا إلى أبي عمرو [أي عثمان بن
سعيد]، فبعث إليه فصار إليه، فقال له: اشتر عشرة آلاف رطل خبز، وعشرة آلاف رطل لحم
وفرّقه... وعقّ عنه بكذا وكذا شاة»([244]).
ب ـ تعدّد وتنوّع الأماكن التي أمر الإمام العسكري
بتفريق تلك العقائق فيها، وهذا التعدد فيه دلالة إعلامية للإخبار بولادة ولده صاحب
الزمان×، حيث بعث بأربعة من العقائق إلى صاحبه إبراهيم، وكتب إليه بعد البسملة: «هذه
عن ابني محمد المهدي، كلّ منها وأطعم من وجدت من شيعتنا»([245]).
ولا يخفى أن هذا الإخبار هو للثقات من أصحابه فقط،
وإلاّ فالإمام في نفس الوقت كان يأمر بكتمان أمره؛ خوفاً عليه من بطش السلطات
الحاكمة.
وبهذا تكون ظاهرة العقائق ـ من كثرتها وتعدد الأماكن
لها ـ تعبيراً عن إرادة الإمام العسكري في توجيه أنظار الخواصّ من شيعته
إلى ولادة ابنه المهدي؛ لأنّه كان يعلم ما سيؤول إليه الأمر من بعده،
وأن السلطات ستوحي للناس بأنّ الإمام لم يخلف ولداً؛ ولذا جاء بهذا الإثبات
ليُطمئن شيعته بأنّ له ولداً هو المهدي، وهو من يتولى أمر الإمامة من بعده.
ثالثاً:
رؤية الوكلاء للمهدي
×
وأيضاً من الشهادات الحسّية الواضحة، رؤية الوكلاء
له×، ونذكر ما رواه الصدوق، حيث قال: «ورآه
من الوكلاء ببغداد: العمري وابنه، وحاجز، والبلالي، والعطار، ومن الكوفة: العاصمي،
ومن أهل الأهواز: محمد بن إبراهيم بن مهزيار، ومن أهل قم: أحمد بن إسحاق، ومن أهل
همدان: محمد بن صالح، ومن أهل الري: البسامي، والأسدي، ومن أهل آذربيجان: القاسم
بن العلاء، ومن أهل نيسابور: محمد بن شاذان ... ومن همدان: محمد بن كشمرد، وجعفر
بن حمدان، ومحمد بن هارون بن عمران، ومن الدينور: حسن بن هارون، وأحمد بن أخية،
وأبو الحسن، ومن إصفهان: ابن باذشالة، ومن الصيمرة: زيدان، ومن قم: الحسن بن
النضر، ومحمد بن محمد، وعلي بن محمد بن إسحاق، وأبوه، والحسن بن يعقوب، ومن أهل
الري: القاسم بن موسى وابنه، وأبو محمد بن هارون، وصاحب الحصاة، وعلي بن محمد،
ومحمد بن محمد الكليني، وأبو جعفر الرفاء»([246]).
وغيرهم ممن ذكرهم الصدوق
رحمه الله تعالى.
رابعاً:
تعامل السلطة العباسية بعد وفاة الإمام العسكري ×
ومن الأدلة الحسّية
أيضاً التي رافقت الأحداث المؤلمة بعد وفاة الإمام العسكري× هو تحرّي السلطة
الحاكمة المتمثلة آنذاك بالخليفة المعتمد العباسي (ت/279هـ)، فقام هذا الخليفة
مباشرة بعد وفاة الإمام العسكري× بتفتيش داره وحبس جواريه واعتقال حلائله.
وقد تقدم قول المفيد
رحمه الله: «وسعى
في حبس جواري أبي محمد× واعتقال حلائله، وشنّع على أصحابه... وجرى على مخلفي أبي
محمد× بسبب ذلك كلّ عظيمة، من اعتقال وحبس وتهديد وتصغير واستخفاف وذل، ولم يظفر
السلطان منهم بطائل»([247]).
وهذا يكشف عن إيمان الخليفة العباسي بوجود الإمام
المهدي× نتيجة إيمانه بمضامين الأحاديث المتواترة التي أكدت ولادته، وأنّه من ولد
فاطمة÷ ومن ذرية الحسين ومن ولد الحسن العسكري^، وإلاّ لا يوجد مبرر آخر صحيح لهذا التأكيد على
تفتيش بيت الإمام العسكري× واعتقال عياله ...
وأمّا ما ذكره من أن
السلطة كانت قد فعلت ذلك؛ للمطالبة بميراث جعفر الكذاب، فهو ليس صحيحاً، بل كان
مجرد ذريعة، وإلاّ كان يمكن أن يُكتفى لحل هذه المسألة من خلال إجراءات قضائية، لا
أنّه تقوم السلطة بنفسها بالمطالبة بعد وفاة الإمام العسكري× مباشرة، فهذا يكشف
أنّ هناك إيماناً مسبقاً بوجود خلف وعقب للإمام العسكري×؛ لذا جاءت هذه الإجراءات
لتؤكد هذا المعنى، ولكن شاءت القدرة والسنّة الإلهية أن يُحفظ الوليد كما حفظت
قبله موسى× من فرعون.
وخلاصة ما تقدّم من روايات الفريقين
وأقوال علمائهم وشهادة الإمام العسكري× نفسه بولادة ابنه المهدي× وكذلك من خلال
الشهادات الحسيّة، كشهادة من رآه من أصحابه وكثرة العقائق عنه، ورؤية الوكلاء له،
وممن وقف على معجزاته، وكذلك تصرّف السلطات العباسية مع هذا الحدث، واللجوء إلى
مطاردته بحجة الأخذ بميراث جعفر، كلّها شهادات تثبت لنا ولادته وإمامته×.
الشبهة: اضطراب أمر الشيعة بعد وفاة
الإمام العسكري×
قال القفاري: «وبسبب
ذلك اضطرب أمر الشيعة، وتفرّق جمعهم؛ لأنّهم أصبحوا بلا إمام، ولا دين عندهم
بدون إمام؛ لأنّه هو الحجّة على أهل الأرض...»([248]).
الجواب: الشيعة الإمامية لم يضطرب أمرهم
لم يبيّن القفاري من هم الشيعة الذين اضطرب أمرهم،
هل هم الاثنا عشرية الإمامية أم غيرهم؟
فإن كان الثاني: فالمفروض أنّ محطّ اهتمامه هو عقائد
الإمامية الاثني عشرية، كما هو موضوع رسالته، وليس صحيحاً نقد عقائد الآخرين.
وإن كان الأول: فقد اتضح من مجموع بحثنا اتفاق
الشيعة الإمامية على ولادة الإمام المهدي وإمامته، وعضدنا ذلك بأقوال جملة كبيرة
من علماء أهل السنة الذين صرّحوا بولادته، فأين اضطراب الشيعة الإمامية وتفرقهم؟!
وكيف أصبحوا بلا إمام؟!!
أمّا قول الإمامية إنّ
الأرض لا تخلو من حجة، فهذا الكلام لم تنفرد فيه الشيعة فقط؛ وقد تقدّم الحديث عن
ذلك([249]).
وهذا الحديث المتقدّم ينسجم مع ما رواه أهل السنة من
أنّ أهل البيت هم أمان لأهل الأرض، وهم القيّمون على هذا الدين، فقد أخرج الحاكم في مستدركه بسنده عن جابر (رضي
الله عنه)، قال: «قال
رسول الله (صلّى
الله عليه وآله):... وأهل
بيتي أمان لأمتي فإذا ذهب أهل بيتي أتاهم ما يوعدون. صحيح الإسناد ولم يخرجاه»([250]).
وأخرج الجويني في كتابه (فرائد السمطين) عن الإمام
جعفر الصادق×، عن أبيه محمد بن علي‘ عن أبيه علي بن الحسين‘ قال: «نحن
أئمّة المسلمين، وحجج الله على العالمين، وسادة المؤمنين، وقادة الغرّ المحجّلين،
وموالي المؤمنين، ونحن أمان لأهل الأرض، كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء، ونحن
الذين بنا يمسك الله السماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه، وبنا يمسك الأرض أن تميد
بأهلها، وبنا ينزل الغيث، وينشر الرحمة، ويخرج بركات الأرض، ولولا ما في الأرض
منّا لساخت بأهلها».
ثم قال: «ولم
تخل الأرض منذ خلق الله آدم من حجّة لله فيها، ظاهر مشهور، أو غائب مستور، ولا
تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجة لله فيها، ولولا ذلك لم يُعبد الله»([251]).
وكذلك تقدم الكلام عن حديث الثقلين المتواتر عند
الفريقين([252])، حيث قلنا هناك إنّ
العترة لا يمكن أن تنفك وتفترق عن الكتاب، والتمسّك بهما عاصم عن الضلال، وهذا
لازمه الاستمرار والبقاء مع الكتاب إلى أن يردا على النبي’.
إذن لابدّ في كلّ زمان من حجة في الأرض من أهل بيت النبي’، يكون أماناً لأهل الأرض ولا يفترق عن
القرآن، وإلاّ ماجت الأرض بأهلها، كما ينقل ذلك المتقي الهندي في كنزه عن ابن
النجار، قال: «إذا
هلكوا ماجت الأرض بأهلها»([253]).
الشبهة: بطلان دعوى أن للإمام الحسن
العسكري× ولداً خفياً
لقد تمسّك القفاري في ادّعائه أنّ الإمام الحسن
العسكري ليس له ولد، بعدة أمور: أهمّها: إنكار الشيعة أنفسهم لذلك، حيث قال: «إنّ
هذه الدعوى لم تلق قبولاً لدى الشيعة أنفسهم إلاّ في العصور المتأخرة نسبيّاً»([254]).
ثم استشهد القفاري على ذلك
بكلامٍ نقله عن الأشعري القمي والنوبختي ـ حكايةً عن بعض فرق الشيعةـ قالا: «حتى
قال بعضهم: إنّا قد طلبنا الولد بكل وجه فلم نجده، ولو جاز لنا دعوى أنّ
للحسن ولداً خفيّاً لجاز مثل هذه الدعوى في كل ميت من غير خلف، ولجاز أن يقال
في النبي (صلّى الله عليه وسلّم) أنّه خلّف ابناً نبياً رسولاً، لأنّ مجيء
الخبر بوفاة الحسن بلا عقب كمجيء الخبر بأنّ النبي (صلّى الله عليه وسلّم) لم
يخلّف ولداً من صلبه، فالولد قد بطل لا محالة»([255]).
الجواب: كلام
القفاري باطل من عدة وجوه
يمكننا
الجواب عن هذه الشبهة بعدة وجوه أهمّها:
الوجه
الأول: لقد نقلنا فيما تقدم
من أبحاث، شهادات علماء أهل السنة من المؤرخين وعلماء الأنساب بولادة خلفٍ
للحسن بن علي اسمه محمد، بل صرّح بعض منهم بأنّه يلقب بالمهدي([256]).
الوجه
الثاني: إنّ ما استشهد به
القفاري على دعواه مما ذكره الأشعري والقمّي هو قول لإحدى فرق الشيعة غير
الإمامية الاثني عشرية، ولم يبيّن الأشعري والنوبختي هوية هذه الفرقة التي
ادّعت عدم الولد، أو عدد أتباعها، ولم ينقل لنا التاريخ شيئاً عنها وعن غيرها
من الفرق التي ذكرت، فليست هي إلا محض ادّعاءات لبعض من الناس الذين
عرضت لهم شبهة أو كانوا من الجهلة البسطاء أو ممن رجعوا عن الحق، وما أكثر
أصحاب المقالات والمدعيات في تاريخ الفرق الإسلامية الذين يطلقون بعض الدعاوى
بحثاً عن المال أو الشهرة والجاه، ومن يراجع كتب الفرق والمقالات والملل وأهل
الأهواء يجد الشيء الكثير من ذلك، فالأمر ليس مختصاً بالشيعة فقط، بل لازالت
إلى يومنا هذا تظهر لنا مقالة هنا وهناك، وتشذّ فرقة من هذه الطائفة أو تلك،
فليس من الإنصاف أن تعمّم المقالات على طائفة بأكملها.
مضافاً
إلى ذلك؛ فإنّ استدلال القفاري هذا يعد خروجاً عن المنهج الذي ادّعى السير عليه،
وهو أن يحتجّ على الشيعة من كتبهم وأقوال علمائهم، فإنّ من احتجّ بقولهم القفاري
لا يمثلون الشيعة الإمامية الاثني عشرية الذين خصص القفاري رسالته فيهم، وذِكرُ
الأشعري والنوبختي لهم في فرق الشيعة لا يدخلهم في الشيعة الإمامية، ولذا نجدهما
قد أفردا للشيعة الإمامية كلاماً خاصاً في مسألة ولادة المهدي× معترفين بولادته
ومجمعين على ذلك، لكن القفاري لم يتعرض لذكره! قالا ـ واللفظ للأشعري ـ :«ففرقة
منها وهي المعروفة بالإمامية، قالت: لله في أرضه ـ بعد مضي الحسن بن علي حجة على
عباده وخليفته في بلاده ـ قائم بأمره من ولد الحسن بن علي بن محمد بن علي الرضا،
آمرٌ ناهٍ مبلغٌ عن آبائه مودعٌ عن أسلافه... خلفٌ لأبيه ووصيّ له قائم بالأمر
بعده... فنحن متمسّكون بإمامة الحسن بن علي، مقرّون بوفاته، مؤمنون بأنّ له خلفاً
من صلبه، متديّنون بذلك، وأنّه الإمام من بعد أبيه الحسن بن علي، وأنّه في هذه
الحالة مستتر خائف مغمود مأمور بذلك حتى يأذن الله عزّ وجلّ فيظهر ويعلن أمره ...
ولا يكون أن يموت إمام إلا ولد له لصلبه وله ولد وولد، فهذه سبيل الإمامة وهذا
المنهاج الواضح والغرض الواجب اللازم الذي لم يزل عليه الإجماع من الشيعة الإمامية
المهتدية رحمة الله عليها، وعلى ذلك كان إجماعنا إلى يوم مضى الحسن بن علي (رضوان
الله عليه)»([257]).
فكيف بعد هذا يدعي القفاري
بأنّ الشيعة تنكر ولادة الإمام المهدي؟
الوجه الثالث: لقد قام القفاري
باقتطاع ما نقله عن النوبختي والأشعري القمي فيما يخصّ كلام هذه الفرقة من
الشيعة التي ادعت نفي الولد، فإنّه بعد مراجعة الكلام بصورته الكاملة يتضح أنّ هذه
الفرقة من الشيعة ـ التي نجهل حقيقتها ـ لا تنفي وجود خلف للإمام الحسن العسكري
نفياً مطلقاً، بل تنفي ولادته قبل وفاة أبيه، في الوقت نفسه تؤمن بأنّ الإمام
الحسن× قد توفي وكانت إحدى جواريه حاملاً، وهذا الحمل هو الإمام المهدي؛ لأنّهم
يعتقدون ـ كبقية الشيعةـ بأنّه لابدّ من وجود إمام في كل زمان حيث لا يمكن أن تخلو
الأرض من قائم لله بحجة.
وإليك كلام الفرقة الشيعية
التي نقل كلامها النوبختي ولم يذكره القفاري: «ولكن
هناك حَبَلٌ قائمٌ قد صحّ في سَريّة له، وستلد ذكراً إماماً متى ما ولدت؛ فإنّه لا
يجوز أن يمضي الإمام ولا خلف له فتبطل الإمامة وتخلو الأرض من الحجة»([258]).
وواضح للقارئ من كلامهم
أنّهم لم ينفوا الولد مطلقاً، بل كما ذكرنا فإنّ النفي للولد في حياة الإمام
العسكري فقط.
ثم بعد ذلك يذكر النوبختي
احتجاج الإمامية على تلك الفرقة، قال: «واحتجّ
أصحاب الولد على هؤلاء، فقالوا: أنكرتم علينا أمراً قلتم بمثله ثم لم تقنعوا بذلك
حتى أضفتم إليه ما تنكره العقول، قلتم: أن هناك حَبَلاً قائماً، فإن كنتم اجتهدتم
في طلب الولد فلم تجدوه فأنكرتموه لذلك، فقد طلبنا معرفة الحَبَل وتصحيحه أشدّ من
طلبكم، واجتهدنا فيه أشدّ من اجتهادكم، فاستقصينا في ذلك غاية الاستقصاء فلم نجده، فنحن
في الولد أصدق منكم؛ لأنّه قد يجوز في العقل والعادة والتعارف أن يكون للرجل ولد
مستور لا يعرف في الظاهر ويظهر بعد ذلك ويصحّ نسبه، والأمر الذي ادّعيتموه منكر
وشنيع، ينكره عقل كل عاقل، ويدفعه التعارف والعادة، مع ما فيه من كثرة
الروايات الصحيحة عن الأئمة الصادقين أنّ الحَبَل لا يكون أكثر من تسعة أشهر، وقد
مضى للحَبَل الذي ادّعيتموه سنون، وإنّكم على قولكم بلا صحة ولا بيّـنة»([259]).
فليس
من العدل والإنصاف أن يتم اقتطاع الكلام بهذه الكيفية ويتلاعب به من أجل إثبات
الحجة على الخصم، وليس هذا من الخلق الإسلامي الذي يحتّم علينا قول الحق والعدل
ولو كان بيننا وبين الخصم عداوة وبغضاء، قال تعالى: {وَلاَ
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ
لِلتَّقْوَى}([260]).
الشبهة: الاعتقاد
بالمهدي وغيبته سببه تطلع الشيعة لكيان سياسي
زعم القفاري أن منشأ الاعتقاد بالمهدي وغيبته إمّا
أن يكون الرغبة عند الشيعة في قيام كيان مستقل لهم منفصلاً عن دولة الإسلام، أو أن
يكون الرغبة بالاستئثار بالأموال تحت مسمى الخمس، أو أن يكون المنشأ الديانة
المجوسية سابقاً حيث كان في معتقداتها وجود مهدي منتظر باق حي، وقد رجح القفاري
المنشأ الأخير، فقال في فصل (أسباب القول بالغيبة): «ولعل
من أسباب القول بالمهديّة والغيبة أيضاً تطلّع الشيعة إلى قيام كيان سياسي لهم
مستقل عن دولة الإسلام، وهذا ما نلمسه في اهتمامهم بمسألة الإمامة، ولمّا خابت
آمالهم، وغُلبوا على أمرهم وانقلبوا صاغرين، هربوا من الواقع إلى الآمال والأحلام
كمهرب نفسي ينقذون به أنفسهم من الإحباط وشيعتهم من اليأس، وأخذوا يبثّون الرجاء
والأمل في نفوس أصحابهم، ويمنّونهم بأنّ الأمر سيكون في النهاية لهم؛ ولذلك فإن
القول بالمهدية والغيبة ينشط دعاته بعد وفاة كلّ إمام؛ لمواجهة عوامل اليأس وفقدان
الأمل، بالإضافة إلى تحقيق المكاسب المادية»([261]).
وقال في نفس الفصل: «وأنّ
وراء دعوى غيبة الإمام وانتظار رجعته الرغبة في الاستئثار بالأموال، وأنّ هناك
فئات منتفعة بدعوى التشيّع تغرّر بالسذّج، وتأخذ أموالهم باسم أنّهم نوّاب الإمام،
فإذا ما توفّي الإمام أنكروا موته لتبقى الأموال في أيديهم، ويستمرّ دفع الأموال
إليهم باسم خمس الإمام الغائب. وهكذا تدور عمليات النهب والسلب»([262]).
وقال في نفس الفصل
أيضاً: «وأرجّح
في هذه المسألة أن عقيدة الاثني عشرية في المهدية والغيبة ترجع إلى أصول مجوسية، فالشيعة
أكثرهم من الفرس، والفرس من أديانهم المجوسيّة، والمجوس تدّعي أنّ لهم منتظراً
حيّاً باقياً مهديّاً من ولد بشتاسف بن بهراسف يُقال له: أبشاوثن، وأنّه في حصن
عظيم من خراسان والصّين»([263]).
إذن
هناك ثلاثة أسباب يستعرضها القفاري ويزعم أنّها منشأ الاعتقاد بالمهدي وغيبته:
1ـ
تطلّع الشيعة لقيام كيان سياسي مستقل منفصل عن دولة الإسلام؛ وذلك باهتمامهم
الكبير في مسألة الإمامة، ثم فرّع على هذا أنّ دعاة المهدية ينشطون بعد وفاة كل
إمام.
2ـ
الرغبة باستئثار الأموال باسم خمس الإمام الغائب.
3ـ
أن يكون منشأ عقيدة المهدي راجع إلى الديانة المجوسية.
وسوف
نجيب عن هذه المزاعم تباعاً:
أمّا جواب ما زعمه من أنّ سبب الاعتقاد بالمهدية هو
تطلّع الشيعة إلى قيام كيان سياسي في قوله: «ولعل
من أسباب القول بالمهدية والغيبة([264]) أيضاً
تطلّع الشيعة إلى قيام كيان سياسي لهم»، وقد علل ذلك بالاهتمام الكبير عندهم في مسالة
الإمامة، حيث قال: «وهذا ما نلمسه في اهتمامهم بمسالة الإمامة». فنقول:
الإمامة الامتداد الطبيعي
للنبوة
إنّ مسألة الإمامة التي تعتقد بها الشيعة هي من
المسائل المهمة في الإسلام؛ كونها تشكّل البنية الصحيحة له، فهي الركيزة الأساسية
لفهم تعاليم الإسلام وتجسيده بأصوله وأركانه وفروعه، والاثنا عشرية عندما اعتنقوا
واهتموا بهذه العقيدة كان دليلهم الكتاب، والسنة الشريفة المتمثّلة بالنبي الأكرم’ وأهل بيته الطاهرين، فليست المسألة بهذه السذاجة
وهي كونهم يريدون بناء كيان سياسي لهم؛ بل الأدلة والنصوص هي التي أخذت بأعناقهم
للقول بنظرية الإمامة، أو بحسب تعبير السيد شرف الدين في كتابه (المراجعات) حيث
قال: «إنّ
تعبدنا في الأصول بغير المذهب الأشعري وفي الفروع بغير المذاهب الأربعة لم يكن
لتحزب أو تعصب، ولا للريب في اجتهاد أئمّة تلك المذاهب، ولا لعدم عدالتهم وأمانتهم
ونزاهتهم وجلالتهم علماً وعملاً. لكن الأدلة الشرعية أخذت بأعناقنا إلى الأخذ
بمذهب الأئمّة من أهل بيت النبوّة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الوحي
والتنزيل، فانقطعنا إليهم في فروع الدين وعقائده، وأصول الفقه وقواعده، ومعارف
السنّة والكتاب، وعلوم الأخلاق والسلوك والآداب، نزولاً على حكم الأدلة والبراهين،
وتعبّداً بسنّة سيد النبيين والمرسلين، صلّى الله عليه وآله وعليهم أجمعين.
ولو
سمحت لنا الأدلة بمخالفة الأئمة من آل محمد، أو تمكنّا من تحصيل نيّة القربة لله
سبحانه في مقام العمل على مذهب غيرهم لقصصنا أثر الجمهور، وقفونا إثرهم؛ تأكيداً
لعقد الولاء، وتوثيقاً لعرى الإخاء، لكنها الأدلة القطعية تقطع على المؤمن وجهته،
وتحول بينه وبين ما يروم»([265]).
وهناك الكثير من الآيات
والروايات التي تدل على إمامة الاثني عشر، وقد تقدّم منّا في فصل الإمامة وغيره
الحديث مفصلاً حول (آية الولاية) وكذلك حديث الغدير والثقلين والسفينة وحديث الاثني
عشر من قريش وغيرها من النصوص.
فإيماننا
بالأئمة جاء من كونهم سفن نجاة الاُمّة، وباب حطتها، وأمانها من الاختلاف في
الدين، وأعلام هدايتها، وثقل رسول الله’، وبقيته في أمته.
روى
الطبراني في المعجم الكبير وعنه الهيثمي في الزوائد وابن حجر الهيتمي في الصواعق
والمتقي الهندي في كنز العمال، بسنده عن رسول الله’: «فانظروا
كيف تخلفوني في الثقلين ... كتاب الله ... فاستمسكوا به ولا تضلوا والآخر عترتي،
وأن اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، وإنّي سألت ذلك
لهما، فلا تقدّموهما؛ فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما؛ فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنّهم
أعلم منكم»([266]).
وقال ابن حجر الهيتمي: «وفي
قوله (صلّى الله عليه وسلّم): فلا تقدموهم فتهلكوا، ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا
تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم، دليل على أن من تأهّل منهم للمراتب العلية والوظائف
الدينية كان مقدماً على غيره»([267]).
وقال أيضاً: «وفي
أحاديث الحثّ على التمسك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متاهل منهم للتمسك به إلى
يوم القيامة كما أن الكتاب عزيز كذلك ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض»([268]).
وقال المناوي في فيض القدير معلقاً على حديث
الثقلين: «إنّي
تارك فيكم تلويح، بل تصريح بأنّهما كتوأمين خلّفهما ووصّى أمّته بحسن معاملتهما
وإيثار حقّهما على أنفسهم والاستمساك بهما في الدين»([269]).
ثم نبّه على قول الشريف([270])،
قال: «تنبيه:
قال الشريف: هذا الخبر يُفهِم وجود من يكون أهلاً للتمسك به من أهل البيت والعترة
الطاهرة في كلّ زمن إلى قيام الساعة، حتى يتوجه الحث المذكور إلى التمسك به، كما
أن الكتاب كذلك، فلذلك كانوا أماناً لأهل الأرض، فإذا ذهبوا ذهب أهل الأرض»([271]).
وقال التفتازاني في شرح
المقاصد: «ألا ترى
أنّه عليه الصلاة والسلام قرنهم بكتاب اللّه
تعالى في كون التمسك بهما منقذاً عن الضلالة، ولا معنى للتمسك بالكتاب إلاّ الأخذ
بما فيه من العلم والهداية، فكذا في العترة»([272]).
فكان على القفاري أن
يسأل نفسه: من هم هؤلاء الذين من تقدّمهم ومن قصر عنهم هالك؟ ومن هم الذين قرنهم
الله بكتابه فكان التمسك بهما منقذاً من الضلالة إلى قيام الساعة؟ ومن هم الأمان
لأهل الأرض كما ينقل المناوي والشريف السمهودي؟ وعلى من تنطبق هذه الأوصاف؟ أليس
التطبيق الصحيح لتلك الأوصاف ـ إذا ما نظرنا بنظرة خالية من التعصّب ـ هم العترة
من أهل بيته’ الذين جُعلوا عدلاً للقرآن، وجعل التمسك بهما نجاة من الضلال
والهلاك؟
وهذا ما أجابت عنه نفس
السنة ووضحته، فقد أخرج الترمذي في سننه عن عمر بن أبي سلمة، قال: «لما
نزلت هذه الآية على النبي (صلّى
الله عليه وسلّم): {إِنَّمَا
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أهل الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيراً} في
بيت أمّ سلمة، فدعا فاطمة وحسناً وحسيناً، فجلّلهم بكساء وعلي خلف ظهره، فجلله
بكساء، ثم قال: اللّهم، هؤلاء أهل بيتي، فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، قالت
أمّ سلمة: وأنا معهم يا رسول الله؟ قال: أنت على مكانك وأنت إلى خير»([273])، قال عنه الألباني: «صحيح»([274])، وأخرجه غيره من المحدثين والعلماء، كالطبري في
جامع البيان([275]) والطحاوي في مشكل الآثار([276]).
فأهل البيت^ هم الامتداد الطبيعي للرسول الأكرم’،
وهم حملة لواء الشريعة الإسلامية، وأتباع أهل البيت وشيعتهم حينما يتبعوهم فهم
بذلك مطيعون لله في أمره باتباعهم منهجهم والاهتداء بهديهم والاقتباس من نورهم.
وأمّا مسألة الإمام المهدي× ـ الإمام الثاني عشر من
أئمة العترة الطاهرة ـ بالإضافة إلى ما أشرنا إليه آنفاً ـ فقد تقدّمت الأحاديث
المتواترة ومن نقلها وقال بصحتها، وأيضاً اعتراف كبار علماء أهل السنة بولادته
وغيبته، وعطفنا البحث حول طرق الشيعة وذكرنا أدلتهم بأسانيد صحيحة، وكذلك نقلنا
الوثائق والشواهد التي زُعم أنّها غير موجودة في كتب الشيعة.
وبعد هذا نقول: فأين هروب الشيعة من الواقع؟ بل إن
الواقع ـ كلّ الواقع ـ هو الذي فرض هذه الحقيقة، كما أشرنا إلى ذلك في حديث الاثني
عشر الذي مصداقه وتطبيقه الصحيح هم أئمّة الشيعة الاثني عشرية، فهذا الحديث ضبط
قبل تكامل الواقع الإمامي، فهو انعكاس وحقيقة نطق بها من لا ينطق عن الهوى، فقال: «إن
الخلفاء بعدي اثنا عشر»، وجاء الواقع الإمامي الاثني عشري ابتداءً من الإمام
علي× وانتهاءً بالمهدي×، ليكون التطبيق المعقول لذلك الحديث النبوي الشريف.
فالاهتمام بمسألة
الإمامة جاء لهذا الغرض وليس ـ كما يدعي القفاري ـ لتطلّع الشيعة إلى قيام كيان
سياسي مستقل عن دولة الإسلام؛ بل صميم الإسلام وروحه هو القول بإمامتهم وخلافتهم
بمقتضى ما تقدم من الأحاديث الدالّة على ذلك.
الشبهة: القول بالمهدية ينشط دعاته بعد
وفاة كل إمام
بعد أن ذكر القفاري أنّ
سبب الاعتقاد بالمهدية والغيبة هو رغبة الشيعة بإقامة كيان سياسي مستقل، وقد خابت
آمالهم فأخذوا يبثّون الأمل في نفوس أتباعهم، قال: «ولذلك
فإن القول بالمهدية والغيبة ينشط دعاته بعد وفاة كلّ إمام؛ لمواجهة عوامل اليأس
وفقدان الأمل، بالإضافة إلى تحقيق المكاسب المادية»([277]).
الجواب: ادعاء الشيعة للغيبة حصل بعد وفاة العسكري×
إنّ ما قاله القفاري
ليس صحيحاً؛ فإنّ الشيعة الإمامية لم تدّع الغيبة إلاّ بعد وفاة الإمام الحسن
العسكري×، ولم تحصل هذه الدعوى بعد وفاة كلّ إمام كما زعم، ثمّ إنّ اعتقادهم
بالغيبة بعد الإمام الحسن العسكري× كان منذ زمن النبي| وليس اعتقاداً مبتكراً؛
وذلك من خلال الروايات المتواترة المصرّحة على لسان النبي وأهل بيته^، بأنّ الأئمة
اثنا عشر، أوّلهم علي بن أبي طالب× وآخرهم المهدي×، وعليه فهذا الأمر كان ثابتاً
قبل ولادة الإمام المهدي× بسنوات طويلة، وهناك مئات الكتب قد ألّفت في هذا المضمار
من الفريقين.
وأمّا النصوص التي دلّت على ذلك، والتي تقدّم بعضها
في أحاديث هوية الإمام المهدي×، وأنّه من ولد رسول الله’ ومن ولد علي وفاطمة‘ ومن
ذرية الحسين×، وذكرنا أيضاً أقوال علماء السنّة الذين قالوا إنّه من ولد الحسن
العسكري، وكذلك روايات تصريح الإمام الحسن العسكري بولادته× وغيبته، وقد أجبنا عن
ذلك بالتفصيل فلا نطيل، ودعوى أنّ المبرر للقول بالغيبة هو لمواجهة اليأس وتحقيق
المكاسب المادية، ليست إلاّ تخرّصاً وقراءة خاطئة لعقائد الشيعة الإمامية، ومحاولة
لتشويهها.
الشبهة:
سبب القول بالغيبة الاستئثار بالأموال تحت مسمى الخمس
زعم القفاري أنّ أحد أسباب القول بالغيبة هو
الاستئثار بالأموال تحت عنوان (خمس الإمام)، فقال: «وأنّ
وراء دعوى غيبة الإمام وانتظار رجعته الرغبة في الاستئثار بالأموال، وأن هناك فئات
منتفعة بدعوى التشيّع... ويستمرّ دفع الأموال إليهم باسم خمس الإمام الغائب، وهكذا
تدور عمليّات النهب والسلب»([278]).
الجواب: الأموال المدفوعة حق شرعي ثابت بنص
الكتاب والسنة
نقول: لم يقتصر القفاري
باتهام الشيعة بالاستئثار بالأموال في فصل الغيبة؛ بل نجده يكرر هذا الكلام في
أكثر من فصل من كتابه، لا سيما في الباب الخامس من الفصل الأول (في المجال
الاقتصادي) ([279]) وفي خاتمة كتابه، حيث
قال: «وفي
المجال الاقتصادي كان أثرهم واضحاً في أخذ أموال المسلمين بالقوة أو الخديعة، وفي
تدمير اقتصاد الاُمّة بأي وسيلة، وكان ما
يأخذونه من أموال باسم آل البيت من أهم أسباب رغبة شيوخ الشيعة في بقاء شذوذهم
وخلافهم مع المسلمين»([280]).
فريضة
الخمس في القرآن والسنة النبوية([281])
إنّ اتهام الشيعة باكتناز الأموال ليس له ما يبرره
فهو اتهام ألصق بالشيعة بلا وجه حق؛ وذلك لأن تلك الأموال التي تكلّم عنها القفاري
إنّما كانت بعنوان الخمس أو الزكاة، وهي حقوق شرعية نصّ عليها الكتاب الكريم
والسنة الشريفة، وما يراه القفاري من أنّه سلب ونهب للأموال! إنّما نشأ من اعتقاده
بأنّ الخمس يختصّ بغنائم الحرب، وهذا بحث وقع فيه الخلاف بين الشيعة والسنّة،
فالشيعة تعتقد أن فريضة الخمس ثابتة في كلّ غنيمة، ولو لم تكن في الحرب.
وعلى أية حال؛ فهو بحث فقهي ناتج من اختلاف
الاجتهادات وفهم الأدلة الشرعية، الأمر الذي لا يستوجب اتهام الشيعة وعلمائها
بالسلب والنهب!
وسنتعرّض بشكل إجمالي
إلى بحث الخمس وأدلته من الكتاب الكريم والسنّة النبويّة الطاهرة.
الخمس
في القرآن الكريم
قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أنَّمَا غَنِمْتُم مِّنْ شَيْء فأنَّ
لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَـمَى وَالْمَسَـكِينِ
وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم بِاللهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى
عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كلّ شَيْْء
قَدِيرٌ}([282]).
إنّ معنى الغنيمة لا
يختص بالمأخوذ في الحرب، وهذه الآية وإن نزلت في مورد خاصّ، ولكنّها أعطت حكماً
عامّاً وهو وجوب أداء الخُمْس من أيّ شيء غنموا ـ أي فازوا بهـ لأهل الخُمْس، ولو
كان مفاد الآية وجوب أداء الخُمْس ممّا غنموا في الحرب خاصّة، لكان ينبغي أن يقيّد
المولى تعالى كلامه، فيقول: واعلموا أنّ ما غنمتم في الحرب، وبما أنّه لم يقيد
فإنّه يستفاد عندئذٍ أنّ الغنيمة، بما لها من معنى لغوي عام، يشمل كلّ فائدة وربح،
وهذا المعنى العام هو ما تثبته كتب اللغة والاستعمالات اللغوية للكلمة.
لفظة غَنِمْتُمْ من غنم
الشيء، وهو لغةً: الفوز والظفر بالشيء، فهو يرادف الربح.
قال ابن منظور في
العرب: «وغنم الشيء غنماً فاز به»([283]).
قال الراغب في
المفردات: «غنم: الغنم معروف... والغنم إصابته والظفر به، ثم
استعمل في كلّ مظفور به من جهة العدى وغيرهم»([284]).
والغُنْم أيضاً: «الفوز بالشيء من غير مشقة»([285]).
ويؤيد هذا المعنى
استعمال الفقهاء، من قبيل قولهم: «من له الغنم فعليه الغرم»([286]) أو كما في الرهن حيث قالوا: «الرهن لمن رهنه، له غنمه وعليه غرمه»([287]) أي نماؤه وفاضل قيمته.
ومن يتابع موارد
استعمال الغنيمة ومشتقاتها في اللغة، يتبيّن له بوضوح أن مفهوم الغُنم يشمل جميع
ما يحصل عليه الإنسان، سواء بمشقة أو بدون مشقة.
فقد جاء في وصف شهر
رمضان: أنّه غنم للمؤمن([288])، وفي الدّعاء عند أداء الزّكاة: «اللّهم اجعلها مغنماً»([289]) وورد في ثواب مجالس ذكر الله تعالى: «غنيمة مجالس الذكر الجنّة»([290]).
فالغنيمة وجميع
مشتقاتها بحسب اللغة لا تختص بغنائم دار الحرب فقط، ولو سلّم كثرة استعمالها في
خصوصها بحيث صارت حقيقة عرفية، فإن ذلك لا يوجب هجر معناها اللغوي، لا سيما وأن
المذكور في الآية هو الفعل الماضي (غَنِمْتُم) لا لفظ الغنيمة.
الخمس لا يقتصر على غنائم الحرب
إنّ وجوب الخمس لا
يقتصر على غنائم الحرب عند جميع المسلمين، وهو ما يظهر من خلال الروايات وأقوال
الفقهاء:
الخمس في السنة النبوية
ورد في كثير من الروايات أن الخمس لا يختصّ بغنائم
الحرب، بل هناك موارد اُخرى مثل الركاز الذي فسر بالكنز، والمعدن، وغيرها ممّا يجب
فيها الخمس أيضاً.
ففي صحيح البخاري ومسلم: «العجماء جرحها جبّار، والمعدن جبّار، وفي الركاز
الخمس»([291]) وأخرج أحمد في مسنده ـ واللفظ له ـ وابن ماجه
في سننه، عن ابن عباس، قال: «قضى رسول الله’في الركاز الخمس»([292]).
وأخرج أحمد أيضاً عن أنس بن مالك، قال: «خرجنا مع رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) إلى خيبر،
فدخل صاحب لنا إلى خربة يقضي حاجته، فتناول لبنة ليستطيب بها فانهارت عليه تبراً،
فأخذها فأتى بها النبي (صلّى الله عليه وآله) فأخبره بذلك، فقال (صلّى الله عليه
وآله): زنها، فوزنها فإذا هي مائتا درهم، فقال النبي’: هذا ركازٌ وفيه الخمس»([293])، بل أوجب رسول الله’ الخمس في كلّ مغنم، فقد أخرج
البخاري: «عن أبي جمرة، قال: كنت أترجم([294]) بين ابن عباس وبين الناس، فقال: إن وفد عبد القيس
أتوا النبي (صلّى الله عليه وسلّم)، فقال: من الوفد أو من القوم؟ قالوا: ربيعة،
فقال مرحباً بالقوم أو بالوفد غير خزايا ولا ندامى، قالوا: إنا نأتيك من شقة بعيدة،
وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، ولا نستطيع أن نأتيك إلاّ في شهر حرام، فمرنا
بأمر نخبر به من وراءنا، ندخل به الجنة، فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع، أمرهم
بالايمان بالله عزّ وجلّ وحده، قال: هل تدرون ما الايمان بالله وحده؟ قالوا: الله
ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله، وإقام الصلاة،
وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وتعطوا الخمس من المغنم، ونهاهم عن الدباء، والختم
والمزفت، قال شعبة: ربما قال: النقير، وربما قال: المقير، قال: احفظوه وأخبروه من
وراءكم»([295]).
حيث يتّضح من هذه الرواية أن
النبي’ قد أوجب على قبيلة عبد القيس الخمس في المغنم، أي في غير غنائم الحرب؛
لأنّهم كما تقول الرواية عاجزون عن الخروج من مناطقهم إلى حرب أو غيرها، ومع هذا
فقد أوجب النبي’ الخمس عليهم، وفيه دلالة واضحة على أنّ الخمس غير مختص بغنائم
الحرب.
ومما كتبه’ لعمر بن حزم حين بعثه إلى اليمن: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من الله ورسوله، يا
أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود، عهداً من رسول الله لعمرو بن حزم حين بعثه إلى
اليمن. أمره بتقوى الله في أمره كله... وأمره أن يأخذ من المغانم خمس الله»([296]).
وأيضاً كتب رسول الله|
إلى الفجيع العامري ما نصّه: «من محمد النبي، للفجيع ومن تبعه وأسلم وأقام الصلاة وآتى
الزكاة وأطاع الله ورسوله وأعطى من الغنائم خمس الله»([297]).
ومن الواضح أنّه حين
أمر النبي’ أهل اليمن وفجيع وأتباعه بإعطاء الخمس، فإن الجميع لم يكونوا محاربين؛
ليؤخذ منهم خمس غنائم الحرب، بل كانوا تجاراً يكتسبون ويتاجرون، وأنّ مغانمهم هي
مغانم مكسبهم، ولاسيّما أهل اليمن.
فالخمس الذي اُمروا بإعطائه
للنبيّ’إنما هو خمس مغانم المكاسب.
ورد في كلمات عدد من الفقهاء أن الخمس يجب في اُمور،
غير غنائم الحرب، كالكنز والمعادن والغوص وغيرها، ففي صحيح البخاري: «وقال الحسن: في العنبر واللؤلؤ الخمس»([298])، وفي المدونة الكبرى: «كان مالك يقول في دفن الجاهلية ممّا يصاب فيه من
الجوهر والحديد والرصاص والنحاس واللؤلؤ والياقوت وجميع الجواهر أرى فيه الخمس، ثم
رجع فقال: لا أرى فيه شيئاً لا زكاة ولا خمساً، ثم كان آخر ما فارقناه أن قال:
عليه الخمس (قال ابن القاسم) وأحبّ ما فيه إليّ أن يؤخذ منه الخمس من كلّ شيء
يصاب فيها من دفن الجاهلية، وإنما اختلاف قوله في الجوهر والحديد والنحاس، وأمّا
ما أصيب من ذهب أو فضة فيه، فإنّه لم يختلف قوله فيه أنّه ركاز وفيه الخمس»([299]).
وفي المغني: «في نصاب المعادن: وهو ما يبلغ من الذهب عشرين مثقالاً
ومن الفضة مائتي درهم أو قيمة ذلك من غيرهما، وهذا مذهب الشافعي، وأوجب أبو حنيفة
الخمس في قليله وكثيره من غير اعتبار نصاب بناء على أنّه ركاز؛ لعموم الأحاديث التي
احتجوا بها عليه، ولأنّه لا يعتبر له حول فلم يعتبر له نصاب كالركاز»([300]).
بل إن بعضاً استدلّ على وجوب الخمس في الكنز بالآية
الشريفة: {وَاعْلَمُوا أنَّمَا غَنِمْتُم مِّنْ شَيْء فأنَّ
لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}([301]).
وعليه فيكون ظاهر الآية
أن موضوع الخمس هو ما يكون غنيمة بحسب اللغة لا خصوص غنيمة الحرب.
ووقوع الآية في سياق آيات غزوة بدر لا يوجب التخصيص،
إذ المورد لا يخصّص الحكم، كما هو معروف وإلاّ لوجب تخصيصها بغنائم غزوة بدر فقط، مع
أنّه لا قائل بذلك، وقد ثبت عند العلماء أنّه لا مانع من أن يكون مورد خاص موجباً
لنزول حكم كلي، كما هو الشائع في كثير من الأحكام الواردة في الكتاب والسنّة،
فالتشكيك في دلالة الآية باحتمال اختصاصها بغنائم دار الحرب لا مبرر له، خصوصاً مع
ذهاب علماء المسلمين على شمول الغنيمة لغنيمة الركاز (وهو الكنز) ووجوب الخمس فيه،
وأن مصرفه مصرف الخمس.
رأي الشيعة أن الخمس في كل مكسب
تذهب الشيعة الإمامية، استناداً إلى الأدلة من
الكتاب والسنة وأقوال أئمة أهل البيت^إلى أن الخمس لا يقتصر على غنائم الحرب، بل
أن تلك الغنائم واحدة من سبعة أشياء أجمع الشيعة على تعلق الخمس فيها، وهذه
السبعة:
1ـ غنائم دار الحرب. 2ـ
المعادن. 3ـ الكنز. 4ـ كلّ ما يخرج من البحر بالغوص. 5ـ إذا اشترى الذمي أرضاً من
مسلم. 6ـ الحلال إذا اختلط بالحرام ولا يتميز. 7ـ ما يفضل عن مؤونة السنة.
وقد وقع الخلاف في المورد السابع، من أنّه هل يختص
بأرباح المكاسب أو يشمل مطلق الفائدة بحيث يعمّ الهدايا والمواريث، وفي كلّ
الأحوال هذا الرأي يتحد مع مضامين الروايات التي نقلناها عن النبي’من مصادر أهل
السنّة، كما أن الشيعة لا يقتصرون ـ في ثبوت الخمس في مطلق الفوائد ـ على
الاستدلال بالآية الكريمة، بل بضميمة روايات صحيحة أثبتت الخمس في الفوائد، وعلى
سبيل المثال: ما ورد في كتاب التهذيب للشيخ الطوسي: «عن علي بن مهزيار قال: كتب إليه أبو جعفر×، وقرأت أنا كتابه إليه في طريق
مكة، قال: ... فأما الغنائم والفوائد: فهي واجبة عليهم في كلّ عام، قال الله
تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ
وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ
آمَنتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ
الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، والغنائم والفوائد
يرحمك الله، فهي الغنيمة يغنمها المرء، والفائدة يفيدها، والجائزة من الإنسان للإنسان
التي لها خطر عظيم، والميراث الذي لا يحتسب من غير أب ولا ابن...»([302]).
وقد فسّر الإمام أنّ المراد بالغنيمة هو مطلق
الفوائد، واستشهد بالآية الشريفة على ثبوت الخمس في الفوائد في كلّ سنة، ولم يكتف
بذلك، بل تصدّى بنفسه لبيان بعض أمثلة الغنائم.
إلى هنا يتضح أنّ ثبوت الخمس في غير غنائم الحرب ليس
من مختصات الشيعة، كما أنّ القول بثبوت الخمس في مطلق الفوائد لم يكن بلا مستند
ودليل، بل ذهبت الشيعة إلى ذلك وفق رؤيتها المنبثقة عن كون أهل البيت هم الطريق
الأجدر بالاتباع في الأحكام التي جاء بها النبي’. وقد ثبت عن أهل البيت أن الخمس
يشمل كلّ فائدة وأن الغنيمة في الآية تعمّ كلّ ربح وفائدة.
بعد ذلك ننتقل إلى مستحق الخمس وكيفية تقسيمه.
ذكرت الآية الكريمة أنّ مورد الخمس إنّما يكون: لله
ولرسوله ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.
ولا بد من تشخيص من هم ذوو القربى؟ وكذلك ما هو
المقصود من العناوين التي تلتهم كاليتامى والمساكين وابن السبيل؟
فنقول: المراد من ذوي القربى بلا شك هم قربى النبي’ وهو
نفس المعنى المقصود في قوله تعالى: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إلاّ
الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}([303]).
وفي الدرّ المنثور: «وأخرج ابن جرير عن علي بن الحسين (رضي الله عنه) أنّه
قال لرجل من أهل الشام: أقرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: أفما قرأت في بني إسرائيل: {وَآتِ
ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ}؟ قال: وإنّكم للقرابة الذي أمر الله أن يؤتى حقه؟ قال:
نعم»([304]).
وفي صحيح مسلم عن نجدة الحروري أنّه كتب إلى ابن
عباس يسأله عن خمسة أشياء منها مستحق الخمس فأجابه ابن عباس: «تسألني عن الخمس لمن هو؟ وإنا كنا نقول: هو لنا فأبى
علينا قومنا ذلك»([305]).
وفي مسند أحمد بشكل واضح: «عن يزيد بن هرمز، أن نجدة الحروري حين خرج في فتنة
ابن الزبير أرسل إلى ابن عباس يسأله عن سهم ذي القربى: لمن تراه؟ قال: هو لنا؛
لقربى رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) قسمه رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)
لهم، وقد كان عمر عرض علينا منه شيئاً رأيناه دون حقنا فرددناه عليه وأبينا أن
نقبله»([306]).
قال شعيب الأرنؤوط: >إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات، رجال الشيخين،
غير يزيد بن هرمز، فمن رجال مسلم<([307]).
وبحسب سياق الآية ومفاد
الروايات التي عبّرت أنّ الخمس لهم من دون أن تُخرج منه شيئاً، يكون المقصود من
باليتامى والمساكين وابن السبيل هم يتامى أقرباء الرسول ومساكينهم وأبناء سبيلهم.
وفي جامع البيان
للطبري، عن المنهال بن عمرو، قال: «سألت عبد الله بن محمد بن علي وعلي بن الحسين عن
الخمس، فقالا: هو لنا، فقلت لعلي: إن الله يقول: واليتامى والمساكين وابن السبيل،
فقال: يتامانا ومساكيننا»([308]).
وسواء كان المقصود
باليتامى والمساكين وابن السبيل آل الرسول أم لا، فإنّه على كل التقادير هناك سهم
من الخمس قد أوجبته الشرعية لذوي القربى بالخصوص.
وبعد هذا البيان المختصر عن
الخمس يتضح أنّه من فرائض الله تعالى، وأنّ مورده ليس منحصراً في غنائم الحرب، بل
يشمل كل غنيمة وفائدة وأنّ مستحقّه هم ذوو القربى من أهل بيت النبي’، فقد جعل الله
تعالى لهم ذلك إكراماً لهم، كما روى ذلك ابن أبي حاتم في تفسيره عن ابن عباس قال:
«قال رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم): رغبت لكم عن
غسالة الأيدي؛ لأنّ لكم في خمس الخمس ما يغنيكم أو يكفيكم»([309])، قال ابن كثير: «هذا حديث حسن الإسناد»([310]).
وعليه فيكون اعتقاد الشيعة بوجوبه ودفعه إلى مستحقه،
وأولهم الأئمة من أهل البيت^، وفق القواعد الصحيحة، وليس كما يزعم القفاري من كون
دفع الخمس كان بلا مبرر شرعي سوى إرادة السلب والنهب!!
المعروف بين المتأخرين
من علمائنا أنّ الخمس ينقسم إلى ستة أقسام: ثلاثة منها لله تعالى ولرسوله وللإمام،
وهي المعبر عنها بسهم الإمام، وهو اليوم للإمام المهدي×، الذي يعتقد الشيعة بأنه
إمام العصر، وثلاثة منها للأيتام والمساكين وأبناء السبيل من بني هاشم، وهي المعبر
عنها بسهم الفقراء السادة، وعليه فيكون المراد من ذوي القربى خصوص الإمام
المعصوم×.
وأمّا علماء أهل السنة،
فقد اختلفت كلماتهم في التقسيم، فمنهم من ألغى السهام الثلاثة الاُولى، قال
في المغني: «روي عن الحسن وقتادة في سهم ذي القربى كانت طعمة لرسول
الله (صلّى الله عليه وسلّم) في حياته فلمّا توفي حمل عليه أبو بكر وعمر في
سبيل الله، وروى ابن عباس أن أبا بكر وعمر قسّما الخمس على ثلاثة أسهم،
ونحوه حكي عن الحسن بن محمد بن الحنفية وهو قول أصحاب الرأي، قالوا: يقسم الخمس
على ثلاثة: اليتامى والمساكين وابن السبيل وأسقطوا سهم رسول الله (صلّى الله عليه
وسلّم) بموته وسهم قرابته أيضاً»([311]).
ومنهم من يرى أنّ الخمس
مفوض أمره إلى اجتهاد الإمام ليصرفه بحسب اجتهاده وتشخيصه.
قال في المغني: «إنّ مالكاً قال: يعطي الإمام أقرباء رسول الله (صلّى
الله عليه وسلّم) على ما يرى، وقال الثوري والحسن: يضعه الإمام حيث أراه الله عزّ
وجلّ، ولنا قول الله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فأنّ
لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ
وَابْنِ السَّبِيلِ} وسهم الله والرسول واحد، كذا قال عطاء والشعبي، وقال الحسن بن
محمد بن الحنفية وغيره: قوله: {فأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ} افتتاح كلام يعني أنّ ذكر
الله تعالى لافتتاح الكلام باسمه؛ تبركاً به لا لإفراده بسهم، فإن لله تعالى
الدنيا والآخرة، وقد روي عن ابن عمر وابن عباس، قالا: كان رسول الله (صلّى الله
عليه وسلّم) يقسم الخمس على خمسة»([312]).
وقال ابن تيمية في المنهاج: «وقد تنازع العلماء في الخمس والفيء، فقال مالك وغيره
من العلماء: مصرفهما واحد، وهو فيما أمر الله به ورسوله، وعيّن ما عيّنه من
اليتامى والمساكين وابن السبيل؛ تخصيصاً لهم بالذكر، وقد روى عن أحمد بن حنبل ما
يوافق ذلك، وأنّه جعل مصرف الخمس من الركاز مصرف الفيء، وهو تبع لخمس الغنائم،
وقال الشافعي وأحمد في الرواية المشهورة: الخمس يقسّم على خمسة أقسام، وقال أبو
حنيفة: على ثلاثة، فأسقط سهم الرسول وذوي القربى بموته (صلّى الله عليه وسلّم)
وقال داود بن علي: بل مال الفيء أيضاً يقسّم على خمسة أقسام»([313]).
فذهاب الشيعة إلى كون سهم ذوي القربى يختص بالإمام
بحيث يضعه الإمام حيث يرى، هذا القول ليس بدعاً وبلا مبرر، بل هو الأقرب للصواب،
أما كيف يمكن تسليمه للإمام المعصوم× في زمن الغيبة، فالشيعة لا يرون في زمن
الغيبة وجوب تسليمه لشخصه، بل يرون أن الفقهاء العدول يقومون مقام الإمام المعصوم
وينوبون عنه، وهم الأدرى في تشخيص المصلحة، وهذا الرأي يقترب من رأي بعض علماء أهل
السنة في أن الإمام أو الخليفة هو من يحق له تقسيم الخمس؛ لكونه قائماً مقام
النبي’، بل أن المفتين أيضاً يقومون مقام النبي’ كما صرح بذلك الشاطبي في
الموافقات :>المفتي قائم في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم<([314]) وتابعه في هذا الرأي عبد العزيز آل الشيخ مفتي
السعودية، قال: >المفتي قائم مقام النبي في الأمة<([315]).
ومن هنا، فما كان الشيعة يدفعونه للإمام سواء في زمن غيبته الصغرى أم في هذا الزمان، فهو في الواقع حقّ الإمام في الخمس، وهو سهم ذوي القربى.
الفكر الوهابي وغنيمة الخمس بين القتل
والسلب والنهب
بعد أن فسّرنا مبررات
إعطاء ودفع الخمس للإمام×؛ نطلب من القفاري أن يفسّر لنا ما قام به الوهابيون من
سلب ونهب لأموال المسلمين، في غزواتهم وحروبهم، باسم الجهاد في مناطق نجد والحجاز
ومكة والمدينة والمنطقة الشرقية، وكيفية توزيع الغنائم وأخذ الخمس منها، وكذلك ما
قاموا به من هجوم بربري على ضريح الإمام الحسين×، وما صاحب ذلك من قتل ونهب وسلب
واعتداء على حرمات المسلمين، قال عبد الرحمن الجبرتي([316]) عن أحداث سنة 1215هـ: «وفي
يوم الجمعة خامس عشرة حضرت مكاتبات من الديار الحجازية يخبرون فيها عن الوهابيين أنهم
حضروا إلى جهة الطائف، فخرج إليهم شريف مكة الشريف غالب فحاربهم فهزموه، فرجع إلى
الطائف وأحرق داره التي بها وخرج هارباً إلى مكة، فحضر الوهابيون إلى البلدة
وكبيرهم المضايفي نسيب الشريف، وكان قد حصل بينه وبين الشريف وحشة، فذهب مع
الوهابيين وطلب من مسعود الوهابي أن يؤمره على العسكر الموجه لمحاربة الشريف، ففعل
فحاربوا الطائف وحاربهم أهلها ثلاثة أيام حتى غُلبوا، فأخذ البلدة الوهابيون
واستولوا عليها عنوة، وقتلوا الرجال وأسروا النساء والأطفال وهذا دأبهم مع من
يحاربهم»([317]).
وقال في مورد آخر: «في
يوم الإثنين وردت مكاتبات من الديار الحجازية مؤرخة في منتصف محرم وفيها الأخبار
باستيلاء الوهابيين على مكة في يوم عاشوراء، وأن الشريف غالب أحرق داره وارتحل إلى
جدة، وأن الحجاج أقاموا بمكة ثمانية أيام زيادة عن المعتاد؛ بسبب الارتباك قبل
حصول الوهابيين بمكة؛ ومراعاة للشريف حتى نقل متاعه إلى جدة، ثم ارتحل الحجاج
وخرجوا من مكة طالبين زيارة المدينة، فدخل الوهابيون بعد ارتحال الحج بيومين.
وفي يوم الأربعاء ثامن عشره أخرجوا باقي الانكشارية
والدلاة والسجمان وكانوا مجتمعين بمصر القديمة، فتضرر منهم المارة وأهل تلك الجهة
بسبب قبائحهم وخطفهم أمتعة الناس، بل وقتلهم، وكان تجمّعهم على أن يذهبوا إلى جهة
الصعيد ويلتفّون على حسن باشا بجرجا وينضمون إليه وإلى من بناحية الصعيد من
أجناسهم، فذهب منهم من أخبر الأمراء المصرلية([318]) بذلك
فضبطوا عليهم الطرق، واتّفق أن جماعة منهم وقفوا لبعض الفلاحين المارين بالبطيخ
والخضار فحجزوهم وطلبوا منهم دراهم فمر بهم بعض المماليك من أتباع البرديسي فاستجار
بهم الفلاحون فكلموهم فتشاحنوا معهم وسحبوا على بعضهم السلاح، فقتل مملوك منهم،
فذهبوا إلى سيدهم وأعلموه...»([319]).
وفي الموسوعة العربية العالمية: عند الحديث عن تاريخ
الدولة السعودية جاء في ضمن خلافها مع ولاة العراق العثمانيين، ما نصه: «هاجم
السعوديون مناطق جنوبي العراق عام 1216هـ ـ 1801م، وهدموا ما شاهدوه هناك من أضرحة
وقباب ومزارات بما فيها قبة الحسين، فأصدرت الدولة العثمانية أوامرها المشددة إلى
والي بغداد من أجل أن يعمل على وقف الحملات العسكرية السعودية على مناطق جنوبي
العراق، وغضب شاه إيران وأراد التدخل العسكري، وطلب من والي بغداد السماح لقواته
بالمرور عبر العراق، والزحف على السعوديين في الأحساء، وتوالت الحملات السعودية
بعد ذلك على مناطق جنوبي العراق حتى وصلت إلى أسوار كربلاء مرة ثانية عام 1223هـ
1808م»([320]).
وقال ابن بشر([321]) في كتابه (عنوان المجد
في تاريخ نجد): «ثم
دخلت السنة السادسة عشر بعد المائتين والألف، وفيها سار سعود بالجيوش المنصورة
والخيل العتاق المشهورة من جميع حاضر نجد وباديها والجنوب والحجاز وتهامة وغير ذلك،
وقصدوا أرض كربلاء ونازل أهل بلد الحسين، وذلك في ذي القعدة، فحشد عليها المسلمون
وتسوّروا جدرانها ودخلوها عنوة وقتلوا غالب أهلها في الأسواق والبيوت، وهدموا
القبة الموضوعة بزعم من اعتقد فيها على قبر الحسين، وأخذوا ما في القبة وما حولها
وأخذوا النصيبة التي وضعوها على القبر، وكانت مرصوفة بالزمرد، واليواقيت والجواهر،
وأخذوا جميع ما وجدوا في البلد من الأموال والسلاح واللباس والفرش والذهب والفضة
والمصاحف الثمينة وغير ذلك ما يعجز عنه الحصر، ولم يلبثوا فيها إلاّ ضحوة وخرجوا
منها قرب الظهر بجميع تلك الأموال، وقتل من أهلها قريب ألفا([322]) رجل.
ثم إنّ سعود ارتحل منها على الماء المعروف بالأبيض،
فجمع الغنائم وعزل أخماسها وقسم باقيها على المسلمين غنيمة، للراجل سهم وللفارس
سهمان، ثم ارتحل قافلاً إلى وطنه»([323]).
إذن السلب والنهب وقتل
الناس الأبرياء وهدم الأضرحة المقدسة باسم الدين والجهاد وتوزيعها كخمس للغنائم،
هو من أفعال معتنقي الفكر الوهابي المتشدد.
ولا زال هذا التحجّر والتطرّف يعاني منه المسلمون
إلى يومنا هذا، فما قاموا به من قتل وذبح وتفخيخ وتفجير للمدارس والأسواق والمساجد
ومراقد الأئمة كمرقدي الإمامين العسكريين‘ في العراق، وغيرهما من الأضرحة في سائر بلاد
المسلمين، خير شاهد على ذلك، ولو ظفروا بأهل هذه البلاد لفعلوا الأمر نفسه ولوزعوا
الغنائم للفارس والراجل.
الشبهة: رجوع القول بالمهدية والغيبة إلى
أصول مجوسية
قال القفاري: «وأرجح
في هذه المسألة أن عقيدة الاثني عشرية في المهدية والغيبة ترجع إلى أصول مجوسية،
فالشيعة أكثرهم من الفرس، والفرس من أديانهم المجوسيّة والمجوس تدّعي أنّ لهم
منتظراً حيّاً باقياً مهدياً من ولد بشثاسف»([324]).
الجواب: قول
القفاري باطل لعدة وجوه
لا تنتهي سلسلة
الافتراءات والتقوّلات والتّهم الجاهزة التي يلصقها القفاري بالمذهب الشيعي
وأتباعه.
فقوله: ـ إن عقيدة
الشيعة الاثني عشرية ترجع إلى أصول فارسية، ثم يعطف كلامه على الإمام المهدي
وغيبته ليثبت أنّها من وحي الفكر المجوسي؛ لأنّ الشيعة أكثرهم من الفرس، والفرس من
أديانهم المجوسية التي كانت في عقيدتها المهدي المنتظر، إذن فالقول بالمهدوية يكون
أصله مجوسياً ـ باطل من عدة وجوه:
الوجه
الأول: لم يثبت في ديانة المجوس وجود مهدي منتظر باق حي
لم يثبت بحجة مقبولة أنّ في
ديانة المجوس سابقاً مهدياً منتظراً حياً باقياً؛ حتى يرجّح القفاري أنّ تلك
العقيدة قد تسرّبت إلى العقيدة الشيعية، فلم نجد من ذكر هذا القول غير القاضي عبد
الجبار المعتزلي في كتابه تثبيت دلائل النبوّة، قال: «والمجوس تدّعي أنّ لهم منتظراً حيّاً باقياً مهديّاً
من ولد بشتاسف، يقال له: أبشاوثن، وأنه في حصن عظيم من خراسان والصين ومعه كثير
كلهم ثقات أمناء أخيار... هذا الذي أتيقّنه مما ذكره أذرباذ بن أميذ الموبذ في
وصفه أبشاوثن»([325]).
وأنت كما ترى المصدر، فلا
يصحّ الجزم بهذه القضية؛ اعتماداً على حافظة القاضي عبد الجبار مما ذكره اذرباذ
؟!! فليس من المنطقي أن تكون مستنداً للترجيح كما حصل ذلك عند الدكتور القفاري.
الوجه الثاني: التشيع عربي المولد والنشأة
إنّ اُصول التشيّع ـ
ومنها عقيدة المهدي وغيبته ـ لم تكن يوماً فارسية المنشأ، بل اُصوله عربية، وأن
بلاد الفرس وغيرها قد دخلها التشيّع نتيجة هجرة العلويين وأتباعهم الذين فرّوا
إليها؛ هرباً من بطش الأمويين والعباسيين؛ وذلك لبعدها الجغرافي عن مركز السلطة
الحاكمة، ولتعاطف السكّان المحليين وحبّهم لأهل البيت^.
قال أبو زهرة: «وأمّا
فارس وخراسان وما وراءهما من بلدان الإسلام، فقد هاجر إليها كثيرون من علماء
الإسلام الذين كانوا يتشيّعون فراراً بعقيدتهم من الأمويين أولاً، ثم العباسيين
ثانياً، وأنّ التشيع كان منتشراً في هذه البلاد انتشاراً عظيماً قبل سقوط الدولة
الأموية بفرار أتباع زيد ومن قبله إليها»([326]).
وكما نجد ذلك أيضاً في كلمات المستشرقين، نذكر منهم:
أ ـ المستشرق جولد
تسيهر، قال: «إن من
الخطأ القول بأنّ التشيع في نشأته ومراحل نموه يمثل الأثر التعديلي الذي أحدثته
أفكار الأمم الإيرانية في الإسلام بعد أن اعتنقته، أو خضعت لسلطانه عن طريق الفتح
والدعاية، وهذا الوهم الشائع مبني على سوء فهم الحوادث التاريخية، فالحركة العلوية
نشأت في أرض عربية بحتة»([327]).
ب ـ المستشرق آدم متز([328])، قال: «قد
أبانت لنا مباحث "فلهاوزن" بصورة أدنى إلى الصواب أن مذهب الشيعة ليس ـ كما
يعتقد البعض ـ رد فعل من جانب الروح الإيرانية يخالف الإسلام، ومما يؤيد أبحاث
"فلهاوزن" التوزيع الجغرافي للشيعة في القرن الرابع، وقد ألمع الخوارزمي
في أواخر القرن الرابع إلى أن العراق هو الموطن الأول للتشيّع، وكانت الكوفة وبها
قبر علي (رضوان
الله عليه) أكبر
مركز للشيعة»([329]).
وقال أيضاً: «وكانت
جزيرة العرب شيعةً كلّها عدا المدن الكبرى مثل مكة وتهامة وصنعاء وقرح، وكان
للشيعة غلبة في بعض المدن أيضاً مثل عمان، وهجر، وصعدة، وفي بلاد خوزستان التي تلي
العراق كان نصف الأهواز ـ وهي القصبة ـ على مذهب الشيعة، أما في فارس فكان الشيعة
كثيرين على السواحل التي تتصل اتصالاً وثيقاً بالعراق وخصوصاً بالعرب المتشيّعين»([330]).
بعد أن دخل الفرس في الإسلام، فقد حسن إسلامهم، وليس
من اللائق اتهامهم أو التعريض بهم كونهم مجوساً وأنّ عقائدهم أو بعضها من صنيع
المجوسية، فهذا إجحاف في حقهم وغضّ النظر عن الأحاديث الصحيحة التي وردت في حقهم،
والتي تؤكد إيمانهم العميق بالإسلام، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: «قال
رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم): لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجل من فارس،
أو قال: من أبناء فارس حتى يتناوله»([331]).
وأخرج الحاكم في
مستدركه عن ابن عمر، قال: «قال
النبي (صلّى الله عليه وسلّم)... العجم يشركونكم في دينكم وأنسابكم، قالوا: العجم
يا رسول الله؟! قال: لو كان الإيمان معلّقاً بالثريا لناله رجال من العجم وأسعدهم
به الناس».
قال الحاكم: «هذا
حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه»([332]).
وأخرج الطبراني في
الكبير عن قيس بن سعد بن عبادة: «أنّ
رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) قال: لو كان الإيمان معلّقاً بالثريا لناله رجال
من فارس»([333]).
قال الهيثمي في زوائده:
«رواه
أبو يعلى والبزار والطبراني ورجالهم رجال الصحيح»([334]).
كان المفترض من القفاري
قبل أن يتهم الشيعة بأنّ بعض عقائدهم مجوسية الأصل، كان عليه أن يلتفت إلى أنّ
أغلب علماء المذهب السني الذين شيّدوا بناءه، بل وبعض أئمة المذاهب الأربعة كانوا
من الفرس، كالبخاري ومسلم النيسابوري والترمذي والنسائي وابن ماجه القزويني،
والرازي والبيضاوي وأبي زرعة الرازي، وفخر الدين الرازي وأبي حنيفة والشافعي
وغيرهم كثير.
فقد يقول قائل أيضاً: لماذا لا نشكّك في بعض معتقدات
المذاهب السنّية وأنها جاءتهم من المجوسية؛ لأنّ علماءهم كانوا من الفرس الذين
كانوا هم أو آباؤهم يدينون بالديانة المجوسية، وبالتالي سوف تكون المذاهب السنية
عرضة للاتّهامات بأنّ بعض عقائدها ذات جذور مجوسية؟ وهذا ليس منطقاً صحيحاً في
الاستدلال.
ثمّ لا يخفى ما للفرس
من دور كبير في خدمة الإسلام والمسلمين، فقد برز منهم عدد كبير من العلماء من
الشيعة والسنة، وتركوا لنا تراثاً كبيراً في شتى صنوف العلم والمعرفة، قال الشيخ مغنية:
«لولا
الفرس لم يكن للمسلمين هذا العدد الضخم من العلماء الذين نفاخر بهم أمم الشرق
والغرب، ولا كان للإسلام هذه المكتبة المتخمة بألوف المجلدات في شتى العلوم، ولسنا
نعرف اُمّة خدمت الإسلام ولغة القرآن كالفرس، ولو أحصيت المكتبة الإسلامية
والعربية لكان سهم الفرس منها أوفى من أسهم بقية المسلمين مجتمعين. إن الفرس لم
يتستروا باسم التشيع، ليكيدوا للإسلام، بل إن أعداء الإسلام تستروا باسمه، ليكيدوا
للتشيع بعامة، والفرس بخاصة، لأنهم كانوا وما زالوا من أقوى أركان الإسلام وأنصاره»([335]).
إذن فالتشيع عربي
المولد والنشأة، وأمّا دخول الفرس إلى الإسلام واختيار بعضهم للتشيّع؛ فذلك لما
فهموه من نصوص قد أخذت بأعناقهم لموالاة أهل البيت^، وهم كغيرهم من سائر الأمم، كالعرب
والترك والروم، فلا مبرّر بعد هذا، أن يقال: إنّ عقيدة الشيعة في المهدي× مجوسية
الأصل!
الوجه
الثالث: تواتر أحاديث المهدي قبل ولادته
يكذب هذه الدعوى
تقدم في بحثنا القول بتواتر
خروج الإمام المهدي× من طرق الفريقين، وقلنا إنّ الإمام المهدي وغيبته أنبأ عنها
رسول الله’ قبل ولادته، فلو أضفنا إلى ذلك أن فتح مملكة الفرس
قد وقع في عهد خلافة عمر بن الخطاب، فكيف يعقل أن تكون روايات المهدي× التي نطق
بها النبي| قد صدرت بعد وفاته في زمن إسلام الفرس؟!
الوجه الرابع: ليست الكثرة هي المقياس في
قبول الأدلة
من الغريب أن يستدل
القفاري بكثرة الشيعة الفرس الذين كانوا يدينون المجوسية على أن عقيدة المهدية ذات
جذور فارسية؛ فمتى كانت الكثرة مقياساً في تشخيص صحة الاعتقادات؟! وهل يصحّ لنا أن
ندّعي أنّ عقائد المسلمين جاءتنا من الهند أو الباكستان أو اندنوسيا؛ لأن أكثر
المسلمين من هذه البلاد؟!
وهل يصح أن نقول: أن
هناك من عقائد البوذية والهندوسية قد امتزجت في عقائد المسلمين؟
إنّ هذه الدعوى باطلة من أساسها، ولعلّ الحقد والبغض
للتشيع والشيعة هو المبرر لهذه الأقوال الخالية من الدليل والبرهان الصحيح
والمعقول.
الدكتور
طه حسين يفسر افتراءات القفاري
وأمثاله
يقول الدكتور طه حسين: «وخصومهم
[الشيعة] واقفون لهم بالمرصاد، يحصون عليهم كلّ ما يقولون ويفعلون ويضيفون إليهم
أكثر مما قالوا وما فعلوا، ويحملون عليهم الأعاجيب من الأقوال والأفعال، ثمّ
يتقدّم الزمان، وتكثر المقالات، ويذهب أصحاب المقالات في الجدال كلّ مذهب، فيزداد
الأمر تعقيداً وإشكالاً، ثم تختلط الاُمور بعد أن يبعد عهد الناس بالأحاديث،
ويتجاوز الجدال خاصة الناس إلى عامتهم، ويتجاوز الذين يحسنونه إلى الذين لا
يحسنونه، ويخوض فيه الذين يعلمون والذين لا يعلمون، فيبلغ الأمر أقصى ما يمكن أن
يبلغ من الإيهام والإظلام، وتصبح الاُمّة في فتنة عمياء لا يهتدي فيها إلى الحق
إلاّ الأقلون»([336]).
فخصوم الشيعة يحملون
عليهم الأعاجيب من الأقوال والأفعال بدون علم ومعرفة، والغرض هو الكيد والتنكيل؛
لإشاعة الفتنة والتضليل، هذا ما شهد به الدكتور طه حسين.
الشبهة: السفراء
الأربعة هم واضعو فكرة المهدية والغيبة
قال القفاري: «هؤلاء
الأبواب الأربعة: عثمان بن سعيد، وابنه، وابن روح، والسمري، هم المؤسسون لقضية
الغيبة والمهدية..»([337]).
وعلّل أنّ سبب وضعهم لذلك كان لأجل جمع الأموال؛
ولذا كانت تحدث نزاعات بينهم وبين غيرهم بسبب ذلك، قال: «فهو
تزاحم وتكالب على البابية والوكالة من أجل جمع الأموال...»([338]).
في البداية ننوه إلى أنّه من غير الصحيح الإجابة عن
الشبهة بمعزل عن الإجابات الاُخرى، لأن كثيراً من الموضوعات مترابطة فيما بينها،
ومترتب بعضها على بعض، كما هو الحال في هذه الشبهة، فإننا سبق وإن أجبنا وقلنا:
بأنّ فكرة الإمام المهدي× هي فكرة إسلامية إن لم تكن عالمية، وقد استفاضت وتواترت
الأحاديث الإسلامية الدالة على خروج الإمام المهدي× وظهوره في آخر الزمان، ومنكرها
يعد منكراً للضروريات والبدَهيات، ونقلنا جملة كبيرة مما نقله علماء أهل السنة
الذين اعتقدوا بصحة تلك الأحاديث وتواترها، وكذلك نقلنا الأحاديث الصحيحة التي
تحدّد شخصيته وهويته وكونه من أهل البيت^ ومن ولد فاطمة ومن ولد الحسين×، وكذلك
نقلنا الأحاديث التي تفرض وجوده حياً في جميع الأزمنة كحديث (الثقلين) وحديث (الاثني
عشر) وحديث (عدم خلو الأرض من قائم لله بحجة)، وقلنا هناك أنّه لا تطبيق صحيح سوى
ما تذهب إليه المدرسة الإمامية، بمقتضى هذه النصوص.
ثمّ إنّ الشيعة قد آمنت بأنّ للإمام المهدي× غيبتين:
صغرى وكبرى أو قصرى وطولى، وهذا ما نبّأتنا به الأحاديث الواردة عن رسول الله’ وأهل بيته الأطهار، كما سنأتي قريباً على
ذكرها.
أمّا الغيبة الصغرى، فمن مولده إلى انقطاع السفارة
بينه وبين شيعته، بوفاة آخر السفراء وعدم نصب غيرهم، وهي مدة أربع وسبعون سنة، ففيها
كان السفراء يشاهدونه، وربما شاهده غيرهم، ويَصِلون إلى خدمته، وتخرج على أيديهم
توقيعات منه إلى شيعته في أجوبة مسائل، وفي اُمور شتى.
وأمّا الغيبة الكبرى، فهي التي أعقبت الاُولى، وقد
جاء في بعض التوقيعات التي خرجت على أيدي السفراء، أنّه بعد الغيبة الصغرى لا يراه
أحد، وإن من ادّعى الرؤية في غيبته الكبرى، قبل خروج السفياني والصيحة، فهو كذّاب،
وجاء في عدّة أخبار أنّه يحضر المواسم كلّ سنة، فيرى الناس ويعرفهم ويرونه ولا
يعرفونه([339]).
إنّ غيبة الإمام عند
الشيعة لا تعني غياب شخصه؛ بل هي خفاء هويته وعنوانه، فهو موجود بشخصه، ولكنه غائب
عن الأبصار، فلا يتمكّن الناس من رؤيته، فهو× يشهد الموسم ويرى الناس ولا يرونه،
وذلك شبيه قصة الخضر× الذي كان مختفياً عن الأنظار، وفي نفس الوقت كانت له القدرة
على التصرّف في الاُمور التكوينية، بإذن من الله تعالى على ما هو معروف في القصة
التي دارت بينه وبين موسى×، وقد أشبع التراث الشيعي هذا الموضوع، ومصادره حافلة
بأحاديث الغيبة عن رسول الله’ والأئمة المعصومين^ قبل ولادة الإمام المهدي×؛ بل إن هذا الأمر
يُعدّ من الاُمور التي تسالمت عليه الطائفة الشيعية؛ ولعل منشأ ذلك هو تهيئة أذهان
الاُمّة لتقبّل هذا الأمر الحتمي الوقوع، وكذلك إزالة الغموض الذي قد يثيره بعض
حول هذه المسألة المهمة، فليست الغيبة من اختراعات السفراء أو غيرهم كما يزعم
القفاري.
كما أننا نجد أنّ غيبة الإمام المهدي× ينقلها بعض
علماء أهل السنة من خلال نقلهم أحاديث تفيد تحقق الغيبة، وسوف ننقل روايات أهل
السنة، ثم ننقل روايات الشيعة:
1ـ روى المقدسي
الشافعي (توفي في القرن السابع)، بسنده عن أبي عبد الله الحسين بن علي‘، أنّه قال:
«لصاحب هذا الأمر ـ يعني المهدي× ـ غيبتان: إحداهما تطول حتى يقول بعضهم:
مات، وبعضهم: قتل، وبعضهم: ذهب، ولا يطّلع على موضعه أحد من وليّ ولا غيره إلاّ
المولى الذي يلي أمره...»([340]).
وروى عن أبي جعفر محمد
بن علي‘ أيضاً، قال: «يكون
لصاحب هذا الأمر ـ يعني المهدي× ـ غيبة
في بعض هذه الشعاب، وأومأ بيده إلى ناحية ذي طوى...»([341]).
2ـ روى الجويني الشافعي (ت/722هـ)، بسنده عن أبي
جعفر محمد بن علي الباقر، عن أبيه سيد العابدين علي بن الحسين، عن أبيه سيد
الشهداء الحسين بن علي بن أبي طالب، عن أبيه سيد الأوصياء أمير المؤمنين علي بن
أبي طالب^، قال: «قال
رسول الله (صلّى
الله عليه وآله وسلّم):
المهدي من ولدي، يكون له غيبة وحيرة تضل فيها الأمم، يأتي بذخيرة الأنبياء فيملأها
قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً»([342]).
3ـ روى القندوزي الحنفي (ت/1294هـ)، بسنده عن جابر
بن عبد الله رفعه: «المهدي
من ولدي اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، أشبه الناس بي خَلْقاً وخُلقاً، يكون له غيبة
وحيرة يضل فيها الأمم، يقبل كالشهاب الثاقب، يملأها عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً
وظلماً»([343]).
4ـ وروى أيضاً بسنده: «عن
الباقر عن آبائه عن علي بن أبي طالب رفعه: المهدي من ولدي يكون له غيبة وحيرة تضل
فيها الأمم، يأتي به خير الأنبياء، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً»([344]).
ولتأكيد
وجود فكرة الغيبة في التراث الإسلامي، فقد وردت جملة من الروايات من طرق أهل
البيت^ تبين مفهوم الغيبة، قبل ولادة الإمام المهدي×، وهي مروية عن عدد من
الأئمة^، نذكر منهم:
روى النعماني في كتاب الغيبة عن إبراهيم بن عمر
اليماني، قال: «سمعت
أبا جعفر×
يقول: إنّ لصاحب هذا الأمر غيبتين، وسمعته يقول: لا يقوم القائم ولأحد في عنقه
بيعة»([345]).
وردت عن الإمام الصادق×
روايات عديدة تؤكد غيبة الإمام المهدي× منها:
1ـ روى الشيخ الكليني بسند صحيح: «عن
محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن ابن محبوب، عن إسحاق بن عمار، قال: قال أبو
عبد الله×: للقائم
غيبتان: إحداهما قصيرة والاُخرى طويلة، الغيبة الاُولى لا يعلم بمكانه فيها إلاّ
خاصة شيعته، والاُخرى لا يعلم بمكانه فيها إلاّ خاصة مواليه»([346]).
2ـ عن الإمام الصادق×، قال: «إنّ
للقائم منّا غيبة يطول أمدها، قال: فقلت له: يا بن رسول الله! ولِمَ ذلك؟ قال: لأن
الله عز ّوجلّ أبى إلاّ أن تجري فيه سنن الأنبياء^ في غيباتهم، وأنّه لابدّ له يا سدير
من استيفاء مدد غيباتهم، قال الله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ} أي:
سنن من كان قبلكم»([347]).
3ـ عن أبي بصير، قال: «قلت
لأبي عبد الله×: إن
أبا جعفر×
يقول: للقائم من آل محمّد عليه وعليهم السلام غيبتان: واحدة طويلة، والاُخرى
قصيرة. قال: فقال لي: نعم يا أبا بصير، إحداهما أطول من الاُخرى...»([348]).
4ـ عن حازم بن حبيب، قال: «قال
لي أبو عبد الله×: يا
حازم، إنّ لصاحب هذا الأمر غيبتين يظهر في الثانية، إن جاءك من يقول إنّه نفض يده من
تراب قبره فلا تصدّقه»([349]).
5ـ روى الصدوق بسند
صحيح، قال: «حدثنا
أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني (رضي
الله عنه)،
قال: حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن عبد السلام بن صالح الهروي، قال: سمعت
دعبل بن علي الخزاعي يقول: لما أنشدت مولاي الرضا× قصيدتي
التي أولها:
مدارس آيات خلت من تلاوة |
|
ومنزل وحي مقفر العرصات |
فلمّا انتهيت إلى قولي:
خروج إمام لا محالة خارج |
|
يقوم على اسم الله
والبركات |
يميز فينا كلّ حق وباطل |
|
ويجزي على النعماء
والنقمات |
بكى
الرضا× بكاءً
شديداً، ثم رفع رأسه إليّ، فقال لي: يا خزاعي، نطق روح القدس على لسانك بهذين
البيتين، هل تدري من هذا الإمام؟ ومتى يقوم؟ فقلت: لا يا سيدي، إلاّ إني سمعت
بخروج إمام منكم يطهر الأرض من الفساد ويملؤها عدلاً، فقال: يا دعبل، الإمام بعدي،
محمد ابني وبعد محمد، ابنه علي، وبعد علي، ابنه الحسن، وبعد الحسن، ابنه الحجة
القائم المنتظر في غيبته المطاع في ظهوره، لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل
الله ذلك اليوم حتى يخرج فيملأها عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً...»([350]). وواضح من هذا الحديث، النصّ على إمامة الإمام المهدي×،
فضلاً عن غيبته الصغرى والكبرى.
روى الصدوق بسند صحيح،
قال: «حدثنا محمد بن الحسن (رضي الله عنه)، قال: حدثنا سعد
بن عبد الله قال: حدثنا أبو جعفر محمد ابن أحمد العلوي، عن أبي هاشم داود بن
القاسم الجعفري، قال: سمعت أبا الحسن صاحب العسكر× يقول: الخلف من بعدي ابني الحسن،
فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف؟ فقلت: ولِمَ جعلني الله فداك؟ فقال: لأنكم لا ترون
شخصه...»([351]). وعدم رؤية شخصه إشارة إلى غيبته×.
تبين
لك مما سلف أنّ الغيبة مفهوم إسلامي نطقت به الروايات، وتناقله المسلمون جيلاً بعد
جيل، ولم يكن يوماً من اختراع السفراء الأربعة، الذين عاشوا في القرن الثالث
الهجري، بدافع جمع المال والجاه، فإن قضية السفراء في الحقيقة ليست إلاّ امتداداً
لفكرة الوكالة التي أسّسها الأئمة^الذين سبقوا الإمام المهدي، لكي يتواصلوا مع
شيعتهم وأتباعهم، بل إنّ بعض السفراء كان وكيلاً للإمام الحسن العسكري×.
مبعدات
عقلائية لفرضية أن السفراء هم من اخترع الغيبة
مضافاً إلى ذلك، هناك
شواهد ومبعّدات تاريخية وعقلائية، تفنّد فرضية اختراع الغيبة والمهدوية من قبل
هؤلاء السفراء، منها:
لم
يعرف السفراء بالثراء المادي
لو كان دافع السفراء
الأربعة من وراء ادعاء السفارة بين الإمام وشيعته هو الكسب والثراء المادي ـ كما
زعم القفاري ـ وكانوا باسم المهدي يكنزون الذهب والفضة والأموال التي تجبى إليهم
من الشيعة من جميع الآفاق، لكان من الطبيعي أن يُعرفوا في الوسط الشيعي بالثراء
والترف المادي، ولاقتنوا الضياع وبنوا القصور وتزوجوا الإماء!! واحتمال أنهم كانوا
يخفون ذلك ولا يظهرونه؛ خوفاً من أن يفتضح أمرهم، مدفوع بعدم انكشاف ذلك بعد
وفاتهم، فكان من المتوقع أن يظهر ذلك ونسمع بتقاسم الورثة لتلك الأموال، بينما لم
ينقل لنا التاريخ أي شيء من ذلك، رغم تربّص الأعداء بهم، بل نقل أنهم كانوا أناساً
كسبة ومن عامة الناس، يأكلون من كدّ أيديهم وعرق جبينهم، وكانوا يوزّعون ما يصل
إليهم من هذه الأموال على الفقراء والمساكين من المسلمين.
في حين نجد أنّ التاريخ نقل لنا الثراء الفاحش
والأموال الطائلة التي خلّفها بعض من الصحابة في غضون سنوات قليلة، حتى أنّ ثروة
بعضهم من الذهب كانت تتجاوز الحدّ المعقول، بل كانت تكسّر بالفؤوس، مع أنّ المفترض
ـ على أقلّ تقدير ـ أن يعيش الحياة الطبيعية التي تنسجم مع ذلك العصر الذي كان
يعيشه رسول الله’، فهم الأقرب إلى تلك المفاهيم السامية التي رسّخها
في أفكار وذهن أصحابه، ومنها: المساواة بين الناس، وعدم كنز الأموال والعيش مع
الفقراء، في حين أنّ تأريخهم يحدثنا بعكس ذلك([352]).
السفراء
يعيشون في جو من الخوف والإرهاب
من الاُمور المسلّمة
تاريخياً أنّ عموم الشيعة كانوا يعيشون في ظروف من القهر والخوف والقمع الذي كانت
تمارسه السلطات الحاكمة آنذاك، فكيف حال من يتصدّى منهم لاُمور القيادة ويدّعي
الاتصال بالإمام المهدي×، ويأخذ الأموال من الناس باسمه؟ فهو بلا شكّ سيكون عدوّها
الأول وسيحمل خشبة صلبه على كتفه، خصوصاً إذا لاحظنا أنهم كانوا يعيشون في بغداد
عاصمة الخلافة العباسية، فأي مكسب ماديّ يبحث عنه هذا الشخص الذي يعيش التهديد
والرعب في كل لحظات حياته؟! وكيف يفكر بالانتفاع من هذه الأموال وفي أيّ مكان
يمكنه أن يستمتع بها؟
فإنّ من يبحث عن المال عادة ما ينشد السلامة والأمان
ليتمتّع به، وإلاّ فما فائدة المال لشخص يعيش الخوف والحذر والسرّية طيلة لحظات
حياته؟ فما يدّعيه القفاري من أنّ هؤلاء اخترعوا الغيبة لا يرتضيه منطق الحياة
وسيرة العقلاء.
هذا مضافاً إلى أنّه من حق أي شخص أن يتساءل ويقول:
لو كانت الغيبة أكذوبة اخترعها هؤلاء الأربعة فكيف تسنّى لهذه الأكذوبة أن تستمرّ
تلك المدة الطويلة دون أن تنكشف خيوطها ويظهر زيفها، فإنّ حبل الكذب قصير، كما
يقال، ولذا يقول السيد محمد باقر الصدر&: «فهل
تتصور أن بإمكان أكذوبة أن تعيش سبعين عاماً، ويمارسها أربعة على سبيل الترتيب
كلّهم يتفقون عليها، ويظلون يتعاملون على أساسها وكأنها قضية يعيشونها بأنفسهم
ويرونها بأعينهم دون أن يبدر منهم أي شيء يثير الشك»([353]) ويضيف قائلاً: «ومنطق
الحياة يثبت أيضاً أن من المستحيل عملياً بحساب الاحتمالات أن تعيش أكذوبة بهذا
الشكل، وكل هذه المدة، وضمن كلّ تلك العلاقات والأخذ والعطاء، ثم تكسب ثقة جميع من
حولها»([354]).
ثم هَبْ أنّ أكذوبة السفارة قد انطلت على الشيعة
واستمرّت تلك المدة، فلماذا لم يكتب لها الاستمرار، مادامت الناس تصدق مخترعيها،
وتغدق عليهم الأموال؟! لماذا اقتصرت القضية على أربعة أشخاص فقط؟!
إنّ هذه المسألة وبحساب الاحتمالات العقلائية كما
يقول السيد الصدر& لا يمكن أن تكون مجرد أسطورة لا واقع موضوعي لها، ولا يمكن
لعقل سليم أن يرفضها بشكل فوري إلاّ أن يكون قد ابتلي بداء التعصّب والتحجّر
والأحكام المسبقة.
كما أنّه مضافاً إلى
كلّ هذه المبعّدات؛ هناك ما يطمئن به إلى سقوط تلك الفرضية، وهو شهرة هؤلاء
السفراء الأربعة بالوثاقة والصدق في القول والعمل، وما كانوا يتمتّعون به من
مكانة بين الشيعة بمختلف طبقاتهم، في الوقت الذي برز في هذه الأثناء أشخاص أدعياء
كذبة اتهمتهم الشيعة بالكذب والانحراف، ولم يتمّ التعامل معهم باحترام وتقدير،
وهذه الشهرة تجعل من غير المعقول قبول فرضية اختراعهم الغيبة لكسب المال، كما
ادعى القفاري.
السفير الأول: عثمان بن سعيد العمري الأسدي
كان الشيخ العمري من الفقهاء والعلماء الكبار، فهو
الأمين والعفيف وهو الصادق، وكان موضع ثقة الجميع؛ لذا جاء اختياره لهذه المهمة
والمسؤولية، مع ما فيها من مخاطر قد تؤدي إلى قتله؛ لأنّ السلطة الحاكمة كانت
تترصّد حركات الإمام المهدي× وأتباعه، فامتهن تجارة بيع السمن وجاءت تسميته
بالسمّان؛ لكي تقيه من ملاحقة السلطة ومطاردتها له، وليكون قادراً على إنجاز مهمة
إيصال الرسائل والأموال وغيرها بشكل سريّ من وإلى الإمام×.
تعدّ سفارة الشيخ عثمان
بن سعيد العمري هي الاُولى في عصر الغيبة الصغرى، وقد نصّ عليه الإمام المهدي
لتسنّم هذا المنصب، كما أنّه حاز شرف الوكالة من قبل الإمامين العسكريين، الهادي
والعسكري‘([355]).
أمّا مسألة النصّ عليه، فقد
قال الإمام المهدي× مخاطباً محمد بن عثمان عند وفاة والده عثمان: «... وكان
من كمال سعادته أن رزقه الله تعالى ولداً مثلك يخلفه من بعده، ويقوم مقامه بأمره»([356]).
وهذا النصّ يكشف بصورة جلية
سفارة ووكالة العمري (رحمه الله).
وأمّا مدّة سفارته فقد بلغت
خمس سنوات، من 260 هـ إلى 265 هـ.
نذكر بعض ما ورد من مدح
وإطراء لهذه الشخصية العظيمة، الذي يدلّ على كبر منزلته وجلالته وورعه وصدقه.
فقد روى الشيخ الطوسي
بسنده عن أحمد بن إسحاق بن سعد القمي، عن الإمام الهادي×، قال: «هذا
أبو عمرو الثقة الأمين، ما قاله لكم فعنّي يقوله، وما أدّاه إليكم فعنّي يؤدّيه»([357]).
وروى أيضاً بنفس السند
عن الإمام العسكري، قال: «هذا
أبو عمرو الثقة الأمين، ثقة الماضي وثقتي في المحيا والممات...»([358]).
وكتب الإمام العسكري× إلى إسحاق بن إسماعيل
النيسابوري فيه توثيق واضح للعمري، ورد فيه: «...
فلا تخرجن من البلدة حتى تلقى العمري (رضي
الله عنه)
برضاي عنه، وتسلّم عليه وتعرفه ويعرفك، فإنّه الطاهر الأمين العفيف، القريب منّا وإلينا»([359]).
وعند
وفاة عثمان بن سعيد (رضوان الله عليه)، خاطب الإمام المهدي× ولده محمد معزيّاً
ومادحاً لأبيه، وهو يكشف عن مدى حبّ الإمام له وأنّ له منزلة وجلالة ووثاقة عالية
عنده، قال: «إنّا
لله وإنّا إليه راجعون، تسليماً لأمره ورضاء بقضائه... عاش أبوك سعيداً ومات
حميداً، فرحمه الله وألحقه بأوليائه ومواليه، فلم يزل مجتهداً في أمرهم، ساعياً
فيما يقرّبه إلى الله عزّ وجلّ، نضّر الله وجهه وأقاله عثرته»([360]).
قال الشيخ الطوسي في كتاب
الغيبة: «كانت
توقيعات صاحب الأمر× تخرج
على يدي عثمان بن سعيد وابنه أبي جعفر محمد بن عثمان إلى شيعته وخواص أبيه أبي
محمد×، بالأمر
والنهي والأجوبة عمّا يسأل الشيعة عنه إذا احتاجت إلى السؤال فيه بالخط الذي كان
يخرج في حياة الحسن×، فلم
تزل الشيعة مقيمة على عدالتهما إلى أن توفي عثمان بن سعيد رحمه الله ورضي عنه، وغسله
ابنه أبو جعفر وتولّى القيام به، وحصل الأمر كله مردوداً إليه، والشيعة مجتمعة على
عدالته وثقته وأمانته؛ لما تقدم له من النصّ عليه بالأمانة والعدالة والأمر
بالرجوع إليه في حياة الحسن× وبعد
موته في حياة أبيه عثمان رحمة الله عليه»([361]).
وخلاصة الكلام: إنّ العمري كان همزة الوصل بين
الإمام المهدي وشيعته في مراسلاتهم وقضاياهم، فهو ذلك النابغة في الفكر والعقل
والحكمة مضافاً إلى صفات تحلّى بها ـ وهو أهل لها ـ كالتقوى والورع والصدق
والأمانة؛ ممّا أهّله ذلك ليكون نائباً خاصاً ووكيلاً عاماً عن الإمام×.
توفّي الشيخ العمري (رضوان الله عليه) في بغداد سنة 265 هـ، ودفن بجانب الرصافة في بغداد،
وقبره معروف يزار.
السفير الثاني:
محمد بن عثمان العمري أبو جعفر
لقد كانت له منزلة
عظيمة عند الشيعة الإمامية، فقد تواترت وثاقته وجلالته عند الإمامية، وكان يلقب
بالخلاّني؛ لتجارته وبيعه مادة الخل المعروفة؛ ولعل ذلك مخافة قتله لو علموا بكونه
وكيلاً أو سفيراً للإمام المهدي×، فهم لم يتورعوا ـ كما قلنا سابقاً ـ عن انتهاك
بيت الإمام العسكري×، والعبث بكل ما يطالونه عند وفاة الإمام×، فكيف لو علموا بأنّ
شخصاً وكيلاً شرعياً له، وقد قيل: لحلمه وورعه وتقواه صار الخل والصديق والصاحب
لكل الناس، فجاءت شهرته لهذه العلة، وعلى كلا القولين، فهو ذلك الإنسان الورع
الجليل محل ثقة الإمام المهدي×.
قال الشيخ الطوسي: «محمد
بن عثمان بن سعيد العمري، يكنى أبا جعفر، وأبوه يكنى أبا عمرو، جميعاً وكيلان من
جهة صاحب الزمان×،
ولهما منزلة جليلة عند الطائفة»([362]).
أمّا
سفارته فقد تم تعيينه من الإمام المهدي× سفيراً ثانياً له، وقائماً بأعماله، بعد
وفاة والده مباشرة، وقد قام الإمام المهدي× بخطوات عملية لإثبات سفارته، وذلك من
خلال خطاباته إلى شيعته ومواليه في أرجاء العالم الإسلامي يعلمهم بخبر نيابة
وخلافة محمد بن عثمان محل والده، فهو النائب والوكيل عنه×.
ومن
تلك الخطابات والرسائل ما بعثه الإمام المهدي إلى محمد بن مهزيار الأهوازي، حيث
جاء في كلامه:
«والابن
وقاه الله لم يزل ثقتنا في حياة الأب (رضي
الله عنه)
وأرضاه ونضّر وجهه، يجري عندنا مجراه، ويسدّ مسدّه، وعن أمرنا يأمر الابن وبه
يعمل، تولاه الله، فانته إلى قوله، وعرف معاملتنا([363]) ذلك»([364]).
وواضح من هذا الخطاب أنّ الإمام المهدي× وضع ثقته
المطلقة في (محمد بن عثمان) الذي لا يختلف عن أبيه في القيام في هذا الدور
الحيوي والمهم، في تبليغ وصايا الإمام، وتوجيه الاُمّة نحو الصلاح والكمال في ظرف
قد يجعله عرضة للقتل في كلّ لحظة، لاسيّما وعيون السلطة تراقب حركاتهم وسكناتهم.
ولهذا كان موضع رضا وقبول الإمام المهدي×، بحيث كان
يدعو له أن يعينه ويقوّيه ويحفظه في تحمّل المهام الصعبة الملقاة عليه، وذلك حين
خاطبه عند وفاة أبيه معزياً ومحفزاً لتسلم مهام النيابة من بعده، حيث قال له: «أجزل
الله لك الثواب وأحسن لك العزاء، رزئت ورزئنا وأوحشك فراقه وأوحشنا، فسرَّه الله
في منقلبه، وكان من كمال سعادته أن رزقه الله تعالى ولداً مثلك يخلفه من بعده، ويقوم
مقامه بأمره، ويترحّم عليه، وأقول: الحمد لله، فإن الأنفس طيبة بمكانك، وما جعله
الله عزّ وجلّ فيك وعندك، أعانك الله وقواك وعضدك ووفقك، وكان لك ولياً وحافظاً
وراعياً وكافياً ومعيناً»([365]).
أما مدة سفارته فكانت
أربعين سنة، من سنة 265 هـ إلى 305 هـ.
قال
ابن الأثير في الكامل: «مات
أبو جعفر بن محمد بن عثمان العسكري المعروف بالسمّان، ويعرف أيضاً بالعمري رئيس
الإمامية، وكان يدعي أنّه الباب إلى الإمام المنتظر، وأوصى إلى أبي القاسم بن
الحسين بن روح»([366]).
وقال الشيخ الطوسي: «محمد
بن عثمان بن سعيد العمري، يكنى أبا جعفر، وأبوه يكنى أبا عمرو، جميعاً وكيلان من
جهة صاحب الزمان×،
ولهما منزلة جليلة عند الطائفة»([367]).
وروى الشيخ الطوسي أيضاً
بسنده عن إسحاق بن يعقوب عن الإمام المهدي× قال: «وأمّا
محمّد بن عثمان العمري (رضي
الله عنه)، وعن
أبيه من قبل، فإنّه ثقتي، وكتابه كتابي»([368]).
وروى الشيخ الطوسي عن الإمام
العسكري×: «العمري
وابنه ثقتان، فما أدّيا، فعنّي يؤدّيان، وما قالا، فعنّي يقولان، فاسمع لهما
وأطعهما، فإنّهما الثقتان المأمونان»([369]).
وتقدم توثيقه من
الإمام× حين قال: «والابن
وقاه الله لم يزل ثقتنا في حياة الأب (رضي
الله عنه)»([370]).
روى الشيخ الصدوق بسند
صحيح: «عن عبد الله بن جعفر الحميري قال: سألت محمد بن عثمان العمري (رضي الله عنه)، فقلت له: أرأيت صاحب هذا الأمر؟ فقال: نعم، وآخر عهدي به عند بيت الله
الحرام وهو يقول: اللّهم أنجز لي ما وعدتني»([371]).
وروى أيضاً بنفس السند: «عن
محمد بن عثمان العمري، قال: سمعته يقول: والله إنّ صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم
كلّ سنة، فيرى الناس ويعرفهم، ويرونه ولا يعرفونه»([372]).
فيتّضح من خلال هذه
الروايات الصحيحة، أنّ العمري قد تشرّف برؤية الإمام× وفي هذا دلالة على عظم هذه
الشخصية وكونه من المقرّبين والموثوق بهم عند الإمام المهدي×.
توفي الشيخ محمد بن عثمان
العمري سنة 305 هـ بعد أن أوصى لخلَفِه الشيخ الحسين بن روح النوبختي بالنيابة
بعده بأمر الإمام المهدي×، ودفن في بغداد، وقبره معروف يزار.
السفير
الثالث: الحسين بن روح أبو القاسم النوبختي
عُرِف عنه بكونه من
الثقات الأجلاء عند الخاصة والعامة، فكانت العامة تعظمه وتحترمه وترى فيه الصدق
والأمانة، فهو رأس الشيعة والشيخ الصالح بشهادة الذهبي، وكان فاضلاً موثوقاً
ﻻ يختلف في ذلك اثنان، حتّى كان أبو سهل النوبختي يقول في حقّه: «لو
كان الحجّة× تحت
ذيله وقرّض بالمقاريض ما كشف الذيل»([373]).
قال
الذهبي: «أبو
القاسم الحسين بن روح رأس الشيعة، الملقّب بالباب إلى صاحب الزمان»([374]).
وقال
في تاريخ الإسلام: «هو
الشيخ الصالح أحد الأبواب لصاحب الأمر، نص عليه بالنيابة أبو جعفر محمد بن عثمان
بن سعيد العمري عنه، وجعله من أول من يدخل عليه حين جعل الشيعة طبقات. وقد خرج على
يديه تواقيع كثيرة. فلمّا مات أبو جعفر صارت النيابة إلى أبي القاسم. وجلس في
الدار ببغداد، وجلس حوله الشيعة...»([375]).
الشيخ الحسين بن روح هو ثالث السفراء، وكانت مدّة
سفارته إحدى وعشرين سنة، من 305 هـ إلى 326 هـ، وقد وكّله العمري بعده للنيابة والسفارة والقيام
بالمهمات بين الإمام وشيعته، بأمر الإمام المهدي×، روى الشيخ الطوسي: «إن
أبا جعفر العمري لما اشتدت حاله اجتمع جماعة من وجوه الشيعة... فقالوا له: إن حدث
أمر فمن يكون مكانك؟ فقال لهم: هذا أبو القاسم الحسين بن روح بن أبي بحر النوبختي
القائم مقامي، والسفير بينكم وبين صاحب الأمر×
والوكيل له والثقة الأمين، فارجعوا إليه في اُموركم وعوّلوا عليه في مهماتكم فبذلك
أمرت وقد بلغت اُموركم»([376]).
توفّي (رضوان الله عليه) في شهر شعبان 326 هـ في بغداد، ودفن بجانب الرصافة
في بغداد، وقبره معروف يزار.
السفير
الرابع: علي بن محمد السمري
لا يختلف اثنان في وثاقة وسمو ورقي مكانة السمري (رضوان الله عليه) عند الطائفة الشيعية، فيكفيه فخراً أن الإمام
اختاره لهذه المرتبة الجليلة في كونه نائباً ووكيلاً عنه، فلا ينال ذلك إلاّ من
كان ثقةً جليلاً مؤهلاً لتحمّل المسؤولية، وهذا ما خوله لتسنّم هذه الوظيفة, وقد
أورد الشيخ الطوسي نبذة من أخباره, تدلّ على علوّ شأنه ورفيع مقامه([377]).
نال شرف السفارة والقيام
بأعباء المسؤولية عن الإمام المهدي×، بعد وفاة السفير الثالث الشيخ الحسين بن روح
النوبختي، وكانت مدّة سفارته ثلاث سنوات، من 326 هـ إلى 329 هـ، فهي أقصر مدة تولى
فيها هذا المقام السامي، وبعدها انتهت الغيبة الصغرى، وذلك بالبيان الذي بلّغه به
الإمام×، لتتحقّق بعده الغيبة الكبرى، وكانت آخر كلمات وخطابات الإمام له هي قوله:
«بسم
الله الرحمن الرحيم، يا علي بن محمد السمري، أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنّك ميّت
ما بينك وبين ستّة أيّام، فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد
وقعت الغيبة الثانية فلا ظهور إلاّ بعد إذن الله عزّ وجلّ، وذلك بعد طول الأمد
وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي شيعتي من يدّعي المشاهدة، ألا فمن
ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر، ولا حول ولا قوة إلاّ
بالله العلي العظيم... فلمّا كان اليوم السادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه، فقيل له:
من وصيّك من بعدك؟ فقال: لله أمر هو بالغه»([378]).
وبنهاية هذه النيابة اقتضت
حكمة الله تعالى أن يغيب الإمام المهدي× ويحتجب عن عيون محبيه وشيعته، لتبدأ مرحلة
ودور آخر وهو ما نسميه بالغيبة الكبرى، وقد أرجع الإمام شيعته فيها إلى الفقهاء
للقيام بمهام التبليغ إلى ما شاء الله أن يصدع بأمر ظهوره ليملأ الأرض قسطاً وعدلا
بعد أن تمتلأ بالظلم والجور.
توفّي
الشيخ السمري في بغداد سنة 329هـ بجانب الرصافة، وقبره معروف يزار.
وهكذا
يتّضح جلالة ووثاقة ونزاهة هؤلاء السفراء، وأنّ وظيفتهم كانت تتمثّل في أنّهم حلقة
الوصل بين الإمام× وشيعته، ونقل المسائل الفقهية والعقائدية من الإمام إليهم وقضاء
حوائج المؤمنين وحلّ مشاكلهم بالإضافة إلى وظيفة جمع الأموال الشرعية.
وبعد
ترجمتنا لهؤلاء الثقات التي أجمعت الطائفة على صدقهم ووثاقتهم، وكذلك ما ورد من
كلمات بعض أهل السنة بكونهم من رؤوس الشيعة، فهل يعقل أن يضعوا ويختلقوا قصة بهذا
الحجم لنظرية المهدوية، التي أطبق على ذكرها الفريقان وبطرق صحيحة وقبل أن يلد
الإمام المهدي×، ثم هل يعقل أن الوكلاء والنواب الذين لم يحص عليهم خطأ أو كذب أو
تحايل في تصرف، أو تهافت في نقل، مدة سبعين عاماً، أن يخلقوا لنا مثل هذه الفكرة
ويتفقون على نقلها دون إثارة الشكوك حولها ويكسبون بذلك ثقة الشيعة طوال هذه
السنوات؟!
لقد
حاول القفاري أن يثبت زعمه بأنّ السفراء الأربعة هم من اخترع الغيبة من أجل جمع
الأموال، مستدلاً على ذلك بحصول الاختلافات والنزاعات بينهم وبين غيرهم، قال: «وتكشف
بعض أوراقهم سبب هذا التنازع بينهم»([379]).
ثم نقل كلاماً عن الشيخ
الطوسي حول رجل يدّعى محمد بن علي بن بلال كان قد رفض سفارة محمد بن عثمان العمري،
وامتنع عن تسليم الأموال له، جاعلاً ذلك دليلاً على أنّ السفارة إنّما اختُلقت
لجمع المال.
وفي معرض الردّ على هذا الكلام؛ يمكن القول بأنّ
القفاري إمّا أن تنقصه الأهلية العلمية التي لا تصونه عن الوقوع في أخطاء واضحة،
أو أن تحامله على الشيعة يوقعه في مثل هذه الهفوات، وإلاّ فإن المنحرفين عن الحق
موجودون في كلّ زمان ومكان، والصراع بين أهل الحق والباطل صراع أزلي منذ وطأ
الإنسان الأرض، وفي مقدمة من ابتلي بهذا الأمر هم الأنبياء^، حيث تجد في قبال كلّ
نبي هناك من يرفض نبوّته، أو يتّهمه باُمور عديدة، أو يدّعي النبوّة دونه، وهذا في
الحقيقة جزء من الامتحان والاختبار الذي أراده الله لبني البشر، قال تعالى: {أَحَسِبَ
النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ}([380]) فعلى منطق القفاري لابدّ أنّ نشكك في نبوّة
الأنبياء^ وأحقيتهم؛ لأن هناك من نازعهم واختلف معهم واتهمهم، وهذا لا يقول به
عاقل فضلاً عمّن يدعي العلم والفهم.
ومن هنا لا يخرج سفراء
الإمام المهدي× عن هذه القاعدة؛ إذا برز في طريق عملهم الحسّاس والخطير بعض ضعاف
النفوس ممن يسعون وراء الدنيا وبريقها، وهي سنة اجتماعية لا يخلو منها مجتمع من
المجتمعات، ولا يحتاج إثباتها إلى شواهد وأدلة.
ثم رتّب القفاري على
انحراف الشخص المدعو محمد بن علي بن بلال واستئثاره بالحقوق الشرعية، عدم وجود
الإمام المهدي× بدعوى أنّه كيف يجعل الإمام×، شخصاً منحرفاً، وكيلاً له في أخذ
الأموال، وهو يعلم ما كان وما يكون، قال القفاري: «وإلاّ
لو كان هناك إمام غائب... لما صارت الأموال إلى هذا الرجل المحتال، ولما كان محلّ
ثقة الإمام صاحب الزمان؛ لأن الإمام عندهم يعلم ما كان وما يكون، فلماذا لم يصدر
أمره من البداية في التحذير من التعامل معه حتى لا يأخذ أموال الناس؟! لكن الحقيقة
أنّه لا إمام غائب...»([381]).
في هذا المقطع من كلام القفاري توجد عدة فرضيات:
الاُولى: أنّ الإمام× عند
الشيعة يعلم ما كان وما يكون.
الثانية: أنّ هذا الشخص كان
منحرفاً من بداية الأمر.
الثالثة: أنّ الإمام عيّنه
وكيلاً في أخذ الأموال مع كونه منحرفاً، ولم يحذّر الناس منه، وهذا غير معقول،
فإذن لا وجود لهذا الإمام.
ونحن لو سلّمنا بالفرضية الاُولى، وقبلنا أن الإمام×
لديه هذا العلم من الله سبحانه ـ وقد تكلمنا عن الشبهات الموجهة إلى علم الأئمة في
الجزء الأول من هذا الكتاب ـ ولكن من أين أتى القفاري بفرضية أن هذا الشخص كان
منحرفاً من البداية؟! أليس هذا رجماً بالغيب؟! ألا يمكن أن يكون هذا الشخص
مستقيماً في حياته، ثم عرض له الانحراف؟! وكم له من نظير، فيكون اختيار الإمام× له
في حينه صحيحاً وفي محلّه، ولا يقدح باختياره له كونه سينحرف في المستقبل، لأنّ
ذلك بيد الله سبحانه، ولا يجوز ترتيب أثر على شيء لم يحدث.
ثمّ إنّ الله سبحانه اعتمد على
أشخاص ورزقهم العلم والفهم وفضّلهم على غيرهم، ولكنهم انحرفوا وحادوا عن طريق الحق
وجادّة الصواب، فهذا بلعم بن باعورا ـ على سبيل المثال ـ وهو عالم من علماء بني
إسرائيل، قد أعطاه الله من آياته، ورزقه علماً، ثم انحرف فيما بعد، قال المناوي في
فيض القدير: «قال
الغزالي: كان بلعم بن باعوراء من العلماء وكان بحيث إذا نظر رأى العرش وهو المعني
بقوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا
فَانسَلَخَ مِنْهَا}»([382]).
وقال الطبري: «فإنّ
أهل العلم بأخبار الأولين مجمعون على أنّ بلعم بن باعوراء كان ممن أعان الجبارين
بالدعاء على موسى»([383])، فهل كان الله يعلم
بما سيؤول إليه حاله أو لا يعلم؟ فإذا كان يعلم، فلماذا يعطيه تلك الآيات، والعلم
الغزير؟! فلا شك هناك مصلحة ما اقتضت ذلك، وإن كان الله تعالى يعلم أنّه في مرحلة
متأخرة سوف يتحقق منه الانحراف.
وكذا الحال بالنسبة إلى رسول الله|، حين >بعث
الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني
المصطلق مصدقاً، فأخبر عنهم أنهم ارتدوا وأبوا من أداء الصدقة؛ وذلك أنهم خرجوا إليه
فهابهم ولم يعرف ما عندهم، فانصرف عنهم ... فبعث إليهم رسول الله (صلّى الله عليه
وسلّم) خالد بن الوليد وأمره أن يتثبت فيهم، فأخبروه أنهم متمسكون بالإسلام، ونزلت
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ}»([384]).
فلماذا بعثه رسول الله’ إذا كان فاسقاً، بنص القرآن
الكريم؟! هل كان يعلم أو لا يعلم؟! أو أنّه يعلم ولكنه مأمور بالتعامل مع ظاهر
الحال، أو أنّ هناك مصلحة لا نعلمها.
وغير ذلك من الشواهد الكثيرة، التي حدثت بالنسبة
لبعض القادة والعمال الذين كان يعتمد عليهم النبي’ في بعض المهامّ، ويظهر فيما بعد
إخفاقهم أو تقصيرهم أو انحرافهم.
والحال ذاته ينطبق على بعض وكلاء الإمام×، فليست
المسألة غريبة حتى يستنج القفاري منها عدم وجود الإمام×.
الشبهة:
تسريب نظرية المهدي والغيبة عن طريق حكيمة
قال القفاري: «فمسألة
المهدي وغيبته تسربت إلى الشيعة عن طريق حكيمة، كما تقوله رواية شيخ الطائفة، وما
أدري كيف يقبل الشيعة قول امرأة واحدة غير معصومة في أصل المذهب ...»([385]).
تارة ينقل لنا القفاري أن
مسألة الإمام المهدي وغيبته× قد اخترعها عثمان بن سعيد العمري والآخرون معه، ومن
ثم تكونت كعقيدة للشيعة، وتارة يقول إنها تسربت إلى الشيعة عن طريق حكيمة، ولا
ندري من هو مخترعها الحقيقي حسب قناعات القفاري؟! هل هي حكيمة التي سربتها لنا أو
عثمان بن سعيد؟!!
فهناك تخبط واضح في أقوال
القفاري، فهو لا يلتفت إلى التناقضات التي يقع فيها، ولعلّ الذي ألجأه إلى هذا
التناقض، هو تجذّر فكرة الإمام المهدي× وحضورها في الذهنية الإسلامية، فكلّما حاول
دحض هذه العقيدة أدخل نفسه في متاهات لا يجد لنفسه مخرجاً منها.
وأمّا السيدة حكيمة، التي
حاول أن يطعن بشهادتها على ولادة الإمام المهدي×، فهو يطعن في الحقيقة بشهادة
حسّية على ولادته×، وما شهادتها إلاّ واحدة من الأدلة الكثيرة على تحقّق الولادة،
فولادته لم تنحصر بشهادة السيدة الفاضلة حكيمة، وهذه الشهادة لا علاقة لها بأصل
عقيدة المهدوية عند الشيعة، ولا ربط بين الأمرين.
ولكن السؤال الذي يجب أن نتناوله هنا: من هي السيدة
حكيمة؟ وهل شهادتها تورث الاطمئنان بصدق الولادة أم لا؟
والجواب على الأمر الثاني هو: نعم، شهادتها على
الولادة تورث الاطمئنان بتحقق ذلك ، فهي سليلة أهل بيت الذين طهرهم الله تعالى
وأذهب عنهم الرجس.
وأمّا من هي السيدة
حكيمة، فننقل ترجمتها لكي يقف القارئ على درجة وفضل هذه السيدة الجليلة.
ترجمة السيدة حكيمة بنت الإمام الجواد×
السيدة حكيمة بنت
الإمام محمّد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر
بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب^.
من
خلال نسبها الطاهر تتضح وثاقتها وجلالتها، فهي من العلويات النجيبات الكريمات، لما
لها من الفضل والعلم والتقوى، فكانت المودعة لأسرار الأئمة^، بشهادة الشيخ المجلسي
والسيد محسن الأمين (رحمهما الله).
قال
المجلسي: «ثمّ
اعلم أنّ في القبّة الشريفة قبراً منسوباً إلى النجيبة الكريمة العالمة الفاضلة
التقية الرضية حكيمة بنت أبي جعفر الجواد‘ ولا
أدري لِمَ لم يتعرضوا لزيارتها مع ظهور فضلها وجلالتها وإنّها كانت مخصوصة
بالأئمّة^، ومودعة أسرارهم، وكانت اُمّ القائم عندها، وكانت حاضرة عند ولادته×،
وكانت تراه حيناً بعد حين في حياة أبي محمّد العسكري×، وكانت من السفراء والأبواب
بعد وفاته، فينبغي زيارتها بما أجرى الله على اللسان ممّا يناسب فضلها وشأنها»([386]).
وقال السيد محسن الأمين: «كانت
من الصالحات العابدات القانتات»([387]).
مشاهدتها
وحضورها لولادة الإمام المهدي×
روى القندوزي الحنفي عن
السيدة حكيمة: «فلمّا
كانت ليلة النصف من شعبان سنة خامس وخمسين ومائتين، دخلت حكيمة عند الحسن، فقال
لها: يا عمتي كوني الليلة عندنا لأمر، فأقامت، فلمّا كان وقت الفجر اضطربت نرجس،
فقامت إليها حكيمة، فوضعت المولود المبارك ...»([388]).
روى الشيخ الصدوق بسنده
عن السيدة حكيمة، قالت: «بعث
إليّ أبو محمّد الحسن بن علي‘،
فقال: يا عمّة، اجعلي إفطارك هذه الليلة عندنا، فإنّها ليلة النصف من شعبان، فإنّ
الله تبارك وتعالى سيظهر في هذه الليلة الحجّة، وهو حجّته في أرضه، قالت: فقلت له:
ومن اُمّه؟ قال لي: نرجس ... فقلت لها: إنّ الله تعالى سيهب لك في ليلتك هذه
غلاماً سيّداً في الدنيا والآخرة، قالت: فخجلت واستحيت، فلمّا أن فرغت من صلاة
العشاء الآخرة أفطرت وأخذت مضجعي فرقدت ... فجلست وقرأت ألم السجدة ويس، فبينما
أنا كذلك إذ انتبهت فزعة فوثبت إليها، فقلت: اسم الله عليك، ثمّ قلت لها: أتحسين
شيئاً؟ قالت: نعم يا عمّة، فقلت لها: اجمعي نفسك واجمعي قلبك فهو ما قلت لك، قالت:
فأخذتني فترة وأخذتها فترة فانتبهت بحسّ سيّدي، فكشفت الثوب عنه فإذا أنا به×»([389]).
توفّيت السيّدة حكيمة ÷ سنة (274 هـ)، ودفنت بجوار مرقد الإمامين العسكريين‘ بمدينة سامراء.
وبهذا
يتّضح ممّا تقدّم من ترجمتها أنّ السيدة حكيمة كانت شاهدة وحاضرة عملية الولادة
الطاهرة للإمام الثاني عشر، وهذا دليل حسّي على ولادة الإمام محمد بن الحسن
العسكري‘، وهي من الوثاقة والجلالة، فلا يمكن إلاّ أن
نصدق بكلماتها ورواياتها، أمّا أنها هي التي سرّبت نظرية المهدوية، فهذا من
مفتريات وغرائب القفاري التي لا نجد لها واقعاً صحيحاً يصدقها.
حجب
الإمام الناس عن رؤيته لا ينافي ضرورة معرفته
وأمّا قول القفاري: «وتلاحظ
أنّ إمامهم يأمر بحجب أمر المهدي وغيبته إلاّ عن الثقات من شيعته، مع أنّ مَن لم
يعرف الإمام ـ عندهم
ـ فإنّما
يعرف ويعبد غير الله وإن مات على هذه الحالة مات ميتة كفر ونفاق»([390]).
نقول:
إنّ مسألة حجب الإمام أمره عن الناس ما عدا الثقات، كان أمراً طبيعياً وله ما
يسوّغه في ظلّ حكومة تسعى إلى القضاء عليه لما تعلم من أنّه يشكل عاملاً يهدد كيان
السلطة آنذاك، فالإمام يحتجب خوفاً على نفسه من القتل الذي قد يطاله في كلّ لحظة،
وقد تقدمت الروايات في ذلك.
وأمّا ربط عدم مشاهدة الإمام إلا من قبل الثقات
بمسألة وجوب معرفته, وأنّ الروايات صرّحت: بأنّ:
من مات ولم يعرف إمامه مات ميتة كفر ونفاق؟
نقول أيضاً:
إنّ هذا الكلام ليس له وجه صحيح؛ لأنّ الشيعة لا تقصد المعرفة الحسيّة العيانية؛
بل المقصود هو المعرفة القلبية الإيمانية، فنحن نعتقد بالله ورسوله وملائكته، وهذا
الاعتقاد هو إيماني غيبي وليس المقصود منه أنّ نشاهده حضوراً، ثُمّ نؤمن به.
الشبهة:
التنافي بين علة الغيبة ـ خوف القتل ـ وبين العلم بموته
قال القفاري: «أما
سبب غيبته: فقد جاء في الكافي عن زرارة قال: سمعت أبا عبد الله يقول: إن للقائم× غيبة
قبل أن يقوم، قلت: ولِمَ؟ قال: إنّه يخاف ـ وأومأ
بيده إلى بطنه ـ يعني
القتل، وجاءت عندهم روايات عدة في هذا، وأكد ذلك شيخ الطائفة الطوسي بقوله: لا علة
تمنع من ظهوره إلاّ خوفه على نفسه من القتل؛ لأنّه لو كان غير ذلك لما ساغ له
الاستتار، وكان يتحمل المشاق والأذى، فإنّ منازل الأئمّة، وكذلك الأنبياء^ إنما
تعظم لتحملهم المشاق العظيمة في ذات الله تعالى.
ولكن هذا التعليل للغيبة الذي يؤكده شيخ الطائفة لا
يتصور في حق الأئمة ـ على
ما يعتقد الشيعة ـ لأنّ
الأئمة يعلمون متى يموتون ... فكيف يخرجون من هذا التناقض؟»([391]).
إنّ ما أورده الدكتور القفاري لهذه الإشكالية مدفوع
بأمرين:
الأول: إنّ حياة الإمام× مدة طويلة مشروطة بشرائط، منها:
اختفاؤه عن الناس، وهذا لا يتنافى مع علمه بمدة عمره ووقت موته أو قتله؛ وذلك
لأننا نقول: إن الله تعالى أعطاه القدرة على العلم بموته لكن ليس مطلقاً، بل هو
مشروط باختفائه وهروبه من القتل إذا احتمل القتل أو جزم به، وهذا ليس ببعيد، فإنّ
رسول الله’ كان يعلم متى يموت، ولكنه خرج وفرّ عن الناس وآوى
إلى الغار، ثم هاجر إلى المدينة، فهل تستطيع أن تقول: هذا تناقض كيف هرب من الموت
وهو عالم به؟!
وكذلك الأمر ينسحب على نبي الله موسى× فإنّه يعلم
أنّه سيكون حياً وسوف يكون رسولاً، فقد أخبر الله تعالى أمّه بذلك، ومن الطبيعي أن
يعلم هو بذلك أيضاً، قال تعالى: {فَإِذَا
خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا
رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}([392])، ومع ذلك قال تعالى: {فَأَصْبَحَ
فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ}([393])، وقال أيضاً على لسان موسى×: {فَفَرَرْتُ
مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ
الْمُرْسَلِينَ}([394]).
فموسى× فرّ من القتل خوفاً على نفسه، فهل هذا تناقض
وقع فيه نبي الله موسى× لأنّه هرب وهو يعلم بموته؟!
بالطبع كلا، فإنّ هناك
شروطاً لحياة الأنبياء أو الأئمة^ منها الهروب أو الخوف من القتل لمصلحة تقتضي هذا
الخوف، ولا تلازم أو تناقض بين الأمرين.
الثاني: إنّ الله سبحانه وتعالى أخبرنا في كتابه العزيز في
قوله تعالى: {يَمْحُو
اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ اُمُّ الْكِتَابِ}([395]). وهذا ما يطلق عليه بلوح المحو والإثبات، فيشمل
الموت والحياة والرزق وغير ذلك.
قال الشيخ المفيد: «وقد يكون الشيء مكتوباً بشرط، فيتغيّر الحال فيه، قال تعالى: {ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ}([396]). فتبيّن أنّ الآجال على ضربين: ضرب منها مشترط يصحّ فيه الزيادة والنقصان،
ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إلاّ فِي
كِتَابٍ}([397]). وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أهل الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم
بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ}([398]) فتبيّن أنّ آجالهم كانت مشروطة في الامتداد بالبر، والانقطاع بالفسوق»([399]).
وأخرج ابن مردويه وابن
عساكر عن علي× أنّه سأل رسول الله عن هذه الآية الكريمة {يَمْحُو
اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ اُمُّ الْكِتَابِ} فقال له رسول الله’: «لأقرّن
عيني أمتي بتفسيرها، الصدقة على وجهها، وبر الوالدين واصطناع المعروف يحوّل الشقاء
سعادة، ويزيد في الرزق، ويقي مصارع السوء»([400]).
فالآجال مشروطة بأفعال
معينة، قد يطول العمر بها وقد يقصر، والإمام المعصوم× لا يخرج عن ذلك القانون
الإلهي، حتى مع علمه بموته وأجله، ولكن مع ذلك يعلم بطروّ محو الله تعالى على
الأجل، ولذا يحتاط ويخاف من وقوع بعض الاُمور التي قد تقع طبقاً لذلك القانون
الرباني، وهذا الأمر قد حدّثتنا عنه الروايات، فعن أصبغ بن نباتة: «أن
أمير المؤمنين× عدل
من حائط مائل إلى آخر، فقيل له: يا أمير المؤمنين أتفرّ من قضاء الله؟ قال: أفرّ
من قضاء الله إلى قدره عزّ وجلّ»([401]).
قال السيد الطباطبائي: «إنّ
القدر لا يحتّم المقدّر، فمن المرجو أن لا يقع ما قدّر، أمّا إذا كان القضاء فلا
مندفع له»([402]).
فالإمام علي× كما في هذه الروايةـ
مع علمه المسبق بأنه سوف يقتل بيد أشقى الآخرين في مسجد الكوفة بإخبار من النبي|([403]) ـ فرّ من ذلك الحائط.
وكذلك الأمر فيما نحن
فيه، فإنّ الإمام المهدي× يخضع لتلك القاعدة الربانية في لوح المحو والإثبات، وهذا
لا يتنافى مع علمه المسبق بطول عمره.
الشبهة:
غيبات بعض الأنبياء لا تدل على وقوع غيبة المهدي
قال القفاري: «ويلتمس
الإمامية من الغيبة التي وقعت لبعض الأنبياء دليلاً على صحة وقوع غيبة مهديهم ... أقول:
إنّ هذه المقارنات غير مجدية في إثبات فكرة غيبة إمامهم؛ لأسباب كثيرة، منها أن
غيبة موسى ويوسف ويونس^ قد
أخبر الله سبحانه بها في كتابه بنص واضح صريح لا لبس فيه ولا غموض، أما غيبة
مهديهم فتنتهي رواياته إلى حكيمة إن صحت النسبة إليها، ثم أخبار الأبواب الأربعة
المطعون في شهادتهم؛ لأنهم يجرّون المصلحة إليهم، حيث المال المتدفق»([404]).
الجواب: ذكر الشيعة
لغيبات الأنبياء لنفي غرابة الغيبة
إنّ ذكر الشيعة لبعض
غيبات الأنبياء إنّما هو في سياق نفي غرابة أصل الغيبة واستهجانها، وليس بضارّ في
ذلك أنّ غيبة الأنبياء قد صرّح بها القرآن بينما غيبة المهدي× لم يصرّح بها، وأمّا
كلام القفاري بأنّ الإخبار عن غيبة المهدي× ظل غامضاً، فهذا الغموض إنّما جاء بسبب
الغشاء الذي لفّ القفاري به نفسه، وإلاّ فإنّ الله تعالى قد أخبر عن هذه الغيبة
على لسان نبيه| الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى، مضافاً إلى ما روي عن
أهل بيته^ وهم بدورهم أخبروا بها شيعتهم قبل وقوعها بقرون.
قال الشيخ الصدوق&: «إنّ
الأئمة^ قد
أخبروا بغيبته×
ووصفوا كونها لشيعتهم فيما نقل عنهم واستحفظ في الصحف ودوّن في الكتب المؤلفة من
قبل أن تقع الغيبة بمائتي سنة أو أقل أو أكثر، فليس أحد من أتباع الأئمة^ إلاّ
وقد ذكر ذلك في كثير من كتبه ورواياته ودوّنه في مصنفاته، وهي الكتب التي تعرف
بالأصول مدونة مستحفظة عند شيعة آل محمد^، من
قبل الغيبة بما ذكرنا من السنين»([405]).
وقد أكّد الإمام الصادق× على مفهوم الغيبة بشكل واضح
لا يقبل الشك،كما تقدم وسيأتي أيضاً.
ولا يقال: إنّ تلك
الأخبار هي من علم الغيب فلا يصحّ الاحتجاج بها؟
فهذا القول مردود بما
صرح به ابن خلدون (ت/808 هـ) في تأريخه، قال: «ولو
صحّ السند إلى جعفر الصادق لكان فيه نعم المستند من نفسه أو من رجال قومه، فهم أهل
الكرامات، وقد صحّ عنه أنّه كان يحذّر بعض قرابته بوقائع تكون لهم فتصحّ كما يقول،
وقد حذّر يحيى ابن عمّه زيد من مصرعه وعصاه، فخرج وقتل بالجوزجان كما هو معروف،
وإذا كانت الكرامة تقع لغيرهم فما ظنّك بهم علماً وديناً وآثاراً من النبوءة،
وعناية من الله بالأصل الكريم تشهد لفروعه الطيبة، وقد ينقل بين أهل البيت كثير من
هذا الكلام غير منسوب لأحد»([406]).
وقال أيضاً: «وقع
لجعفر وأمثاله من أهل البيت كثير من ذلك، مستندهم فيه والله أعلم الكشف بما كانوا
عليه من الولاية، وإذا كان مثله لا ينكر من غيرهم من الأولياء في ذويهم وأعقابهم،
وقد قال (صلّى
الله عليه وسلّم): إن
فيكم محدَّثين، فهم أولى الناس بهذه الرتب الشريفة والكرامات الموهوبة»([407]).
وقد أشار أبو العلاء
المعري (ت/ 449 هـ) إلى هذه الحقيقة في قوله:
لقد عجبوا لأهل البيت لما |
|
أتاهم علمهم في مسك جفر |
ومرآة المنجم وهي صغرى |
|
أرته كلّ عامرة وقفر([408]) |
وعلمهم^ ليس ذاتياً، بل
عرضي وبتوسّط إفاضة الله عليهم، وننقل هنا قول الآلوسي (ت/ 1270هـ)، الذي لا يرى مانعاً
للعلم بالغيب، لاسيّما للخواصّ من الناس، حيث قال: «ولعل
الحق أن يقال: إنّ علم الغيب المنفي عن غيره جلّ وعلا هو ما كان للشخص لذاته، أي بلا
واسطة في ثبوته له، وهذا مما لا يعقل لأحد من أهل السموات والأرض لمكان الإمكان
فيهم ذاتاً وصفة، وهو يأبى ثبوت شيء لهم بلا واسطة ... وما وقع للخواص ليس من هذا
العلم المنفي في شيء؛ ضرورة أنّه من الواجب عزّ وجلّ أفاضه عليهم بوجه من وجوه
الإفاضة، فلا يقال: إنّهم علموا الغيب بذلك المعنى، ومن قاله كفر قطعاً، وإنّما
يقال: إنّهم أظهروا أو اطلعوا ـ بالبناء للمفعول ـ على الغيب أو نحو ذلك مما يفهم
الواسطة في ثبوت العلم لهم»([409]).
وهذا عين ما تقول به الإمامية، فعلمهم هو بالإفاضة
والإشاءة الإلهية؛ لأنهم محدّثون من الله تعالى، كما مرّ في كلام ابن خلدون، وقد
أكّد الإمام الصادق× هذا المعنى، حيث قال: «نحن
اثنا عشر محدّثاً»([410]).
أمّا قول القفاري: «أمّا
غيبة مهديهم فتنتهي رواياته إلى حكيمة إن صحت النسبة إليها».
نقول: اتّضح بطلان هذه
الدعوى من خلال الأحاديث المروية عن الإمام الصادق× الآنفة الذكر، وأيضاً قد
تناولنا هذا البحث سابقاً، وترجمنا للسيدة حكيمة، وقلنا إنّ دورها في قضية ومسألة
المهدوية كونها شاهدة على ولادة الإمام المهدي×، وهي سيدة جليلة عظيمة ينتهي نسبها
إلى العترة الطاهرة، فأقوالها ورواياتها تورث الاطمئنان، لذا فهي شاهد حسّي على
هذه الواقعة.
أمّا ولادته وغيبته، فالقفاري قد نسي أو تناسى أنها
مروية بأسانيد صحيحة، لاسيّما في كتب الشيعة ـ الذي يحاول أن يطعن فيها ـ ودلالتها
واضحة وقد فصّلنا القول في ذلك.
تبرز أهمية البحث عن عقيدة التوسل في عدة أمور:
أولاً: أنّها من المسائل الابتلائيّة التي يمارسها المسلمون كثيراً في حياتهم؛ انسياقاً وراء
فطرتهم التي لم يمنع عنها دينهم.
وثانياً: أنّه كثر في الآونة الأخيرة السجال والجدال واتسعت دائرته حول عقيدة التوسّل
حتّى ضاعت في خضمّ هذا السجال الكثير من الحقائق وشوّهت الكثير من الدلائل، فبرز
هناك طرفان: طرف رافض لفكرة التوسّل ويراها تمسّ الذات الإلهيّة بنحو من الشرك
والوثنية، وقد بالغ في ذلك وغلا غلوّاً شديداً نتج عنه تكفير المسلمين، وكان هناك
على النقيض طرف يراها فكرة مقبولة تنسجم مع فطرة الإنسان ومع الأدلّة القرآنية
والروايات، ويرى أنّ التشدّد والمبالغة في رفضها ليس له ما يُبرّره.
وقد وظّف الاتجاه الرافض للتوسّل
الكثير من الشواهد والأدلة والذرائع لتحقيق غرضه في بيان عدم مشروعية التوسّل،
لكنّ ما ذكره لا يعدو الدعاوى والخطابات التي تهدف التأثير على العقول البسيطة
ومحاولة إقناعها واستمالتها، فحاول توجيه وتفسير الأدلّة القرآنية والروائية
تفسيرات انتقائية تعسفيّة بعيدة عن الذوق العرفي والفهم العقلائي، فوقع في أخطاء
جسيمة واضحة برهنت على ضعف ذلك الاتجاه.
ومن هنا رأينا أن نُدخل بحث التوسل في كتابنا هذا ضمن
انتقادنا لشبهات الدكتور ناصر القفاري في كتابه أصول مذهب الشيعة؛ مع أنّ هناك من
المباحث الأخرى قد تحظى أيضاً بأهميّة كبيرة وتحتاج منّا إلى نقد وتوضيح
لإشكالاته، لكن لما ذكرنا، فنحن قدّمنا بحث التوسل على بقية البحوث، ونأمل ـ إذا
شاء الله وأمدنا بطول العمر ـ أن نستمر في الإجابة عن جميع شبهات الكتاب.
لأهمية البحث ـ كما أسلفنا ـ نجد من الضروري توسيع
البحث ليشمل مباحث أكثر أهمية مما ذكره القفاري، ولهذا سوف يكون بحثنا هنا على
مرحلتين:
المرحلة الاولى: بحث حول التوسل بنحو عام، يتضمن: بحوثاً تمهيدية، وأنواع التوسل، وأحكامها
وادلتها، والاجابة عن الشبهات الجزئية المتعلقة بها... الخ.
المرحلة الثانية: تختص بالشبهات التي ذكرها القفاري في كتابه (أصول مذهب الشيعة)، وكذلك بعض
الشبهات العامة الأخرى حول التوسل.
المرحلة الأولى: بحث عام حول التوسل
ثلاثة أمور لا بد أن تبحث في المرحلة
الأولى
الأمر الأول: مقدمة في بيان حكم التوسل
الأمر الأوّل: مقدمة في بيان حكم التوسّل مع
غض النظر عن التطبيقات المختلفة له, وبعبارة أخرى: بيان أصل حكم التوسل من دون
النظر إلى ماهية وطبيعة المتوسَّل به.
الأمر الثاني: في بيان أنواع التوسل
وأحكامه
الأمر الثالث: في بيان سيرة الصحابة وعلماء
المسلمين على التوسل
الأمر الأول: مقدمة في بيان حكم أصل التوسل
لا
شكّ ولا شبهة في جواز التوسل عند جميع المذاهب الإسلامية بما في ذلك السلفية
الوهابية, إذ الخلاف وقع في أنواع التوسل الجائزة, لا في أصل جوازه في الجملة, لذا
فإنّ السلفية الوهابية يرون جواز مثل التوسّل بأسماء الله وصفاته وبالعمل الصالح
الذي قام به المتوسل وبدعاء الصالحين من الناس.
وقبل
بيان بعض الآيات الدالة على أصل مشروعية التوسّل, لا بأس أنْ نتعرض مجملاً لمعنى
التوسّل بحسب اللغة, فنقول:
الوسيلة في اللغة, لها معان عدّة, قال في لسان العرب: >الوسيلة: المنزلة عند الملك. والوسيلة: الدرجة. والوسيلة:
القربة. ووسل فلان إلى الله وسيلة إذا عمل عملاً تقرب به إليه. والواسل: الراغب إلى
الله، قال لبيد:
أرى
الناس لا يدرون ما قدر أمرهم |
بلى كلّ ذي رأي إلى الله واسل |
وتوسل
إليه بوسيلة إذا تقرب إليه بعمل. وتوسل إليه بكذا: تقـرب إليـه بحرمة آصرة تعطفه عليه.
والوسيلة: الوصلة والقربى، وجمعها الوسائل...<([411]).
وقال الجوهري: >التوسل: ما يتقرب به إلى الغير...<([412]).
فالتوسل
لغة هو الاستناد على شيء بغية الوصول إلى المقصود, فالعمل الصالح هو وسيلة لتحقيق
رضا الله سبحانه وتعالى, كما أنّ السلم وسيلة الصعود سطح المنزل, والطائرة هي
وسيلة لنقل المسافر إلى بلد آخر.
والوسيلة
في الاصطلاح لا تخرج عن ذلك المعنى, فهي تعني أنْ يجعل العبد بينه وبين ربّه شيئاً
يكون وسيلة لتقرب العبد من الله واستجابة دعائه وقضاء حاجته, كأنْ يقول: اللهمّ
إنّي أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد وأصحابه المنتجبين, أو باسمائك وصفاتك, أنْ تغفر
لي وترحمني وتقضي حاجتي...
والتوسّل
بهذا المعنى ـ أي أنْ تجعل شيئاً يكون واسطة في التقرب واستجابة الدعاء وقضاء
الحاجة ـ هو مشروع اتّفاقاً كما أشرنا,
وإنّما وقع الكلام في بعض موارده خارجاً.
ولا
بأس هنا أن نبرز بعض الأدلة القرآنية على أصل جواز التوسّل, منها:
1ـ
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا
إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}([413]).
وبغضّ
النظر عن مصداق الوسيلة، سواء أكان هو الأعمال الصالحة أو غيرها، فالآية تقرّر أنّ
التوسّل مبدأ قرآني, فالقرآن يحثُّ على طلب الوسيلة إليه ويرغب بها.
فالآية
تأمر باتّباع كل وسيلة من شأنّها أنْ تقرّب إلى الله سبحانه وتعالى, ولا شكّ في
أنّ العمل الصالح والتقوى هو من أوضح مصاديق التقرب إلى الله, لكن ذلك لا يمنع أنْ
يكون التوسّل بأسماء الله وصفاته مقربة إلى الله, ولا تمنع كون التوسّل بالعمل
الصالح الذي قام به الشخص سابقاً وسيلة للتقرب إلى الله.
وفي
الجملة فإنّ الآية وإن لم تحدّد نوع الوسيلة المقرّبة إلى الله, لكنّها تنص على
مشروعية أصل التوسّل, فكلّ نوع ثبتت مشروعيته بدليل ما فهو داخل في الآية الكريمة.
2ـ قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ
الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ
عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}([414]).
وهذه الآية كسابقتها دلت على
مشروعية أصل التوسل، بل وأثنت على المتوسلين بأنّهم يبحثون عن الأقرب إلى الله
تعالى؛ ليتوسلوا به.
فالآيتان الكريمتان صريحتان في
جواز التوسل إلى الله سبحانه وتعالى, وإن كان ثمة خلاف، فهو في نوع المتوسَّل به.
الأمر
الثاني: بيان أنواع التوسّل وأحكامه
من الضروري أن نستعرض أنواع
التوسّل ونبيّن أحكامها عند المسلمين؛ ليكون القارئ على بيّنة من أنّ ما تفعله
الشيعة الإمامية ـ وكذا غيرهم من أهل السنة ـ من توسّل إنّما هو مستقى من القرآن
الكريم والسنّة النبويّة, وقد عمل به السلف وتبعهم الخلف باستثناء المذهب السلفي
الوهابي.
النوع الأول: التوسل بأسماء الله وصفاته
لا خلاف بين المسلمين في جواز
هذا النوع من التوسل، فقد صرّح به القرآن الكريم؛ إذ جاء فيه: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}([415])والشيعة ـ
كسائر المسلمين ـ يعدّون هذا النوع من التوسل مشروعاً، وكتبهم طافحة به([416]).
النوع الثاني: التوسل بعمل صالح قام به
الداعي
وهذا أيضاً لا خلاف فيه بين
المسلمين, ويدلّ عليه قوله تعالى: {الَّذِينَ
يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا
عَذَابَ النَّارِ}([417]) وقوله
تعالى: {إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ
أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا}([418]). وغيرها من
الآيات الكريمة التي يظهر منها أنّ الدعاء متفرع على العمل الصالح الذي قام به
الإنسان, فكأنّه يدعو الله متوسلاً إليه بذلك العمل, وهناك اتفاق على جواز
ومشروعيّة هذا النوع من التوسّل.
قال الألباني: >التوسل إلى الله تعالى بعمل صالح قام به الداعي:كأن
يقول المسلم: اللهم بإيماني بك، ومحبتي لك، واتباعي لرسولك اغفر لي.. أو يقول:
اللهم إني أسألك بحبي لمحمد وإيماني به أن تفرج عني.. ومنه أن يذكر الداعي عملاً
صالحاً ذا بالٍ، فيه خوفه من الله سبحانه، وتقواه إياه، وإيثاره رضاه على كل شيء،
وطاعته له جل شأنه، ثمّ يتوسل به إلى ربّه في دعائه، ليكون أرجى لقبوله وإجابته<.
ثم قال: >وهذا
توسل جيد وجميل قد شرعه الله تعالى وارتضاه، ويدل على مشروعيته قوله تعالى: {الذين
يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار}<([419]).
والشيعة
كسائر المسلمين يتوسلون إلى الله بأعمالهم الصالحة, ومن الأمثلة على ذلك دعاؤهم
المعروف: >اللهمّ إنّي أطعتك في أحبّ الأشياء إليك وهو التوحيد
ولم أعصك في أبغض الأشياء إليك وهو الكفر فاغفر لي ما بينهما...<([420]).
النوع الثالث: التوسّل بدعاء الأحياء من
الأنبياء والأئمّة والصالحين
أمّا بالنسبة إلى النبيّ الخاتم’ فهو رسول الهدى
والتقى والقدوة الحسنة التي أُمر الناس باتباعها, وهو أفضل الخليقة على الإطلاق
بلا منازع, وشأنه وجلالته ومكانته عند ربّ العباد قد أوضحتها آيات عديدة لا تخفى
على أحد, ولذا أمر الله سبحانه المذنبين أن يأتوا إلى النبي’ ويستغفروا الله ثم
يسألوا النبي’أن يستغفر لهم, فإنّ استغفاره سبب في قبول توبتهم ونزول رحمة رب
العالمين, قال تعالى: {وَمَا
أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ
ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ
لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}([421]).
فلا
خلاف في مشروعية التوسل بدعاء النبي| في حال حياته وإنما حصل الخلاف في مشرعية
التوسل بدعائه بعد رحيله والتحاقه بالرفيق الأعلى.
وأما بالنسبة إلى
التوسل بدعاء باقي الأنبياء والأئمة^ والصالحين في حال حياتهم؛ فهذا ممّا لا خلاف
فيه أيضاً بين أهل القبلة, بل سارت عليه البشرية جمعاء, فقد ورد في القرآن الكريم
كيف أنّ إخوة يوسف طلبوا من أبيهم الاستغفار, في قوله تعالى: {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا
إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ}([422]).
والسيرة الثابتة بالقطع واليقين عند جميع
المسلمين قائمة على ذلك, فالغالبية العظمى من المسلمين إن لم نقل كلهم يطلبون من
الأولياء والصالحين في مجتمعاتهم أن يدعوا لهم الله في قضاء حوائجهم, وإنكار ذلك
مكابرة واضحة, وحتى الوهابيّة المعترضين على التوسل فإنّهم يجوزون هذا النوع منه،
فالألباني يصرّح بجواز هذا النوع , حيث ذكر أنّ النوع الثالث من التوسل المشروع
هو: >التوسّل إلى الله تعالى بدعاء الرجل الصالح< وقال في بيانه: >كأن يقع
المسلم في ضيق شديد أو تحلّ به مصيبة كبيرة ويعلم من نفسه التفريط في جنب الله تبارك
وتعالى فيجب أن يأخذ بسبب قوي إلى الله فيذهب إلى رجل يعتقد فيه الصلاح والتقوى أو
الفضل والعلم بالكتاب والسنّة, فيطلب منه أن يدعو له ربه؛ ليفرج عنه كربه ويزيل عنه
همه, فهذا نوع آخر من التوسل المشروع دلّت عليه الشريعة المطهرة وأرشدت إليه، وقد وردت
أمثلة منه في السنّة الشريفة، كما وقعت نماذج منه من فعل الصحابة الكرام رضوان الله
تعالى عليهم<([423]).
النوع الرابع: التوسل بدعاء الأموات من
الأنبياء والأولياء
وهذا النوع من التوسل هو
الأكثر مثاراً للجدل والخلاف، وقد يُطلق عليه الاستغاثة؛ لأنّها طلب الدعاء وقضاء
الحاجة من النبي’ أو الإمام أو الولي الصالح، بعد موته, لذا فقد صرّح البعض بأنّ
التوسل والإغاثة بمعنى واحد([424]).
وقبل البدء في تفصيل البحث
تجدر الإشارة إلى أمر مهم: وهو أنّ الطلب من الأنبياء والأئمّة والصالحين يقع من
المتوسل على نحوين:
نحوان
من التوسل بالأنبياء والأئمة والصالحين
الأول: قد يتوسل المتوسِّل وهو يعتقد
بالتأثير المستقل للنبي والولي، من دون أن يكون هناك تأثير لله سبحانه وتعالى، أو
يعتقد أن التأثير في تحقق طلبه هو مشترك بين الله وبين الشخص المتوسَّل به, وهذا
النحو من التوسل أو الاستغاثة حرام وشرك بلا كلام، ولا يقول به أحد من أهل
التوحيد.
الثاني: أن يتوسل المتوسِّل وهو يعتقد
أنّ المؤثر الوحيد في تحقق مطلبه هو الله تعالى دون غيره، لكنّه حيث يعلم بكثرة
ذنوبه وتقصيره مثلاً مما يقع حائلاً دون استجابة دعائه من الله تعالى بشكل عاجل، فيتجه
إلى النبيّ أو الوليّ فيطلب منه قضاء حاجته, وهذا في الحقيقة مرجعه إلى أنّ هذا
الخائف من ذنوبه يقوم بتوسيط شخص مقرب ومحبوب عند الله سبحانه وتعالى كالأنبياء
والأولياء والصالحين, معتقداً أنّ هؤلاء أحياء عند الله تعالى, وسوف يشفعون له
بأنْ يطلبوا ويدعوا الله سبحان وتعالى في قضاء حاجته, وهذا الأمر لا يتخلله شرك؛
لأنّه في واقعه طلب من الله، وأمّا الشفيع فليس له إلاّ دور
الواسطة الصالحة في قضاء الحاجة مع اعتقاد أنّ الأمر بيد الله سبحانه وتعالى.
والكلام في التوسل والاستغاثة
لا يُقصد به إلاّ هذا النحو, وهو ليس خلافاً شيعيّاً سنيّاً, بل هو خلاف إسلاميٌ
سلفي وهابي, فالذي يزعم أنّ النبيّ بعد وفاته لا يضرّ ولا ينفع هم السلفية
الوهابية بالخصوص؛ إذ يزعمون ـ كما ورد على لسان محمد بن عبد الوهاب ـ أنّ النبي
>طارش< وأنّ عصا محمّد بن الوهاب أفضل منه([425]).
وعلى أية حال فمشروعيّة هذا
النوع من التوسّل خاضعة للدليل, فإنْ تمّ الدليل فهو، وإلا لم نقل به؛ لأنّ هدفنا
هو البحث عن الحق.
وهناك أمران يتوقف عليهما
الموضوع لابدّ من بيانهما أولاً، ولو بنحو الإجمال، وهما:
الأمر الأول: أنّ النبي أو الإمام أو
الولي بعد وفاته لم ينعدم، بل هو حيّ يرزق عند الله تعالى.
الأمر الثاني: أنّه في تلك الحياة يسمع
وقادر على فعل بعض الأشياء.
الأمر
الأول: الأنبياء والأولياء أحياء عند الله
أمّا الأوّل: وهو أنّ النبي أو الإمام حي
عند الله، فالأدلّة متوافرة على ذلك، ولا نجد حاجة لبسط الكلام فيه بعد اتفاق جميع
المسلمين على حياتهم البرزخية, حيث لم ينف أحد ـ بحسب تتبعنا ـ ذلك , فقد جاء في
تذكرة القرطبي عن شيخه أحمد بن عمرو ـ وكذا نقله عنه ابن القيم في كتابه الروح ـ :>إنّ الموت ليس بعدم محض، وإنّما هو انتقال من حال إلى
حال، ويدلّ على ذلك: أنّ الشهداء بعد قتلهم وموتهم أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين مستبشرين،
وهذه صفة الأحياء في الدنيا، وإذا كان هذا في الشهداء كان الأنبياء بذلك أحقّ وأولى،
مع أنّه قد صحّ عن النبيّ أنّ الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وأنّ النبي قد اجتمع بالأنبياء
ليلة الإسراء في بيت المقدس وفي السماء وخصوصاً بموسى، وقد أخبرنا بما يقتضي أن
الله تبارك وتعالى يردّ عليه روحه حتّى يردّ السلام على كل من يسلم عليه، إلى غير ذلك
ممّا يحصل من جملته القطع بأن موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أنْ غُيّبوا عنّا بحيث
لا ندركهم، وإنْ كانوا موجودين أحياء، وذلك كالحال في الملائكة، فإنّهم موجودون أحياء
ولا يراهم أحد من نوعنا<([426]).
وقال السيوطي: >حياة النبي صلى الله عليه وسلم في قبره هو وسائر
الأنبياء معلومة عندنا علماً قطعياً؛ لما قام عندنا من الأدلة في ذلك وتواترت به
الأخبار الدالة على ذلك<([427]).
وقال السخاوي بعد أن ذكر عدّة من الأحاديث النبويّة
حول الصلاة والسلام على النبي’ وبلوغ النبيّ ذلك، بل وردّه السلام وشفاعته لمن
يفعل ذلك بما نصّه: >نحن
نؤمن ونصدّق بأنّه صلّى الله عليه وسلّم حيّ يرزق في قبره، وأنّ جسده الشريف لا
تأكله الأرض، والإجماع على هذا<([428]).
ونقل الهيثمي في زوائده: عن أنس بن مالك، قال: قال
رسول الله’: >الأنبياء أحياء في قبورهم يصلّون<.
قال الهيثمي: >رواه
أبو يعلى والبزار ورجال أبي يعلي ثقات<([429]).
وقال المناوي: >وهو
حديث صحيح<([430]).
والحديث صحّحه الألباني
أيضاً([431]).
فحياة الأنبياء بعد موتهم وخروجهم من الحياة الدنيا
ممّا لا خلاف فيه, إلاّ أنّ البعض يتعلّل بأنّها حياة مجهولة لنا لا نعرف حقيقتها
وكنهها, يقول الألباني: >فرسول
الله صلى الله عليه و سلّم بعد موته حي أكمل حياة يحياها إنسان في البرزخ، ولكنها حياة
خاصة لا تشبه حياة الدنيا ولعلّ مما يشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه و سلم: (ما من
أحد يسلّم علي إلا ردّ الله عليّ روحي حتّى أردّ عليه السلام)، وعلى كلّ حال فإنّ حقيقتها
لا يدريها إلا الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك فلا يجوز قياس الحياة البرزخية أو الحياة
الأخروية على الحياة الدنيوية، كما لا يجوز أن تعطى واحدة منها أحكام الأخرى، بل لكلّ
منها شكل خاص وحكم معين ولا تتشابه إلا في الاسم، أمّا الحقيقة فلا يعلمها إلاّ الله
تبارك وتعالى<([432]).
وسيأتي ما يتعلق بهذا
الكلام في النقطة التالية، وسنعرف أنّ طبيعة الحياة الثابتة لهم يتحقق معها معنى
التوسّل المذكور.
الأمر الثاني: الأنبياء
والأولياء يسمعون وقادرون على فعل الأشياء
وأمّا الثاني: وهو أنّ الأنبياء
والأولياء في تلك الحياة يسمعون وقادرون على فعل بعض الأشياء.
وهنا يمكن القول إنّ
سمعهم وقدرتهم على الفعل ملازم لكونهم أحياء في تلك الدار, فلا نحتاج معها إلى
دليل آخر.
إلا أنّه قد يجاب على ذلك: بأنّ نفس ثبوت الحياة
للأنبياء والأولياء في تلك الدار بنحو مجمل غير كاف في إثبات قدرتهم على فعل بعض
الاشياء من قبيل إمكان توسطهم بالدعاء والاستغفار, فإنّ تلك الحياة مجهولة لا نعرف
كنهها ولا حقيقتها.
فلا بدّ من إثبات أنّهم يسمعون الكلام أوّلاً،
وبإمكانهم فعل بعض الأمور كالدعاء والاستغفار ثانياً, وهنا يمكن أن نبرز عدّة
أدلّة على ذلك.
الأدلة على أنّ الأنبياء والأولياء يسمعون وقادرون على الفعل
الدليل الأوّل: الآيات القرآنية المباركة
الواردة في حق الشهداء؛ مثل قوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ
بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا
هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ
لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}([433]).
فالآيات الكريمة، بعد أن أثبتت أنّ الشهداء أحياء؛
أثبتت لهم عدّة من الآثار, مثل كونهم: يُرزقون، ويفرحون بما آتاهم الله من فضله،
ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم, ويستبشرون بنعمة الله. وهذه آثار مشابهة لآثار
الحياة الدنيا, لذا قرأنا فيما سبق ما نقله ابن القيّم مقرّاً به, عن القرطبي عن
شيخه, قال: >وهذه صفة الأحياء في الدنيا، وإذا كان
هذا في الشهداء كان الأنبياء بذلك أحقّ وأولى< فهذه الآثار تدلّك على أنّ الحياة البرزخيّة هي
من نوع مشابه لهذه الحياة, وأنّ الموت انتقال من دارٍ مشاهدةٍ إلى دارٍ غير
مشاهدة, وهو ما صرّح به شيخ القرطبي ـ على ما تقدّم نقله من القرطبي وابن القيّم ـ
حينما قال: >...بأن موت الأنبياء إنّما هو راجع إلى
أن غُيبوا عنا بحيث لا ندركهم وإن كانوا موجودين أحياء، وذلك كالحال في الملائكة فإنهم
أحياء موجودون ولا نراهم<([434]), ولعلّ
قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ
بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ}([435]) فيه إشارة
واضحة إلى هذا المعنى, فالحياة ثابتة غير متغيّرة،
إلاّ أنّ شعورنا بها غير متحقق، لأنّهم في دار أخرى, وهي دار البرزخ, وهذه الدار
يمكن التعرف عليها من خلال ما ينكشف لنا من آثارها.
فثبت من خلال الآيات أعلاه: أنّ لحياة البرزخ آثاراً
مشابهة للحياة الدنيا؛ كالرزق والفرح والاستبشار, ومن كان حاله هكذا فليس عصيّاً
عليه أن يدعو الله ويستغفر للمتوسلين.
الدليل الثاني: حديث
الأنبياء أحياء في قبورهم
الدليل الثاني: وهو الحديث الصحيح المتقدّم، عن
أنس عن النبي’: >الأنبياء أحياء في قبورهم يصلّون<.
وفي صحيح مسلم: عن أنس عن
النبي’: >مررت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو
قائم يصلّى في قبره<([436]).
فهذان الحديثان،
وغيرهما ممّا في الباب، يثبتان أثراً آخر من آثار الحياة البرزخية، وهو الصلاة,
وهو أثر متوافق مع آثار الحياة الدنيويّة, فكما أنّ الأنبياء في الحياة الدنيا
يصلّون لله, فهم كذلك في دار البرزخ, ولم يبيّن النبيّ’ أنّ هذه الصلاة مجهولة
الحقيقة وغير معروف كنهها, بل ذكرها للناس من دون تقييد بأي شيء, وحقّ الألفاظ أن
تحمل على معانيها الظاهرة ما لم يكن هناك مانع من ذلك, وفي المقام لا نرى دليلاً
من عقل أو نقل يخالف ذلك؛ لأنّ الكون وخلقه بأجمعه أمر غيبي لا نعرفه إلا من خلال
الآثار, ومن خلال ما عرفناه من الشارع نفسه, فحينما يخبرنا الشارع بأنّ الأنبياء
أحياء ويصلّون في قبورهم فوظيفتنا قبول ذلك والتسليم به.
والصلاة تشمل الدعاء
والاستغفار كما لا يخفى.
الدليل الثالث: حديث رد
الله علي روحي
الدليل الثالث: وهو ما ورد عن أبي هريرة, عن
رسول الله’ أنّه قال: >ما من
أحد يُسلّم عليّ إلا ردّ الله عليّ روحي حتّى أردّ عليه السلام<([437]).
قال النووي: >رواه أبو داود بإسناد صحيح<([438]).
وهذه الرواية تثبت صريحاً أنّ النبي’يردّ السلام على
جميع من سلّم عليه, ورد السلام أثر آخر من آثار الحياة, وفعل مشابه لأفعال الحياة
الدنيا, فالرواية تتضمن كونه حيّاً وتدل على قيامه بفعل ردّ السلام، ومن يسمع
السلام ويردّه يمكنه أن يدعو للمؤمنين ويستغفر لهم([439]).
وقد اتفق المسلمون بكافّة
انتماءاتهم على السلام على النبي’ في التشهد الأخير من الصلاة, بقولهم: >السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته<، فالسلام هنا بصيغة
الخطاب للنبي’, فلو كان النبي’ لا يضرّ ولا ينفع ولا يسمع ولا يبلغه السلام لكان
ذلك لغواً لا يأمر الله به، ولا يفعله العقلاء.
الدليل الرابع: حديث صلاتكم معروضة علي
الدليل الرابع: وهو ما أخرجه الحربي عن أوس
بن أوس عن النبي’، قال: >أكثروا
عليّ من الصلاة يوم الجمعة فإنّ صلاتكم معروضة عليّ. قالوا: كيف تعرض عليك وقد
أرمت. قال: إنّ الله تعالى حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء<([440]).
وقد أخرجه أبو داود([441])
والنسائي([442]) وابن
ماجة([443]) والحاكم([444]) وغيرهم,
بزيادة في أوّله وهي: >إنّ
من أفضل أيامكم يوم الجمعة: فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة،
فأكثروا علي من الصلاة فيه...<.
قال النووي: >حديث أوس بن أوس هذا صحيح، رواه أبو داود والنسائي
وغيرهما بأسانيد صحيحة<([445]).
وقال الحاكم: >هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه< ووافقه الذهبي([446]).
وقال الألباني: >إسناده صحيح<([447]).
والرواية تثبت أنّ النبي’ يسمع
الصلاة وأنّ له شعوراً وإدراكاً في قبره، وإلاّ فلا معنى لعرض الصلاة على من لا
يدرك معناها ولا يشعر بها, وهذا الإدراك والشعور هو أثر آخر من آثار الحياة
الدنيا, خصوصاً أنّ النبي’ علّل ذلك بأنّ الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء, وكأنّه
يريد القول بأنّه حيٌّ كما كان في الحياة الدنيا بروحه وبدنه, وحيث إنّ المتبادر إلى
الذهن هو فناء بدنه في القبر, لذا سألوه عن ذلك, فأجابهم بأنّ الأرض لا تأكل أجساد
الأنبياء, ولم يكن هناك سؤال عن الروح بعد التسليم بها, فالسؤال كما يبدو كان
ناظراً إلى أنّ عرض الصلاة هل يكون على الروح والجسد أم يكون مختصاً بالروح فقط
بتصوّر أنّ الجسد سوف يبلى, فأجابهم ببقاء الجسد أيضاً.
وبما ذكرناه صرّح العلامة علي القاري حيث قال:
>إنّ الصحابة رضي الله عنهم سألوا بيان كيفيّة العرض،
بعد اعتقاد جواز أن العرض كائنٌ لا محالة لقول الصادق: ( فإن صلاتكم معروضةً عليّ)،
لكن حصل لهم الاشتباه أن العرض هل هو على الروح المجرّد أو على المتصل بالجسد،
وحسبوا أنّ جسد النبيّ كجسد كلّ أحد...<([448]).
ويحتمل أن يكون الصحابة غفلوا عن مسألة إمكان عرض
الصلاة على الروح وتخيّلوا أنّ العرض لا بدّ أن يكون على الجسد وهو سيفنى, فرفع
النبي’ عنهم تلك الشبهة وبيّن لهم أنّ أجساد الأنبياء باقية لا تفنى.
وكيف ما كان؛ فالرواية
تثبت حياة النبي’ وسماعه لصلوات الناس عليه عند عرضها عليه, وإدراكه وشعوره بها,
ومن كانت حاله هكذا فلا مانع من طلب الدعاء والاستغفار منه، كما لا يخفى.
الدليل الخامس: الأخبار الواردة في سماع سائر الموتى وعرض
الأعمال عليهم
وهي روايات وآثار كثيرة
ومتنوعة:
فقد ورد أنّ سائر الموتى يسمعون السلام، كما أخرج
مسلم في صحيحه عن أبي هريرة, قال: >إنّ
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى المقبرة فقال: السلام عليكم دار قوم
مؤمنين, وإنّا إنْ شاء الله بكم لاحقون<([449]).
ولا معنى للسلام عليهم
إذا كانوا لا يسمعون ولا يشعرون بذلك.
وأخرج ابن عبد البر, عن
ابن عباس، قال: >قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
ما من أحد مرّ بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فسلّم عليه إلاّ عرفه وردّ
عليه السلام<([450]).
والحديث صحّحه عبد الحق
الاشبيلي وابن عبد البر والحافظ بن رجب وغيرهم, ذكر ذلك السيّد السقاف وفصّل القول
في صحّة الحديث وبيان مخارجه, فليراجع([451]).
وقال ابن كثير بعد أن ذكر تصحيح ابن عبد البرّ
للحديث أعلاه: >وثبت عنه صلّى الله عليه وسلم أنّ
الميت يسمع قرع نعال المشيعين له، إذا انصرفوا عنه، وقد شرع النبيّ صلّى الله عليه
وسلّم لأمّته إذا سلّموا على أهل القبور أن يسلّموا عليهم سلام من يخاطبونه فيقول
المسلم: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل، ولولا هذا الخطاب
لكانوا بمنزلة خطاب المعدوم والجماد، والسلف مجمعون على هذا، وقد تواترت الآثار
عنهم بأنّ الميت يعرف بزيارة الحي له ويستبشر< ثم ذكر مجموعة من الآثار
في ذلك, وقال بعدها: >وهذا
باب فيه آثار كثيرة عن الصحابة، وكان بعض الأنصار من أقارب عبد الله بن رواحة
يقول: اللهم إني أعوذ بك من عمل أخزى به عند عبد الله بن رواحة, كان يقول ذلك بعد
أن استشهد عبد الله. وقد شرع السلام على الموتى، والسلام على من لم يشعر ولا يعلم
بالمسلِّم محال. وقد علّم النبي صلى الله عليه وسلّم أمته إذا رأوا القبور أن
يقولوا: سلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم
الله المستقدمين منّا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية. فهذا السلام
والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب ويعقل ويرد وإن لم يسمع المسلِّم الرد، والله
أعلم<([452]).
وقد ذكر ابن القيّم في
كتابه (الروح) نحو الكلام أعلاه إن لم نقل عينه([453]).
وقال ابن تيمية معلّقاً
على رواية تعليم النبي ’ أمّته كيفية زيارة القبور: >فهذا
خطاب لهم, وانما يخاطب من يسمع<([454]).
كما ورد أنّ الأعمال
تعرض على الموتى أيضاً، فقد أخرج الحاكم وصحّحه عن النعمان بن بشير, قال: >سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: إلا انه لم
يبق من الدنيا إلا مثل الذباب تمور في جوّها، فالله في إخوانكم من أهل القبور فانّ
أعمالكم تعرض عليهم<([455]).
وكان أبو الدرداء يقول عند سجوده: >اللهمّ إنّي أعوذ بك أنْ يمقتني خالي
عبد الله بن رواحة إذا لقيته<([456]).
قال ابن كثير: >وقد
ورد: أنّ أعمال الأحياء تعرض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ، كما قال
أبو داود الطيالسي: حدّثنا الصلت بن دينار, عن الحسن, عن جابر بن عبد الله قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: إن أعمالكم تعرض على أقربائكم وعشائركم
في قبورهم، فإن كان خيراً استبشروا به، وإن كان غير ذلك قالوا: اللهمّ ألهمهم أن
يعملوا بطاعتك. وقال الإمام أحمد: أنبانا عبد الرزاق عن سفيان عمّن سمع أنساً يقول:
قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إنّ أعمالكم تُعرض على أقاربكم وعشائركم من
الأموات فإن كان خيراً استبشروا به وإن كان غير ذلك قالوا: اللهمّ لا تمتهم حتّى
تهديهم كما هديتنا<([457]).
فنلاحظ هنا أنّ الأعمال تعرض عليهم, وهم يستبشرون
بالأعمال الصالحة, ويدعون للأحياء إن كانت أعمالهم غير صالحة.
الأدلّة على جواز طلب الحاجة أو الاستغفار
من الأنبياء والأولياء
بعد أن ثبت أن الأنبياء
والأولياء أحياء عند ربهم، وأنّهم قادرون على فعل بعض الأشياء، فلا مانع حينئذٍ من
استغفارهم للمؤمنين وقضاء حاجتهم بدعاء الله والطلب منه, ونفس ما ذكرناه من
الروايات أعلاه تدلّل على المطلوب, فالنبي يصلي ويناجي ربه ويسمع السلام والصلاة
عليه, فلا مانع من أن يدعو لمن يسأله ذلك, خصوصاً قد تقدم الاتفاق على جواز طلب
الدعاء من الحيّ، والأنبياء أحياء من هذه الجهة بلا كلام، على أنّه يوجد في المقام
أدلّة أخرى, منها:
الدليل
الأول: التمسّك بإطلاق آية استغفار النبي’
وهو قوله تعالى: {وَلَوْ
أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ
لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}([458])، فالآية
أطلقت ولم تقيّد المجيء في حال حياة الرسول’, وإنّما يعدل إلى التقييد في الحياة
دون الإطلاق فيما إذا كان هناك ما يمنع من التمسّك بالإطلاق, والمانع هو كون
النبي’ ميتاً لا ينفع ولا يضر, ومن خلال ما تقدّم ثبت أنّ هذا المانع غير موجود
إلاّ في ذهن قائليه فقط بلا دليل ولا حجّة على ذلك, بل إنّ الدليل على حياته وكذا
صلاته بعد الممات وردّه السلام وبلوغه الصلاة عليه مّما لم ينازع فيه أحد, وحينئذٍ
تبقى الآية على إطلاقها شاملة لحياة النبي’ ولما بعد مماته([459]), إلا إذا
ادّعى الوهابية بأنّ النبي’ بعد مماته ليس بنبيٍّ! فلا تشمله الآية, وهو كفر بلا
كلام.
وما يقال: من أنّ الظرف >إذ<
يفيد الماضي بالخصوص، فيمتنع دلالة الآية على العموم، فلا تكون شاملة لما بعد ممات
النبي’، فهذا غير صحيح؛ فـإن الظرف >إذ< كما يفيد الماضي فهو يفيد المستقبل أيضاً، وهو
بذلك يشابه الظرف >إذا< فقد قالوا: إنه يفيد الماضي لكن لم يمنع من
استعماله في المستقبل، لأن دلالته على الماضي غالبة لا منحصرة، ولهذا استعمل في
الماضي كما في آيات قرآنية متعددة من قبيل قوله تعالى: {حَتَّى
إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ}([460])وقوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ}([461])وقوله:
{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أو لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا}([462]).
وفي المقام يقال أيضاً:
إن الظرف >إذ<
وإن كانت دلالته على الماضي لكن ذلك لا يمنع من استعماله في المستقبل؛ لعدم انحصار
فائدته في الماضوية، بل هي دلالة غالبية؛ لذلك فقد استعمل كثيراً في المستقبل، كما
في آيات قرآنية عدّة، من قبيل قوله تعالى: {وَلَوْ
تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ
بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}([463]). وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ
هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ}([464]). وقوله تعالى: { وَلَوْ
تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ}([465]).
أضف إلى ذلك: فإنّ النكرة إذا وقعت في سياق الامتنان
أفادت العموم([466])؛ لأنّ كمال
الامتنان إنما يتحقق مع العموم لا الاقتصار على بعض الأفراد، فالنكرة في سياق
الإثبات وإن كان العموم يمتنع معها، لكن مع قرينة الامتنان تدل على العموم؛ ومن هنا
ذكروا في قوله تعالى: {وأنزلنا
من السماء ماءً طهوراً}([467]): إن كل ماء
ينزل من السماء فهو طاهر.
وكذلك الفعل أيضاً إذا وقع في سياق الامتنان فهو
يفيد العموم؛ لنفس العلة، يقول الهيتمي: >والفعل
وإن كان في حيز الإثبات، فلا عموم له، لكنه في مقام الامتنان للعموم، كما قالوا به
في النكرة في سياق الامتنان؛ إذْ الفعل والنكرة المثْبتَة من وادٍ واحد عموماً وعدمه<([468]).
وهنا؛ حيث إن الآية في معرض الامتنان حتماً، فالمناسب
بلحاظ الفعل {جاءوك} أن كل من جاء النبي ـ سواء في حياته أو بعد مماته ـ
واستغفر الله، ثم استغفر له الرسول، فسوف يجد الله تعالى تواباً رحيماً، وهذا هو
الموافق لكامل الامتنان.
العموم الذي نتمسّك به غير منحصر بفهمنا للآية؛
بل عليه مؤيدات عدّة, منها:
الأوّل: فَهْمُ الصحابي ابن مسعود:
أخرج الحاكم: عن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود
عن أبيه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: >إنّ في
سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها: {إِنَّ اللَّهَ لَا
يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ
لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} و: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ
عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا}، و: {إِنَّ
اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ
يَشَاءُ}، و: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ
فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ
تَوَّابًا رَحِيمًا} و: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أو يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ
يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} قال عبد الله: ما يسرني أن
لي بها الدنيا وما فيها<.
قال
الحاكم: >هذا إسناد صحيح إن كان عبد الرحمن سمع من أبيه، فقد اختلف
في ذلك<.
ووافقه الذهبي([469]).
وقال الهيثمي: >رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح<([470]).
وأمّا مسألة سماع عبد الرحمن من أبيه, فقد قال الألباني: >فقد ثبت سماعه منه بشهادة
جماعة من الأئمة، منهم سفيان الثوري وشريك القاضي وابن معين والبخاري وأبو حاتم، وروى
البخاري في(التاريخ الصغير) بإسناد لا بأس به عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله
بن مسعود عن أبيه قال: لما حضر عبد الله الوفاة، قال له ابنه عبد الرحمن: >يا أبت
أوصني، قال: ابك من خطيئتك< فلا عبرة بعد ذلك بقول من نفى سماعه منه، لأنه لا حجة
لديه على ذلك إلا عدم العلم بالسماع، و من علم حجّة على من يعلم<([471]).
وقال العلامة أحمد محمد
شاكر: >والراجح عندي أنّه سمع منه, وهو الذي رجّحه البخاري
في التاريخ الصغير...<([472]).
وأمّا دلالة الخبر على عموم الآية؛ فمن الواضح أنّ
ابن مسعود ذكر آيات تعطي قواعد كليّة تُبشّر الإنسان بالمغفرة والتوبة، وهذه
القواعد غير مختصة بوقت دون وقت بل هي شاملة لأمّة محمد’ إلى يوم القيامة, وقد ساق
هذه الآية ضمن تلك الآيات العامّة، ممّا يدلّل على فهمه العموم منها, أضف إلى ذلك:
أنّ التحديث جاء بعد عهد رسول الله’, فذكر هذه الآية من ابن مسعود، مع كونها خاصة،
وغير شاملة لما بعد وفاة النبي’ لا فائدة فيه.
وكلام ابن
مسعود حجة في المقام؛ لأنّه شهد الوحي والتنزيل، وهو أعلم من هؤلاء المعاصرين.
والذي دعا البعض إلى تخصيصها بزمن الحياة هو التأثر
بالمسبَّقات الذهنية, وفهمهم للدليل على ضوء المعتقد, إلا أنّ اللازم على المسلم
هو بناء العقيدة على ضوء القرآن والأحاديث الصحيحة, لا تأويل القرآن والأحاديث
وتقييدها على ضوء العقيدة المسبّقة, لذا فإنّ الفهم السليم لهذه الآية هو عمومها
وشمولها لحال الحياة والوفاة.
ومن هنا نرى أنّ الكثير من علماء أهل السنّة
تعاملوا معها معاملة العموم، ولم يقيّدوها بزمن حياة النبي’، كما سيأتي.
المؤيد الثاني: ذكر بعض المفسرين قصّة مجيء
الأعرابي إلى قبر النبي’، فنودي من القبر أنّه قد غفر لك, في ذيل الآية الشريفة,
ممّا يكشف عن تبنيهم جواز طلب الدعاء والاستغفار من النبي’ في حال مماته، وأنّ
الآية غير مختصة بحال الحياة.
أمّا القصّة؛
فهي على ما جاء في كتاب (تنوير الحلك في إمكان رؤية النبي والملك) للسيوطي: قال
ابن السمعاني في كتاب (الدلائل): أنا أبو بكر هبة الله بن الفرج أنا أبو القاسم
يوسف بن محمد بن يوسف الخطيب أنا أبو القاسم عبد الرحمن بن عمر بن تميم المؤدب ثنا
علي بن إبراهيم بن علان أنا علي بن محمد بن علي ثنا أحمد بن الهيثم الطائي حدثني
أبي عن أبيه ابن سلمة بن كعسل عن أبي صادق عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه،
قال: >قدم علينا أعرابي، بعد ما دفنا رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على قبر النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم
وحثا من ترابه على رأسه، وقال: يا رسول الله، قلتَ فسمعنا قولك ووعيتَ عن الله
تعالى فوعينا عنك، وكان فيما أنزل الله تعالى عليك: {ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم
جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً}، وقد ظلمتُ
نفسي وجئتك لتستغفر لي فنودي من القبر أنّه قد غفر لك<([473]).
وقد ورد ما يشبه هذه
القصّة من طريق العتبي, وهي قصّة مشهورة رواها العلماء في كتبهم مستحسنين ذكرها
عند زيارة القبر النبوي الشريف, وسيأتي ذكرها في كلمات ابن كثير والنووي بعد قليل.
وأمّا العلماء الذين
استشهدوا بالقصّة فهم من كبار علماء أهل السنّة، منهم:
1ـ الثعلبي في تفسيره مقتصراً في تفسير الآية:{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ
فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا
رَحِيمًا}([474])، على
الرواية المتقدمة([475]).
2ـ القرطبي في تفسيره
في ذيل نفس الآية: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ
تَوَّابًا رَحِيمًاً}.
حيث ذكر الرواية أعلاه، ولم يذكر شيئاً آخر في تفسير الآية([476]).
3ـ
أبو حيّان الأندلسي, حيث ذكر هذه الرواية بعد تفسيره للآية الكريمة([477]).
4ـ
ابن كثير الدمشقي, حيث قال في تفسيره عقب الآية: >يرشد تعالى العصاة
والمذنبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان أن يأتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم،
فيستغفروا الله عنده ويسألوه أن يستغفر لهم، فإنهم إذا فعلوا ذلك تاب الله عليهم
ورحمهم وغفر لهم ولهذا، قال:{لو جدوا الله تواباً رحيماً}، وقد ذكر جماعة منهم
الشيخ أبو منصور الصباغ في كتابه (الشامل) الحكاية المشهورة عن العتبي، قال: كنت
جالساً عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أعرابي، فقال: السلام عليك يا رسول
الله سمعت الله يقول: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم
الرسول لوجدوا الله توابا رحيما} وقد جئتك مستغفراً لذنبي مستشفعاً بك إلى ربي، ثم
أنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه |
|
فطاب من طيبهن القاع والاكم |
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه |
|
فيه العفاف وفيه الجود والكرم |
ثم
انصرف الأعرابي، فغلبتني عيني، فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النوم،
فقال: يا عتبي، الحَقْ الأعرابي فبشّره أن الله قد غفر له<([478]).
ويبدو أنّ قصّة العتبي
التي استشهد بها ابن كثير هي غير قصة ذلك الأعرابي التي تحمل المعنى نفسه, وما يهمّنا
هنا هو ذكرهم لهكذا قصص في ذيل تلك الآية, وهو شاهد قوي على اعتقادهم العموم وشمول
الآية لحالة وفاة النبي’.
المؤيد الثالث: استحسان العلماء قراءة هذه
الآية عند زيارة قبر النبي’, وهذا يكشف أيضاً عن تبنيهم شمول الآية لحالة ما بعد
الموت, وهم عدد كثير من مختلف المذاهب الفقهيّة، منهم:
1ـ عبد الله بن قدامة الحنبلي: حيث ذكر أنّ من جملة
ما يفعله الزائر عند القبر النبوي الشريف أنْ يقول: >اللهم
انك قلت وقولك الحق: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم
الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً}، وقد أتيتك مستغفراً من ذنوبي، مستشفعاً بك إلى
ربّي، فأسألك يا رب أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته<([479]).
2ـ عبد الرحمن بن قدامة الحنبلي: حيث ذكر نحو ما
تقدّم([480]).
3ـ محمد بن عبد الله السامري الحنبلي في كتاب (المستوعب):
في باب زيارة قبر الرسول’: حيث جاء في جملة ما ذكره من أفعال الزيارة أن تقول وأنت
متوجها للقبر الشريف: > اللهم
إنك قلت في كتابك لنبيك عليه السلام: {ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا
الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً} وإنّي قد أتيتك تائباً
مستغفراً، فأسألك أن توجب لي المغفرة، كما أوجبتها لمن أتاه في حياته، اللهم إني
أتوجه إليك بنبيك بنيّ الرحمة, يا رسول الله إنّي أتوجه بك إلى ربي ليغفر لي
ذنوبي, اللهمّ إنّي أسألك بحقّه أن تغفر لي ذنوبي...<([481]).
4-
الإمام الكبير محيي الدين النووي الشافعي: حيث ذكر في (المجموع) وهو يشرح كيفية زيارة
قبر النبي’:
>أنّ أحسن ما يقول الزائر ما حكاه الماوردي والقاضي أبو الطيب وسائر أصحابنا عن
العتبي مستحسنين له، قال: كنت جالساً عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء
أعرابي، فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول: {ولو أنّهم إذ ظلموا
أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً} وقد
جئتك مستغفراً من ذنبي مستشفعاً بك إلى ربي، ثم أنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه |
|
فطاب من طيبهن القاع والاكم |
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه |
|
فيه العفاف وفيه الجود والكرم |
ثم
انصرف فحملتني عيناي فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال: يا عتبى، الحَقْ
الأعرابي فبشّره بأن الله تعالى قد غفر له<([482]).
5ـ أبو بكر ابن السيد محمد شطا الدمياطي الشافعي:
قال في كلامه حول زيارة القبر الشريف: >ثم
يرجع إلى موقفه الأول قبالة وجهه الشريف، فيقول: الحمد لله رب العالمين، اللهم صلّ
على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد, السلام عليك يا سيدي يا رسول الله, إنّ الله
تعالى أنزل عليك كتاباً صادقاً، قال فيه: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك
فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً}، وقد جئتك مستغفراً
من ذنبي مستشفعاً بك إلى ربي...<([483]).
6ـ الشرنبلالي الحنفي
في (مراقي الفلاح): قال في زيارة قبر النبي’: >لما
كانت زيارة النبي’ من أفضل القرب وأحسن المستحبات, بل تقرب من درجة ما لزم من
الواجبات فإنّه حرّض عليها وبالغ في الندب إليها...<، وقال: >ومما
هو مقرر عند المحققين أنّه’ حي يرزق ممتَّع بجميع الملاذ والعبادات غير أنّه حجب
عن أبصار القاصرين عن شريف المقامات, ولما رأينا أكثر الناس غافلين عن أداء حق
زيارته, وما يسنّ للزائرين من الكليات والجزئيات, أحببنا أن نذكر بعد المناسك
وأدائها ما فيه نبذة من الآداب تتميماً لفائدة الكتاب فنقول: ينبغي لمن قصد زيارة
النبي’ أن يكثر من الصلاة عليه فإنه يسمعها وتبلغ إليه...<.
وذكر مجموعة
من الأفعال والأدعية، ومنها أن تقول: >يا
رسول الله، نحن وفدك وزوّار حرمك تشرفنا بالحلول بين يديك، وقد جئناك من بلاد
شاسعة وأمكنة بعيدة نقطع السهل والوعر بقصد زيارتك لنفوز بشفاعتك والنظر إلى مآثرك
ومعاهدك والقيام بقضاء بعض حقك والاستشفاع بك إلى ربنا؛ فإن الخطايا قد قصمت
ظهورنا، والأوزار قد أثقلت كواهلنا، وأنت الشافع المشفع، الموعود بالشفاعة العظمى،
والمقام المحمود، وقد قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ
أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ
لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} وقد جئناك ظالمين لأنفسنا مستغفرين
لذنوبنا فاشفع لنا إلى ربك، وأسأله أن يميتنا على سنتك، وأن يحشرنا في زمرتك، وأن
يوردنا حوضك وأن يسقينا بكأسك غير خزايا ولا نادمين، الشفاعة، الشفاعة يا رسول
الله...<([484]).
7ـ محمد بن محمد العبدري المالكي: قال في زيارة
النبي’: >فالتوسل به عليه الصلاة والسلام هو محلّ حط أحمال الأوزار
وأثقال الذنوب والخطايا؛ لأن بركة شفاعته عليه الصلاة والسلام وعظمها عند ربه لا يتعاظمها
ذنب؛ إذ أنّها أعظم من الجميع فليستبشر من زاره ويلجأ إلى الله تعالى بشفاعة نبيه عليه
الصلاة والسلام من لم يزره، اللهم لا تحرمنا من شفاعته بحرمته عندك، آمين يا رب العالمين،
ومن اعتقد خلاف هذا فهو المحروم، ألم يسمع قول الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ
إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ
لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}، فمن جاءه ووقف ببابه وتوسل
به وجد الله تواباً رحيماً؛ لأن الله عز وجل منزه
عن خلف الميعاد، وقد وعد سبحانه وتعالى بالتوبة لمن جاءه ووقف ببابه وسأله واستغفر
ربه، فهذا لا يشك فيه ولا يرتاب إلا جاحد للدين معاند لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم،
نعوذ بالله من الحرمان<([485]).
فهذه مجموعة من أقوال
بعض العلماء أوردناها على سبيل التأييد لما ذهبنا إليه, واستقصائهم وبيان تفصيل
جميع كلماتهم يحتاج إلى أكثر من مجلد, وكتب الفقه للمذاهب المختلفة موجودة متيسر
الحصول عليها, وبإمكان القارئ الكريم مراجعتها ليتحقق من ذلك بنفسه, وليتيقن بأنّ
المخالف هم الفرقة الوهابية فقط.
المؤيّد الرابع: ذكْر الإمام مالك لهذه الآية عند مناظرته لأبي جعفر
المنصور حول التوسّل بالنبي’: أخرج القاضي عياض بسنده عن ابن حميد, قال: >ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين، لا ترفع صوتك في هذا المسجد،
فإنّ الله تعالى أدّب قوماً، فقال: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ
النَّبِيِّ} ومدح قوماً، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ
رَسُولِ اللَّهِ} وذمّ قوماً، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ} وإن حرمته
ميتاً كحرمته حياً، فاستكان لها أبو جعفر، وقال: يا أبا عبد الله، أستقبل القبلة
وأدعو أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ولِمَ تصرف وجهك عنه وهو
وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة؟ بل استقبله
واستشفع به فيشفِّعه الله, قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ} الآية<([486]).
وهذه القصّة صحيحة السند، بالرغم من إنكار ابن تيمية
وتكذيبه لها، قال ابن حجرالهيتمي: >وإنکار
ابن تيمية لهذه الحكاية عن مالك؛ حتى لا يردّ إنكاره التوسل والتشفع به’، من
خرافاته وتهوراته، كيف وقد جاءت عنه بالسند الصحيح الذي لا مطعن فيه!<([487]).
وقال الزرقاني ردّا على تكذيب ابن تيمية للقصّة:
>هذا تهوّر عجيب, فإنّ الحكاية رواها أبو الحسن علي بن
فهر في كتابه (فضائل مالك) بإسناد لا بأس به, وأخرجها القاضي عياض في الشفاء من
طريقه عن شيوخ عدّة من ثقات مشايخه, فمن أين أنّها كذب, وليس في إسنادها وضّاع ولا
كذّاب<([488]).
وقال السمهودي: >وقال عياض في الشفاء بسند جيّد, عن ابن حميد أحد
الرواة عن مالك<
وساق القصّة([489]).
وقال الشيخ يوسف بن
إسماعيل النبهاني: >ذكره
القاضي عياض في الشفاء وساقه بإسناد صحيح...<([490]).
وعلى أيّة حال؛ فنحن لم
نسق القصّة كدليل مستقل لإثبات عموم الآية, بل هي أحد الشواهد على ذلك، كما هو
واضح؛ فالنقاش في سندها في المقام ليس له أثر كبير.
الدليل الثاني :حديث عرض
الاعمال على النبي’ واستغفاره للمذنبين
وهو ما أخرجه البزار في مسنده، قال: >حدثنا يوسف بن موسى قال: نا عبد المجيد بن عبد العزيز
بن أبي رواد عن سفيان عن عبد الله بن السائب عن زاذان عن عبد الله عن النبي صلّى الله
عليه وسلّم، قال: إنّ لله ملائكة سيّاحين يبلّغوني عن أمّتي السلام، قال: وقال رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم: حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم، ووفاتي خير لكم تُعرض
عليّ أعمالكم فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما رأيت من شرّ استغفرت الله لكم<([491]).
قال الهيثمي: >رواه البزار ورجاله رجال الصحيح<([492]).
وقال الزرقاني: >رواه البزار بإسناد جيد<([493]).
وقال الحافظان العراقيان: زين الدين العراقي وابنه
ولي الدين: >وروى أبو بكر البزار في مسنده
بإسناد جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه<([494])،
ثم ذكرا الحديث.
وقال السيوطي: >أخرج
الحارث في مسنده وابن سعد والقاضي إسماعيل عن بكر بن عبد الله المزني، قال: قال:
رسول الله صلّى الله عليه وسلم: حياتي خير لكم وموتي خير لكم، تعرض عليّ أعمالكم، فما
كان من حسن حمدت الله عليه وما كان من سيء استغفرت الله لكم، وأخرج البزار بسند
صحيح من حديث ابن مسعود مثله<([495]).
وألّف الشيخ
عبد الله بن الصديق الغماري في خصوص هذا الحديث جزءاً سمّاه: (نهاية الآمال في شرح
وتصحيح حديث عرض الأعمال),
فالحديث صحيح ومعتبر.
تضعيف الألباني لجزء من حديث
عرض الأعمال
لكن الشيخ الألباني ضعّف قسماً من الحديث المروي وهو
خصوص قوله’: >حياتي خير لكم...< الخ، زاعماً أنه زيادة شاذّة على أصل الحديث
الذي رواه جمع من الثقات، متوهماً أن هذا القسم مع الأصل يشكّلان حديثاً واحداً لا
حديثين قد وردا بسند واحد، وحيث إن هذه الزيادة المزعومة لم تروَ إلاّ من جهة عبد
المجيد بن عبد العزيز، وهو متكلّم فيه من قِبَل حفظه، فتكون هذه الزيادة عندئذٍ
ساقطة لشذوذها([496]).
1ـ أنّ هذه ليست زيادة على أصل الحديث، كما توهّم
الألباني، بل هي حديث آخر معتبر وصحيح، ورد بنفس سند الحديث الأول, وورد أيضاً من
طرق أخرى موصولاً تارة، كما عن أنس([497])،
ومرسلاً أخرى، كما عن بكر بن عبد الله([498])،
مضافاً إلى أنّ لسانه ليس لسان زيادة، إذ لا توجد علاقة بينه وبين الحديث الأول,
فلا توجد مخالفة للثقات إذن.
وعبد المجيد، الذي تُكلّم فيه، هو من رجال مسلم
ورجال أصحاب السنن الأربعة، ووثقه أحمد وابن معين وأبو داود والنسائي([499]). فحديثه
معتبر, والألباني بنفسه يعترف بأنّ علّة الحديث هي المخالفة لحديث الثقات، ولولاها
لكان سند الحديث جيداً ([500]).
2ـ لو سلّمنا أنّها
زيادة وأنّ عبد المجيد متكلّم فيه من قبل حفظه, فهي زيادة صحيحة أيضاً؛ وذلك
لورودها من طريق آخر, فقد أخرج ابن سعد في الطبقات: >أخبرنا
يونس بن محمد المؤدب أخبرنا حماد بن زيد عن غالب عن بكر بن عبد الله، قال: >قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: حياتي خير لكم تحدَّثون ويحدَّث لكم، فإذا أنا متّ
كانت وفاتي خيراً لكم، تعرض عليّ أعمالكم، فإذا رأيتُ خيراً حمدت الله وإن رأيتُ
شرّاً استغفرت الله لكم<([501]).
وهذا السند صحيح, إلا
أنّه مرسل, فإنّ بكر بن عبد الله ثقة من التابعين وليس من الصحابة, وبقية رجاله
ثقات كما اعترف الألباني نفسه بذلك([502]).
وهذا السند المرسل الصحيح يعضد ذلك السند لو سلمنا
بوجود ضعف خفيف عند عبد المجيد, وهذا هو الذي تقتضيه القواعد الحديثيّة وهو الذي
يتّبعه الألباني في مبانيه، لا أن يضعّف المتصل بالمرسل، فهذا من غرائب التضعيف,
ولو بنينا علم الحديث على مثل هذه الاحتمالات لما بقي شيء.
فقول
الألباني: >فلعلّ هذا الحديث الذي رواه عبد المجيد
موصولاً عن ابن مسعود أصله هذا المرسل عن بكر، أخطأ فيه عبد المجيد فوصله عن ابن مسعود
ملحقاً إياه بحديثه الأول عنه. والله أعلم<([503]) ليس بصحيح,
ولا يعتدّ به، بل هو غريب جداً من الألباني؛ ضرورة عدم وجود أي مناسبة توجه هذا
الخطأ غير المبرر مطلقاً.
فالمرسل
الصحيح يقوي ذلك الحديث ويشهد له لا يضعِّفه, وكلمة >لعل< التي ذكرها الألباني لا تغني من الحق شيئاً.
فوجود الحديث من طرق أخرى يدلّ على أنّ عبد المجيد لم يُخطئ فيه.
3ـ أضف إلى ذلك، فإنّ
القرآن يشهد بصحّة الحديث, وذلك لتصريحه بشهادة النبي’ يوم القيامة على أمّته, من
قبيل قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كلّ اُمَّةٍ
بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً}([504]).
وقوله
تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كلّ اُمَّةٍ شَهِيداً
عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاء}([505]).
ومعلوم أنّ الشهادة تتوقف على علم ومعرفة
بالأعمال, فالرسول لا يمكن أن يكون شاهداً من دون أن يكون قد اطلع على تلك الأعمال
وشاهدها.
فالحديث صحيح معتبر،
ودلالته صريحة بأنّ الأعمال تعرض على النبي’ وأنّه يستغفر لأمّته([506]).
الدليل الثالث :تصريح
النبي’ بأنه يستجيب لعيسى
عن أبي هريرة أنّه سمع رسول الله صلّى الله عليه
وآله وسلم, قال: >والذي نفس أبي القاسم بيده لينزلنّ
عيسى بن مريم إماماً مقسطاً وحكماً عدلاً، فليكسرنّ الصليب ويقتلنّ الخنزير
وليصلحنّ ذات البين وليذهبن الشحناء وليعرضنّ المال، فلا يقبله أحدٌ، ثم لئن قام
على قبري، فقال: يا محمّد لأجبته<.
قال الهيثمي: >قلت: هو في الصحيح باختصار, رواه
أبو يعلي ورجاله رجال الصحيح<([507]).
وفي الرواية
دلالة واضحة على أنّ النبي’ يسمع ويجيب, ولا معنى هنا للقول بأنّه يسمع ويجيب
لعيسى فقط دون غيره, فالرواية تثبت أنّه حي ويسمع ويجيب, وحينئذٍ فلا مانع من طلب
الدعاء والحاجة والاستغفار منه, فإنّه يسمع ذلك وقادر على طلب حاجة المؤمن من الله
سبحانه وتعالى.
الدليل
الرابع: رواية مالك الدار
قال ابن أبي
شيبة: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن مالك الدار، قال وكان خازن عمر
على الطعام: >أصاب الناس قحط في زمن عمر، فجاء
رجل إلى قبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله! استسق لأمّتك فإنّهم
قد هلكوا، فأتى الرجل في المنام، فقيل له: ائت عمر فأقرئه السلام، وأخبره أنكم مسْقيّون،
وقل له: عليك الكيس! عليك الكيس! فأتى عمر فأخبره فبكى عمر، ثم قال: يا رب لا آلو
إلاّ ما عجزت عنه<([508]). والرواية صحيحة، ومحاولة تضعيفها بمالك الدار غير موفقة,
فمالك كان خازناً لعمر, وذكر ابن سعد أنّه كان معروفاً ([509])، وقال الخليلي: >تابعي قديم، متفق عليه, أثنى
عليه التابعون<([510]).
ولهذا قال ابن حجر:
>وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح
السمان عن مالك الداري...<([511]). وقال ابن
كثير: >وهذا إسناد صحيح<([512])،
وسيأتي اعتراف ابن تيمية بثبوته ضمن الدليل السادس حين نتعرض لاعترافاته لاحقاً.
فهذه الرواية إذن صريحة في الطلب من النبي’ بعد وفاته,
ولا يضرّ فيها عدم معرفة الرجل الذي جاء إلى القبر؛ وذلك لقبول عمر بذلك وبكائه
ولم يستشكل ولم يقل: إنّ النبي’ لا يضر ولا ينفع, بل قبل ذلك وبكى معرفة منه لمقام
النبي’, فالرواية صريحة في التوسل والاستغاثة بالنبي’ بعد وفاته.
الدليل
الخامس: مجيء الصحابي أبي أيّوب الأنصاري إلى قبر النبي’
أخرج أحمد والحاكم عن داود بن أبي صالح، قال: >أقبل مروان يوماً فوجد رجلاً واضعاً وجهه على القبر،
فقال أتدري ما تصنع؟ فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب، فقال: نعم، جئت رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم ولم آت الحجر، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: لا
تبكوا على الدين إذا وليه أهله ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله<([513]).
قال الحاكم: >هذا حديث
صحيح الإسناد و لم يخرجاه<.
وقال الذهبي: >صحيح<([514]). وقال حمزة
أحمد الزين: >إسناده صحيح<([515]).
وقد أُشكل على سند الحديث بأنّ داود بن أبي صالح
الحجازي مجهول, فقد سكت عنه ابن أبي حاتم([516])
وقال عنه الذهبي: لا يعرف([517]), وقال
ابن حجر: مقبول([518]).
فإن تمّ ذلك وقلنا إن سكوت ابن أبي حاتم لا يدلّ على
التوثيق([519])؛ فالسند
فيه ضعف خفيف يزول بوروده من وجه آخر, فقد ورد الحديث بطريق ليس فيه داود هذا, بل
من طريق المطلب بن عبد الله, وهو ثقة إلا أنّه يدلّس, فيرتفع الحديث بمجموع طريقيه
إلى الحسن لغيره.
وهذا الطريق أخرجه يحيى بن الحسن في أخبار المدينة،
قال: >حدثني عمر بن خالد، ثنا أبو نباتة، عن كثير بن زيد،
عن المطلب بن عبد الله بن حنطب, قال: أقبل مروان بن الحكم...<([520]).
واخرجه ابن عساكر من طريق مغاير عن كثير بن زيد عن
المطلب يعني ابن عبد الله بن حنطب، قال: >جاء
أبو أيوب الأنصاري....<([521]).
فهذان طريقان للحديث عن
كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله.
وكثير بن زيد مختلف
فيه، وأدنى حالاته أن يكون حديثه حسناً, وقد حسّن له الألباني والمنذري وابن حجر([522])؛ لذا
فالحديث حسن بمجموع طريقيه، إن شاء الله.
وفي الحديث نرى الصحابي
أبا أيّوب الأنصاري يبيّن أنّ المجيء هو إلى الرسول وليس إلى حجر لا يضر ولا ينفع،
فالمقصود هو النبي’، والنبي’ حيٌّ يرزق يضر وينفع, وإلاّ يكون جوابه: جئت إلى رسول
الله’؛ لغواً لا معنى له، إذا كان النبي’ في قبره لا يضر ولا ينفع, فالصحابي أبو
أيّوب الأنصاري كان يفهم أنّ النبي’ حيّ يضر وينفع يمكن الذهاب إليه والتبرك به
وبث الشكوى عنده, فجاءه متألماً ممّا حلّ بالدين بعد أن وليه غير أهله.
الدليل السادس: اعتراف ابن تيميّة بقضاء الحوائج
عند قبور الأنبياء والأولياء
اعترف ابن تيمية
بأنّ حوائج الناس تقضى عند قبر النبي’ بل وقبور الأولياء أيضاً وأنّ لأهل هذه
القبور منازل غير متصورة عند الناس, ومقاماتهم عظيمة , فقد قال في معرض كلامه على
عدم استحباب الدعاء عند القبر([523]) ما نصّه: >ولا يدخل في هذا الباب ما يروى من أنّ قوماً سمعوا
ردّ السلام من قبر النبي صلّى الله عليه وسلم أو قبور غيره من الصالحين وأنّ سعيد بن
المسيب كان يسمع الأذان من القبر ليالي الحرة([524])
ونحو ذلك, فهذا كلّه حق ليس ممّا نحن فيه والأمر أجل من ذلك وأعظم.
وكذلك أيضاً ما يروى أنّ رجلاً جاء إلى قبر النبيّ صلّى
الله عليه وسلّم، فشكا إليه الجدب عام الرمادة، فرآه وهو يأمره أن يأتي عمر فيأمره
أن يخرج فيستسقي الناس فإنّ هذا ليس من هذا الباب، ومثل هذا يقع كثيراً لمن هو دون
النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأعرفُ من هذه الوقائع كثيراً، وكذلك سؤال بعضهم للنبيّ
صلّى الله عليه وسلّم أو لغيره من أمّته حاجته فتقضى له، فإنّ هذا قد وقع كثيراً وليس
هو ممّا نحن فيه، وعليك أن تعلم أنّ إجابة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أو غيره لهؤلاء
السائلين ليس ممّا يدلّ على استحباب السؤال، فإنّه هو القائل صلّى الله عليه وسلّم:
إنّ أحدكم ليسألني مسألة فأعطيه إياها فيخرج بها يتأبطها ناراً، فقالوا: يا رسول الله،
فلمَ تعطيهم؟ قال: يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل. وأكثر هؤلاء السائلين
الملحين لما هم فيه من الحال لو لم يجابوا لاضطرب إيمانهم كما أنّ السائلين له في الحياة
كانوا كذلك وفيهم من أجيب وأمر بالخروج من المدينة<([525]).
والأمر المهم الملاحظ
هنا هو أنّ ابن تيميّة لم يفرّق بين حال وفاة النبي’ وبين حياته واعترف أنّه يقضي
حاجة المحتاج، وهذا ما أردنا إثباته, أمّا تعليله بأنّ الحاجة تكون ناراً على
صاحبها فهو تعليل ضعيف؛ لأنّ النبي أكرم من أن يعطي للسائل ما يتعذب به وهو بُعث
رحمة للعالمين, مضافاً إلى أنّ الكثير من السائلين سواء كانوا في حياة النبي’ أو
بعد مماته هم من الصالحين فلا يمكن شمول هذه العلّة لكلّ طالب من النبي’, وليس هنا
محلّ بحث هذا التعليل, فإنّ ما يهمّنا في المقام هو اعتراف ابن تيّمية بحياة
النبي’ وقضائه لحوائج الناس سواء كان في الدنيا أو في قبره، فتأمّل!
وقال أيضاً: >وكذلك ما يذكر من الكرامات وخوارق العادات التي توجد عند
قبور الأنبياء والصالحين مثل نزول الأنوار والملائكة عندها، وتوقي الشياطين والبهائم
لها، واندفاع النار عنها وعمّن جاورها، وشفاعة بعضهم في جيرانه من الموتى، واستحباب
الاندفان عند بعضهم، وحصول الأنس والسكينة عندها، ونزول العذاب بمن استهان بها، فجنس
هذا حق ليس ممّا نحن فيه, وما في قبور الأنبياء والصالحين من كرامة الله ورحمته وما
لها عند الله من الحرمة والكرامة فوق ما يتوهمه أكثر الخلق، لكن ليس هذا موضع تفصيل
ذلك.
وكل هذا لا يقتضي استحباب الصلاة أو
قصد الدعاء والنسك عندها، لما في قصد العبادات عندها من المفاسد التي حذّر منها الشارع،
كما تقدّم، فذكرت هذه الأمور لأنّها ممّا يتوهم معارضته لما قدّمنا وليس كذلك<([526]).
ونترك التعليق للقارئ
ليرى كيف أنّ ابن تيميّة يعترف بأنّ لقبور الصالحين والأولياء كرامة وحرمة عند
الله تفوق ما يتوهمه الناس, وتجري في قبورهم الكرامات وخوارق العادات وتنزل
الملائكة, وينزل العذاب بمن استهان بها! ويحصل الأنس والسكينة عندها، وغير ذلك
ممّا ذكره أعلاه, ثمّ ليقارن بين هذا القول وبين القول بأنّ الميّت لا يضرّ ولا
ينفع!!
خلاصة القول في التوسل
بدعاء الأموات من الأنبياء والأولياء
اتّضح أنّ الأنبياء والأولياء أحياء في قبورهم، وأنّ
الطلب منهم بعد مماتهم أمر جائز مشروع دل عليه الدليل, وهو في حقيقته طلب من الله
سبحانه وتعالى, لأنّه توسيط للنبي أو الولي في قضاء الحاجة عن طريق دعائه بقضائها,
وليس طلباً من النبي بمعنى أنّه المستقل في التأثير, فانّ الأمور بيد الله سبحانه
وتعالى, ومن ادّعى استقلال أحد بالتأثير غير الله، فقد أشرك وكفر, لكنّ هذا غير
موجود, فإنّ الناس في زياراتهم يصلّون ويعبدون الله الواحد الأحد ويتوسلون
بالأنبياء والأولياء لقضاء حوائجهم عند الله, فكيف يمكن اتهام هؤلاء بالشرك، وهم
يصرحون بعبادة الله الواحد الأحد!!
النوع الخامس: التوسل بذوات الأنبياء والأولياء في حياتهم وبعد
وفاتهم
وهو الدعاء المشفوع
بالتوسل بالنبي أو الولي أو حقّهم وجاههم عند الله من قبيل قول الداعي: اللهمّ
إنّي أسالك بنبيّك أو بحقّ نبيّك...
وقد وردت أدلّة عديدة
معتبرة على جواز ومشروعيّة هذا النوع من التوسّل نورد بعضاً منها فيما يلي:
الدليل الأول على التوسل بالذات
أخرج أحمد وغيره عن
عثمان بن حنيف قال: >إنّ
رجلاً ضرير البصر أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ادع الله أن يعافيني.
قال: إن شئتَ دعوتُ لك وإن شئتَ أخّرتُ ذاك فهو خير. فقال: ادعه. فأمره أن يتوضأ
فيُحسن وضوءه فيصلّي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: اللهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك
بنبيّك محمّد نبيّ الرحمة، يا محمّد، إنّى توجهت بك إلى ربّى في حاجتي هذه, فتقضى
لي، اللهمّ شفعه في<([527]) وفي رواية
الترمذي: >لتقضى لي اللهم فشفعة في<([528]).
قال الحاكم: >هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه< ووافقه الذهبي([529]), وكذلك صحّحه
الترمذي([530]) والألباني([531]) والأرنؤوط([532]).
فالحديث صحيح من الجهة
السنديّة ولا غبار عليه.
وأمّا الدلالة فهي
جليّة وواضحة, فالضرير جاء إلى النبي’ طالباً الدعاء, وقد خيّره النبي’ بين أن
يصبر أو أن يدعو له, فاختار الضرير الدعاء, وإلى هنا لا يوجد أي نوع من التوسّل
بالذات في الرواية, ولكن بعد أن اختار الضرير الدعاء, لم نجد في الحديث أنّ النبي’
دعا له, بل الحديث يدلّ على خلاف ذلك, وأنّ النبي’ علّمه طريقة تُقضى بها الحاجة،
فأمره أن يتوضأ ويُحسن وضوءه ويصلّي ركعتين ويدعو بالدعاء المتقدم.
فقوله: >اللهمّ إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبيّك...< وقوله: >يا
محمّد, إنّي توجهت بك إلى ربي<
عبارات صريحة وواضحة في أنّ التوسل كان بذات النبي’, لذا فإنّ جملة من العلماء
استندوا إلى هذا الحديث في جواز التوسل بالذات:
قال الشوكاني: >وفي الحديث دليل على جواز التوسل برسول الله إلى الله
عز وجل مع اعتقاد أن الفاعل هو الله سبحانه وتعالى وأنه المعطي المانع، ما شاء كان
وما لم يشأ لم يكن<([533]).
وقال الشيخ عبد الغني في إنجاح الحاجة: >ذكر شيخنا عابد السندي في رسالته: والحديث يدل على
جواز التوسل والاستشفاع بذاته المكرم في حياته، وأما بعد مماته فقد روى الطبراني
في الكبير عن عثمان بن حنيف: أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له،
فذكر الحديث، قال: وقد كتب شيخنا المذكور رسالة مستقلة فيها التفصيل من أراد
فليرجع إليها<([534]).
إنّ المقصود
من الحديث هو التوسّل بدعاء النبيّ’ لا بذاته؛ بقرينة أنّ النبي’ وعد الأعمى
بالدعاء له إذا أراد ذلك، والقصة تدور مدار الدعاء, فلا دلالة في الحديث على جواز
التوسل بالذات, ويشهد لذلك أمران:
الأمر الأول: أنّ المستدلّين بجواز التوسل بالذات يلزمهم تقدير
كلمة >جاه< أو نحوها, فيكون المراد من كلمة >بنبيّك< هي >بجاه
نبيّك< وإذا كان التقدير هنا لازم ولابدّ منه فالأولى أن نقدّر كلمة
>دعاء< ويكون المراد من عبارة >بنبيّك< أي >بدعاء نبيّك<,
لدلالة الأخبار على صحّة التوسل بدعاء النبي، بل وكذا بدعاء الأولياء والصالحين,
ولكون الرواية كلّها تدور حول الدعاء فهذا التقدير أولى من ذاك([535]).
أوّلاً: لا شكّ في أنّ القصّة تدور
مدار الدعاء, وأن النبي’ وعد السائل بأنه سوف يدعو له، لكن الاستدلال ينصبّ على
الدعاء الذي علّمه النبي’ للضرير, وتعليم النبي’ حجّة يجب التعبّد بها, وظاهر
تعليم النبي’ للضرير هو الدعاء المشتمل على التوسّل بالذات كما أسلفنا([536]), ولا نجد
ضرورة لتقدير كلمة جاه أو كلمة دعاء, فالجملة تامّة من حيث اللغة العربية ولا
تحتاج إلى تقدير, فالتوسّل كان بذاته الطاهرة.
نعم إنّ الداعي إلى التوسل
بذاته هو جاهه’ وعظمته ومكانته عند الله([537]).
ثانياً: لو اضطررنا إلى التقدير كما زعم السلفيّة,
فالتقدير بكلمة >جاه< هو المناسب لسياق الدعاء والمتوافق مع كلماته,
فكلّ عربي لو خُلّي وطبعه لرأى أنّ تقدير كلمة >دعاء< لا صلة لها بالموضوع, وأنّ كلمة >جاه< هي المناسبة, فإنّ الجاه من لوازم الذات
ومتعلقة بها, بخلاف كلمة الدعاء فهي أجنبية وغريبة عن سياق الكلام تماماً, ولهذا
فمن غير المناسب أن تكون مرادة ومع هذا تحذف ولم تذكر في الحديث؛ لأنّ الحذف إنما
يكون مناسباً وموافقاً لأساليب اللغة فيما إذا كان ما يدل عليه في الكلام واضحاً
عرفاً, وإلا لأحدث خللاً في الكلام.
ثالثاً: أنّ تقدير كلمة >دعاء< يستدعي الغرابة, فإنّ
السلفيّة يفسّرون التوسّل بالدعاء بمعنى أنّ الشخص المتوسِّل يأتي إلى النبي’ أو
إلى الرجل الصالح ويطلب الدعاء منه، فيدعو النبي ’ أو الرجل الصالح للشخص المتوسل.
وأما أنه بمعنى أنّ المتوسل يجلس في بيته ويقول: اللهم إنّي أتوجه إليك بدعاء
نبيّك, فهذا لا معنى له أولاً، وثانياً: لم يكن هذا من الأنواع الجائزة التي تعرض
لها الألباني وادّعى أنّ المشروعية محصورة بها، حيث زعم أن الأنواع الجائزة ثلاثة،
هي: 1ـ التوسل باسم من أسماء الله تبارك وتعالى أو صفة من صفاته. 2ـ التوسل بعمل
صالح قام به الداعي. 3ـ التوسل بدعاء رجل صالح.
ثم قال:
>وأمّا ما عدا هذه الأنواع من التوسلات ففيه خلاف,
والذي نعتقده وندين الله تعالى أنّه غير جائز ولا مشروع<([538]).
عندئذٍ، فتقدير كلمة دعاء هنا لا
مبرر لها ولا تؤيّد حلية التوسل بدعاء الحي؛ لأنّها أمر مغاير لذاك التوسّل.
رابعاً: سيأتي أنّ عثمان بن حنيف علّم صاحب الحاجة تلك
الطريقة النبوية في قضائها, فاستجاب الله له, وهذا يدلّ على أنّ عثمان بن حنيف لم
يفهم أنّ التوسّل كان بدعاء النبي’, بل كان بذاته المقدسة, لوضوح أنّ تعليمه لصاحب
الحاجة كان بعد وفاة النبي’ وفي زمن عثمان بن عفّان.
الأمر الثاني: أنّ ما يؤيّد كون التوسل كان بدعاء النبيّ’ لا بذاته؛
ورود عبارة: >وشفعّني فيه< ولا يمكن معها حمل التوسل على التوسل بالذات؛
لأنّ المراد من العبارة، حسب ما يرى الألباني: أي اقبل شفاعتي, أي دعائي في أنْ
تقبل شفاعته, أي دعاءه في أنْ تردّ عليّ بصري([539]) فيكون
المراد هو التوسل بدعاء النبي’.
وكذلك ورود عبارة: >فشفعّه فيّ< التي تعني: اللهم اقبل شفاعته فيّ: أي اقبل دعاءه
فيّ، قال الألباني: > وهذا
يستحيل حمله على التوسل بذاته’؛ أو جاهه أو حقه؛ إذ أن المعنى: اللهم اقبل شفاعته’
فيّ؛ أي اقبل دعاءه في أن ترد عليّ بصري<([540]).
أولاً: أنّ هذا الأمر مبني على
انحصار معنى الشفاعة والتشفع بطلب الدعاء من الغير، لكن هذا ليس صحيحاً؛ فإنّ
التشفّع والتوسّل والإغاثة والتجوِّه كلها قد تكون بمعنى واحد([541]), وهو
سؤال الله بالنبي’ أو بالصالحين من المؤمنين, فلا يرد كلام الألباني من الأساس.
ثانياً: أنّ عبارة: >وشفعني فيه<، زيادة ينتابها نوعٌ من الغموض, والأغلب أنّها
زيادة وغلط من الراوي, وهذا ما صُرّح به في بعض الطرق, فقد جاء في صحيح ابن خزيمة
بعد أن أورد الرواية من طريق محمّد بن بشار وأبي موسى: >زاد أبو موسى: وشفعني فيه، قال: ثمّ كأنّه شكّ بعد
في: وشفعني فيه<([542]).
وقد أخرج أحمد بن حنبل الحديث من طريق عثمان بن عمر
عن شعبة... بدون الزيادة, وأخرجها من طريق روح عن شعبة بالزيادة وجاء فيه بعد
عبارة: >وتشفعني فيه وتشفعه في< قال: >فكان يقول هذا مراراً ثمّ قال بعد:
أحسبُ أنّ فيها أن تشفعني فيه، قال: ففعل الرجل فبرأ<([543]).
وقد تنبّه الحافظ ابن كثير لذلك، فقال: >وقد رواه أحمد أيضاً عن عثمان بن عمرو عن شعبة به، وقال:
اللهم شفعه في، ولم يقل الأخرى، وكأنها غلط من الراوي، والله أعلم<([544]).
فالرواية من
طريق شعبة كما اتضح وردت بها الزيادة تارة ولم ترد تارة أخرى, فإذا أضفنا إلى ذلك
أنّ ثلاثة من الثقات رووا الحديث عن أبي جعفر الخطمي دون ذكر هذه الزيادة يتّضح
أنّها زيادة شاذة لا يمكن التمسّك بها, وهؤلاء الثلاثة هم: حماد بن سلمة([545]), وروح
بن القاسم([546]), وهاشم
الدستوائي([547]).
فالزيادة هي من خطأ الراوي وليست من قول النبي’,
ولا أقلّ من كونها مشكوكة, فلا ينفع السلفيّة التمسّك بها وتأويل الحديث الصحيح طبق
رغباتهم وأهوائهم.
ثمّ إنّ ثبوت هذه الزيادة, لا يغير دلالة الحديث
في جواز التوسّل بالذات, فإنّه بناءً على تفسير الألباني لكلمة الشفاعة وحملها على
دعاء النبي للضرير, تكون الكلمات التي علّمها النبي| للضرير تتضمن أمرين:
الأول: هو التوسل بذاته الشريفة، وهو قوله: > اللهم إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبيّك محمد نبي
الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه، لتقضى لي<.
والثاني: هو دعاء المتوسّل الله تعالى
بأنّ يستجيب دعاء النبي| في حق نفسه، فلا توجد منافاة بين صدر الدعاء وعجزه.
ومما تقدم يتضح أن عبارة:
>اللهم شفعه فيّ< لا تتنافى أيضاً مع التوسّل بالذات الواردة في صدر
الدعاء, وغاية ما تثبته الجملة أنّ النبي’ علم الضرير دعاءً وقام هو بالدعاء له
أيضاً.
ويتبيّن من خلال ذلك كله: أنّ النبي’ دعا للضرير
بدعاء لم تذكره الرواية, وقام بتعليم الضرير عملاً لقضاء الحاجة, ولعلّ الحكمة في
ذلك هي أنّ النبي’ لم يرد قصر الموضوع على تلك الحالة الخاصّة, بل أراد أن يعطي
للضرير وللأمة شيئاً عامّاً ينفعهم في قضاء الحوائج وهو الصلاة ركعتين ثم الدعاء
بتلك الكلمات.
رواية حماد بن سلمة تدل
على عموم التوسل
وما يؤيد ما ذكرناه سابقاً؛ رواية حماد بن سلمة،
إذ احتوت على زيادة تبطل استدلالهم من رأس، وتثبت أنّ الدعاء الذي علّمه النبي’
للضرير عام وغير مختص بزمان أو مكان معيّن, ومعها لا يمكن حمل التوسّل على أنّه
توسّل بدعاء النبي’, فقد زاد حمّاد بن سلمة كما في تاريخ ابن أبي خيثمة: >وإن كانت حاجةٌ فافعل مثلَ ذلك< حكاه ابن تيمية في كتاب
التوسل, قال: >وقد روى أبو بكر ابن أبي خيثمة في
تاريخه حديث حماد بن سلمة، فقال: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدّثنا حمّاد بن سلمة أنا
أبو جعفر الخطمي عن عمارة بن خزيمة عن عثمان بن حنيف: أنّ رجلاً أعمى أتى النبيّ
صلّى الله عليه وسلّم، فقال: إنّي أصبت في بصري فادع الله لي. قال: اذهب فتوضأ وصلّ
ركعتين، ثمّ قل: اللهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيي محمّد نبي الرحمة، يا محمّد
إنّي أستشفع بك على ربي, في ردّ بصري, اللهمّ فشفعني في نفسي وشفع نبيي في ردّ
بصري, وإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك, فرد الله عليه بصره<([548]).
وهذه الزيادة تدلّ على جواز
التوسل في حياة النبي’ وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى ولا تتناسب مع كلمات
السلفيّة بأنّ التوسل كان بدعاء النبي’ في حال حياته, بمعنى طلب الدعاء من النبي’,
ولذا حاولوا إبطال هذه الزيادة بحجج واهية:
منها: أنّها مخالفة لرواية من هو أحفظ من حماد بن سلمة،
فشعبة وروح بن القاسم لم يوردا هذه الزيادة فتكون شاذّة([549]).
والجواب: أنّ هذا تطبيق للقاعدة في غير محلّها, فهي زيادة
على رواية الثقات من ثقة ولا توجد مخالفة في المقام, وزيادة الثقة مقبولة, وهذه
الزيادة منسجمة مع سياق الرواية.
ومنها: قد تكون الزيادة من الصحابي عثمان بن حنيف وليست من
كلام النبي’([550]).
والجواب: أنّ هذا تخرص وظنٌ بلا دليل, والظنّ لا يغني من
الحقّ شيئاً, فلفظ الرواية يحمل على أنّه كلام النبي’ ما لم يقم الدليل على خلاف
ذلك.
ومنها: أنّ المراد من الزيادة هي عين دعوى التوسل بالدعاء؛
فالمراد منها كما يقول الألباني: >يعني من
إتيانه صلى الله عليه وسلم في حال حياته وطلب الدعاء منه والتوسل به والتوضؤ والصلاة
والدعاء الذي علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو به<([551]).
والجواب: أنّ سياق الرواية يقتضي قيام المحتاج بتلك الأفعال
من الصلاة والدعاء لتقضى حاجته، وليس فيها دلالة على العود والرجوع إلى النبيّ’,
إذ إنّ الملحوظ في الحوار الدائر هو تعليم النبي’ للضرير تلك الأفعال، ولم يكن
الحوار دائراً حول حصول المجيء أو عدمه, ثمّ إنّه مع ضرورة العود إلى النبيّ’ لا
معنى للتمسّك بتلك الأفعال، فالنبي’ قد يوجّهه إلى أعمال أخرى, أو يقوم بالدعاء له
فقط كما دعا لآخرين, فالمناسب حينئذٍ ـ طبق هذا البيان ـ أنْ يقول له النبيّ’:
وإذا كانت حاجة فعد إليّ, لا أن يقول له فافعل مثل ذلك.
مضافاً إلى انسجام هذه الزيادة مع متن الدعاء
المتضمن للتوسل بذات النبي’، فيكون المراد منها واضح جداّ، وهو: إن حصلت لك حاجةـ
بعد ذلك ـ فتوضأ وصلّ ركعتين وادعُ بهذا الدعاء, وهذا ما يفهمه كلّ عربي خالي
الذهن من المسبّقات العقدية.
ومن غرائب الأمور؛ نرى
أنّ السلفية يحاولون التمسك بالزيادة التي يشكّك الراوي نفسه في صدورها، كما تقدّم
في عبارة: >وشفعني فيه<، ويحاولون إبطال الزيادة الواردة بسند صحيح
معتبر, ومن دون أن يشك الراوي فيها.
أن التوسل بالذات لو سلّمنا بجوازه، فهو مختص
بحياة النبيّ’ دون وفاته([552]).
هناك
عدّة دلائل وقرائن تفيد عموم الحديث وعدم اختصاصه بحياة النبي’؛ منها:
1ـ أنّ تعليم النبي’
للضرير يعتبر سنّة شرعيّة, والسنّة لا يمكن أن تختص بزمن معيّن, ولو كانت خاصّة
لكان لزاماً على النبي’ بيان ذلك, فالأصل في سنن النبي’ هو العموم وشمولها لكل
الأوقات والأزمان إلاّ ما خرج بالدليل, وحيث لا دليل على تخصيص هذه الرواية لزم
التمسك بالعموم.
وقد صرّح الشيخ علي
جمعة مفتي الديار المصرية، بعموم الرواية، وعدم الاحتياج إلى إثبات عمومها بقصة
الرواية، التي سيأتي ذكرها منا قريباً([553]),
حيث قال: >وفي الحقيقه، فنحن لا نحتاج إلى ذكر قصّه الحديث...حتّى
نستدلّ على جواز الدعاء بهذه الصيغة بعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا علّم
رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً من أصحابه صيغة دعاء ونقلت إلينا بالسند
الصحيح، فدل ذلك على استحباب الدعاء بها في كلّ الأوقات حتّى يرث الله الأرض ومن
عليها، وليس هناك مخصص لذلك الدعاء لهذا الصحابي وحده، ولا مقيد لذلك بحياته صلّى
الله عليه وسلّم، فالأصل في الأحكام والتشريعات أنّها مطلقة وعامّة إلاّ أن يثبت
المخصّص أو المقيّد لها<([554]).
2ـ زيادة حماد بن سلمة في الرواية, وهو قول النبي’: >وإن كانت حاجةٌ فافعل مثلَ ذلك<, وقد تقدم ذكر الرواية
سابقاً, فهذه الزيادة صريحة في أنّ التوسل بالذات مشروع في حال حياة النبي’ وبعد
وفاته, فطروّ الحاجة غير مقتصر على حياة النبي’ ولم يقيّد النبي’ فعل ذلك في حال
حياته فقط, فدلالة هذه الزيادة على العموم ممّا لا تخفى على أحد.
3ـ أنّ عدول النبي’ عن
الدعاء للضرير وتعليمه طريقة معيّنة لقضاء الحاجة يدلّ على إرادة النبي’ تعميم هذه
المسألة لكلّ الأمّة وعدم قصرها على شخص معين أو زمان معيّن, وإلاّ فكان من الممكن
أن يدعو النبي’ للضرير ويستجيب الله دعاءه وينتهي الأمر.
4ـ فهْمُ الكثيرِ من
الحفّاظ والمحدّثين عموم الخبر وعدم قصره على حياة النبي’؛ لذا أوردوه في كتبهم
تحت أبواب معيّنة كقضاء الحاجة وغيرها:
فقد أورده ابن ماجة تحت باب: ما جاء في صلاة
الحاجة([555]).
وأورده البيهقي تحت
باب: ما في تعليمه الضرير ما كان فيه شفاؤه حين لم يصبر وما ظهر في ذلك من آثار
النبوة([556]).
وأورده النووي تحت باب:
أذكار صلاة الحاجة([557]).
وأورده المنذري تحت
باب: الترغيب في صلاة الحاجة ودعائها([558]).
وهكذا غيرهم, فلو كان
الحديث مختصاً في حال حياة النبي’ فلا معنى لإيراده تحت تلك العناوين.
والأكثر من ذلك أنّ
الترمذي أخرجه في كتابه وصحّحه, وقد قال عن كتابه: >جميع
ما في هذا الكتاب من الحديث فهو معمول به، وقد أخذ به بعض أهل العلم ما خلا حديثين:
حديث ابن عبّاس: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم جمع بين الظهر والعصر بالمدينة
والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر ولا مطر، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: إذا شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد في الرابعة فاقتلوه([559])...< ([560]).
فيكون هذا الحديث ممّن
عمل به بعض أهل العلم, ولا معنى لعملهم به إذا كان مختصاً بحياة رسول الله’، كما
يدّعي السلفيّة.
5ـ فهْمُ الصحابي عثمان
بن حنيف عموم الحديث, وتعليمه لطالب حاجة بعد وفاة النبي’ تلك الأعمال من الصلاة
والدعاء في قصّة معروفة مشهورة, فلا بدّ من الوقوف عليها قليلاً وملاحظتها متناً وسنداً
ليتضح الحال.
الصحابي
عثمان بن حنيف وحديث الضرير
أخرج الطبراني من طريق عبد الله بن وهب عن شبيب
بن سعيد المكي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي المدني عن أبي أمامة بن سهل بن
حنيف عن عمّه عثمان بن حنيف: >أنّ
رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت
إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي عثمان بن حنيف، فشكا ذلك إليه، فقال له عثمان بن
حنيف: ائت الميضأة فتوضأ، ثم ائت المسجد فصلي فيه ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك
وأتوجه إليك بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى
ربك وربي عز وجل فيقضي لي حاجتي، وتذكر حاجتك، ورح إليّ حتى أروح معك، فانطلق
الرجل، فصنع ما قال له عثمان، ثم أتى باب عثمان، فجاء البواب حتى أخذ بيده، فأدخله
على عثمان بن عفان، فأجلسه معه على الطنفسة، وقال: حاجتك؟ فذكر حاجته، فقضاها له،
ثم قال له: ما ذكرتُ حاجتك حتى كانت هذه الساعة، وقال: ما كانت لك من حاجة فأتنا،
ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف، فقال له: جزاك الله خيراً, ما كان
ينظرُ في حاجتي ولا يلتفتُ إليّ حتّى كلمتَهُ فيّ، فقال عثمان بن حنيف: والله ما
كلمتُه، ولكن شهدت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأتاه ضرير فشكا عليه ذهاب بصره،
فقال له النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم: أفتصبر؟ فقال: يا رسول الله, إنّه ليس
لي قائد وقد شقّ عليّ، فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إئت الميضأة فتوضأ ثمّ
صلّ ركعتين، ثمّ ادع بهذه الدعوات، قال عثمان: فوالله ما تفرقنا وطال بنا الحديث
حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضرر قط<([561]).
وأخرجه البيهقي من طريق يعقوب بن سفيان: حدّثنا أحمد
بن شبيب بن سعيد فذكره بطوله([562]).
وأخرجه من طريق العباس
بن فرج عن إسماعيل بن شبيب عن أبيه([563]).
قال الطبراني: >لم يروه
عن روح بن القاسم إلا شبيب بن سعيد أبو سعيد المكي وهو ثقة، وهو الذي يحدث عنه أحمد
بن شبيب عن أبيه عن يونس بن يزيد الأيلي، وقد روى هذا الحديث شعبة عن أبي جعفر الخطمي
ـ واسمه عمير بن يزيد ـ وهو ثقة تفرد به عثمان بن عمر بن فارس عن شعبة، والحديث صحيح،
وروى هذا الحديث عون بن عمارة عن روح بن القاسم عن محمد بن النكدر عن جابر رضي
الله عنه وهم فيه عون بن عمارة، والصواب حديث شبيب بن سعيد<([564]).
فهذا الحديث صحيح من الجهة السنديّة كما قال
الطبراني، وكما تقتضيه القواعد الحديثيّة, ودلالته واضحة وبيّنة في جواز التوسل
بالنبي’ بعد وفاته, ولم يتسنَ للسلفية حمل الرواية على التوسل بدعاء النبي’ لأنّ
الحادثة وقعت بعد وفاته, لذا حاولوا نقاش الرواية من جهة أخرى, فحاولوا تضعيفها من
حيث السند، فقالوا:
أولاً: أنّ الطبراني لم يصحّح
القصّة وإنّما صحّح الحديث([565]), ولا
كلام في صحّة الحديث, إنّما الكلام في هذه القصّة التي وقعت بعد وفاة النبي’, فلا
يمكن التمسّك بتصحيح الطبراني حينئذٍ([566]).
الجواب: أنّ سياق كلام الطبراني يقتضي تصحيح القصة كاملة
والتي جاء في ضمنها الحديث كما هو واضح, ولو تنزلنا عن ذلك وقلنا: إنّه صحّح
الحديث فقط الذي جاء في سياقها, فهو أيضاً صرّح بوثاقة شبيب بن سعيد الذي هو محلّ
النزاع في هذا السند, فتوثيقه للرجل بصورة مطلقة ومن دون قيود هو عبارة أخرى عن
تصحيحه لسند القصّة.
ثانياً: أنّ في سند القصة شبيب
بن سعيد, وقبول روايته تتوقف على شرطين: أن تكون من رواية ابنه أحمد عنه, وأن تكون
روايته عن يونس لا غير, وهنا تحقق الشرط الأول وهو رواية ابنه أحمد عنه, ولم يتحقق
الشرط الثاني, فإنّ شبيب لم يرو عن يونس, إنّما روى الحديث عن روح بن القاسم([567]).
والجواب: أولاً: عرفنا عمّا قريب أنّ الطبراني قد صرّح بوثاقة شبيب
من دون قيود. وثانياً: إنّ جملة كبيرة من علماء الحديث ونقّاده صرحوا
بوثاقة شبيب مطلقاً:
جاء في تهذيب الكمال: >قال
عليّ بن المديني: ثقة كان من أصحاب يونس بن يزيد كان يختلف في تجارة إلى مصر وكتابه
كتاب صحيح وقد كتبتها عن ابنه أحمد.
وقال أبو زرعة: لا بأس به.
وقال أبو حاتم: كان عنده كتب
يونس بن يزيد وهو صالح الحديث لا بأس به.
وقال النسائي:
ليس به بأس، وقال أبو أحمد بن عدي: ولشبيب نسخة الزهري عنده عن يونس عن الزهري أحاديث
مستقيمة، وحدث عنه ابن وهب بأحاديث مناكير، وذكره بن حبان في كتاب الثقات<([568]).
وأضاف ابن حجر في تهذيب
التهذيب: >وقال الدارقطني: ثقة، ونقل ابن خلفون توثيقه عن الذهلي،
ولمّا ذكره ابن عدي وقال الكلام المتقدم قال بعده: ولعلّ شبيباً لمّا قدم مصر في تجارته
كتب عنه ابن وهب من حفظه فغلط ووهم، وأرجو أن لا يتعمد الكذب، وإذا حدث عنه ابنه أحمد
فكأنّه شبيب آخر يعني يُجوّد، وقال الطبراني في الأوسط: ثقة<([569]).
فهذه هي كلمات نقّاد
الحديث والرجال وهي تصرّح بوثاقة الرجل مطلقاً, وقد استثنى ابن عدي حالة واحدة وهي
في حال رواية ابن وهب عنه فإنّه حدّث عنه في حال سفره للتجارة فغلط ووهم.
ولعل سبب ذلك يعود لمشاق السفر والتعب فكانت
عنده أغلاط. أمّا في حال رواية ابنه أحمد عنه فانها رواية مستقيمة صحيحة, وبذلك
صرّح ابن عدي نفسه حين قال كما تقدم: >وإذا
حدّث عنه ابنه أحمد فكأنّه شبيب آخر, يعني يجوّد<.
ولذا نجد الحافظ ابن حجر يصحّح روايته من طريق ابنه
أحمد عنه، فقال في التقريب: >لا بأس
بحديثه من رواية ابنه أحمد عنه لا من رواية ابن وهب<([570]).
وأمّا الذهبي، فقد أطلق
القول في اعتبار حديثه، فقال في الكاشف: >صدوق<([571]).
فتحصل: أنّ رواية شبيب إمّا أن تكون معتبرة مطلقاً أو
مقيّدة في حالة رواية ابنه أحمد عنه, ولا يشترط في اعتبار روايته أن تكون من طريق
يونس, فتكون الرواية أعلاه صحيحة ومعتبرة.
على أنّ هذه الرواية وردت تارة من طريق ابن وهب عنه,
وأخرى من طريق ابنه أحمد عنه, وهذا يدلّك على أنّ شبيب لم يغلط ولم يهم حتّى في
سفره.
وأمّا كون أنّ البخاري أخرج في صحيحه روايات شبيب
برواية ابنه أحمد عنه عن يونس, فلا تعني عدم صحّة رواياته عن غير يونس؛ لأنّ
البخاري لم يخرج جميع الروايات الصحيحة في كتابه هذا، بل ترك الكثير الكثير, ثمّ
إنّ غاية ما يمكن أن يقال: إنّ الرواية عن أحمد عن أبيه عن غير يونس هي ليست على
شرط البخاري في صحيحه, وهذا لا يؤثر في المقام, فالمئات إنْ لم نقل الآلاف من
الروايات هي ليست على شرط البخاري وليست على شرط مسلم, وهي روايات صحيحة معمول بها
عند العلماء والفقهاء.
كما أنّ وجود كتب يونس
عنده لا يعني انحصار صحّة روايات شبيب بكونها عن يونس, بل غايتها أنّ رواياته عن
يونس صحيحة, ولذا فإنّ العلماء كما تقدّم ذكر كلماتهم صرّحوا بأنّه ثقة أو صدوق أو
لا بأس به وصرّحوا بوجود كتب يونس عنده, ولم يقيّدوا وثاقته في حال رواياته عن
يونس.
هذا ما يقتضيه التحقيق الصحيح في حال شبيب, وما عدا
ذلك فهو قفز على قواعد الحديث وردٌ للحديث الصحيح اعتماداً على المسبّقات الذهنية,
وهو رد للسنّة الصحيحة بلا دليل.
ثالثاً: لا يمكن التمسّك بصحّة القصّة للاختلاف فيها على
أحمد بن شبيب, فقد أخرج الحديث ابن السني في (عمل اليوم والليلة) والحاكم في
(المستدرك) من ثلاثة طرق عن أحمد بن شبيب بدون ذكر القصّة، وكذلك رواه عون بن عمارة
البصري ثنا روح ابن القاسم به، أخرجه الحاكم، وعون هذا وإن كان ضعيفاًً، فروايته أولى
من رواية شبيب، لموافقتها لرواية شعبة وحماد بن سلمة عن أبي جعفر الخطمي([572]).
والجواب: الثلاثة الذين أُشير إليهم هم:
العبّاس بن فرج والحسين بن يحيى الثوري ومحمّد بن
عليّ بن زيد الصائغ, فقد أخرج الحديث ابن السنّي من طريق العبّاس بن فرج الرياشي
والحسين بن يحيى الثوري، قالا: >ثنا
أحمد بن شبيب بن سعيد قال ثنا أبي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر المدني وهو الخطمي
عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمّه عثمان بن حنيف رضي الله عنه قال: سمعت رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم وجاء إليه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره..<.([573])
وأخرجه الحاكم من طريق محمّد
بن عليّ بن زيد الصائغ: >ثنا
أحمد بن شبيب بن سعيد الحبطي حدّثني أبي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر المدني وهو
الخطمي عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف، قال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وآله وجاءه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره، فقال: يا رسول الله ليس
لي قائد وقد شق عليّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ائت الميضاة، فتوضأ ثمّ
صلّ ركعتين ثمّ قل: اللهم ّإنّي أسألك وأتوجه إليك بنبيّك محمّد صلّى الله عليه
وآله نبيّ الرحمة يا محمّد انى أتوجه بك إلى ربك فيجلى لي عن بصري، اللهم شفعّه فيّ
وشفعني في نفسي<، قال عثمان: >فوالله ما تفرقنا ولا طال بنا الحديث حتى دخل
الرجل وكأنه لم يكن به ضر قط<([574]).
وحينئذٍ يتسنى لنا أن
نقول:
1ـ أنّه لا توجد مخالفة
في المقام, لأنّ هناك حديث عن النبي’ وهناك قصّة حدثت لرجل مع عثمان بن حنيف,
فالراوي قد يروي الحديث في بعض الأحيان, وقد يروي الحديث بقصّته في بعض آخر, فأين
المخالفة؟! فهذه كتب الحديث تارة تنقل حديثاً بطوله وأخرى مختصراً, فكيف إذا كانت
هناك قصّة مع الحديث, فمن الطبيعي جدّا أنّ الراوي قد ينقل القصّة مع الحديث تارة
وقد يقتصر على الحديث تارة أخرى.
2ـ أنّ من روى القصّة
عن أحمد هو الحافظ الثقة المشهور يعقوب بن سفيان الفسوي, ومن لم يرو القصة مع
الحديث، بل اقتصر على نقل الحديث فقط، هؤلاء الثلاثة أعلاه, وحينئذٍ ومن المعروف
عند علماء الحديث أنّه تقدّم رواية الأوثق والأحفظ, ولا شكّ هنا في تقديم رواية
الحافظ يعقوب بن سفيان على غيره, خصوصاً إذا ما عرفنا أنّ العبّاس بن فرج وهو أحد
الثلاثة, قد روى القصّة مع الحديث كما عند البيهقي([575]) فهو حينئذٍ
موافق للحافظ الفسوي.
والحسين بن يحيى؛ لم نعثر عليه في كتب الرجال, فلا
حجّة في روايته, فلم يبق مخالف للفسوي إلاّ محمّد بن علي بن زيد الصائغ كما عند
الحاكم, وهو وإن كان ثقة, إلا أنّه لا يبلغ مرتبة الحافظ المشهور يعقوب بن سفيان الفسوي,
ولا شكّ في تقديم رواية الفسوي عليه, قال أبو زرعة الدمشقي عنه: >قدم علينا رجلان من نبلاء الرجال، أحدهما وأجلهما
يعقوب بن سفيان أبو يوسف، يعجز أهل العراق أن يروا مثله رجلاً <([576]).
أمّا ما ذيّل به
الألباني كلامه من تقديم رواية عون الضعيف على رواية شبيب الثقة, فهذا لا قائل به
من أهل العلم, مع أنّها لا تنفع الألباني بالمرّة, لأنّه لا يوجد فيها طلب دعاء من
النبي’ بل ورد فيها أنّ الأعمى قال للنبي’: >يا
رسول الله، علّمني دعاء أدعو به يرد الله على بصرى، فقال له: قل: اللهم إنّي أسألك
وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة يا محمد إنى قد توجهت بك إلى ربّى اللهم شفعه في
وشفعني في نفسي، فدعا بهذا الدعاء فقام وقد أبصر<([577]).
فالرواية بهذا اللفط لا
يمكن حملها على التوسل بدعاء النبي’ , بل هي صريحة في التوسل بالذات, وصريحة في
عمومها لأنّ التعليم غير مختص بشخص دون آخر.
فتلخص أنّه لا توجد
مخالفة من الأساس، فبعضهم روى القصّة والحديث وبعضهم اقتصر على الحديث, ولو كانت
هناك مخالفة فرواية الفسوي مقدمة على غيرها, وبهذا يثبت صحّة القصة, ويثبت معها
جواز التوسل بذات النبي’ بعد وفاته.
رابعاً: أنّ ما علّمه عثمان بن حنيف لصاحب الحاجة بعض دعاء
النبي’, ولم يذكر فيه عبارة: >اللهم
فشفعه فيّ وشفعني فيه< فما أمر به عثمان
لم يكن مأثوراً عن النبي’ لأنه جزء من تعليم النبي’ وما هو المأثور عن النبي’ لم
يأمر به عثمان, ومثل هذا لا تقوم به حجّة([578]).
الجواب: أمّا جملة >وشفعني
فيه< فتقدّم أنّها
زيادة وغلط من الراوي, وأمّا جملة >فشفعه
فيّ< فلم يذكرها عثمان،
لأنّه فهم من كلام النبي’ أنّ هذه الفقرة مختصّة بحياته لذا لم يذكرها, لكنّه لم يفهم
أنّ الصلاة ركعتين والدعاء مختص بحياة النبي’ لذا علّم صاحب الحاجة ذلك الدعاء
مستنداً به إلى النبي’ ولم يسنده إلى نفسه, فما علمه عثمان هو مأثور عن النبي’
وتقوم به الحجّة خصوصاً أنّ عثمان سمع من النبيّ’ أنه قال: >وإنْ كانت لك حاجة فافعل مثل ذلك< ففهم أنّ هذا الدعاء عام وأنّ تلك الفقرة خاصّة
في حياته’.
إنّ هذا التوسل لو سلّمنا
بجوازه فهو مختص بذات النبي’ دون غيره, لا يشاركه فيه غيره من الأنبياء والصالحين،
وإلحاقهم به ممّا لا يقبله النظر الصحيح؛ لأنّه سيدهم وأفضلهم جميعاً، فيمكن أن يكون
هذا مما خصّه الله به عليهم ككثير ممّا صحّ به الخبر، وباب الخصوصيات لا تدخل فيه القياسات،
فمن رأى أنّ توسّل الأعمى كان بذاته لله، فعليه أن يقف عنده، ولا يزيد عليه، كما نقل
عن الإمام أحمد والشيخ العزّ بن عبد السلام رحمهما الله تعالى. هذا هو الذي يقتضيه
البحث العلمي مع الإنصاف([579]).
أوّلاً: هذا الاعتراف بأنّ الإمام أحمد والعزّ بن عبد
السلام يجوزون التوسّل بذات النبي’ بعد وفاته, يقطع الشكّ في دخول التوسّل في باب
البدعيات أو الشركيات, وإلاّ لكان لزاماً على السلفية أن تتهم الإمام أحمد وكذا
الشيخ العزّ بن عبد السلام بالشرك أو البدعة!!! وإذا كانت المسألة أجنبيّة عن ذلك
فلا معنى لهذا التطبيل والتزمير سواء قلنا بالاختصاص بالنبي’ أو التعدّي إلى غيره,
لأنّ المسألة تابعة للدليل ولا حجّة لفريق على آخر, فكلّ من قام عنده الدليل على
جواز التوسل بالأولياء والصالحين يكون الأمر حجّة عليه ولا يصحّ للآخرين التشنيع
عليه, كما هو الشأن في سائر المسائل الفقهية, فالاختلاف موجود ولا نرى في البين من
يشنع على ذلك([580]).
ثانياً: أنّ الإمام أحمد نُقل عنه جواز التوسل بذات النبي’
ولم يُنقل عنه المنع من غيره, فقد جاء في منسك المروزي، أنّه قال: >وحوّل وجهك إلى القبلة وسل الله حاجتك متوسّلاً إليه بنبيّه
صلّى الله عليه وسلّم تقض من الله عزّ وجلّ<([581])؛
ولذا سيأتي في ذكر كلمات العلماء, أنّ علماء الحنابلة ـ وهم أعرف برأي إمامهم ـ لم
يقصروا التوسّل على ذات النبي’ بل تعدّوا إلى الأولياء والصالحين.
ثالثاً: عدم اختصاص جواز التوسّل بالنبي’ من خلال الرواية
نفسها؛ وذلك من خلال تنقيح مناط الحكم, فإنّ التوسل بالنبي’ إنّما هو لأجل كون
النبي’ يتحلّى بالتقوى والإيمان والعمل والصالح والإخلاص لله سبحانه وتعالى,
وبعبارة أخرى لقرب درجة النبي’ من الله تعالى, وهذا المعنى وإن كان النبي’ يمثّل
أعلى درجاته إلا أنّه غير مختص به وغير منحصر به, فالأولياء والصالحون لهم درجات
من القرب الإلهي وإن كانت لا تصل إلى مرتبة النبي’, وحينئذٍ جاز التوسّل بهم إلى
الله سبحانه وتعالى.
الدليل الثاني على التوسل بالذات
أخرج الحاكم بسنده إلى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن
أبيه عن جدّه عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: >لما اقترف آدم الخطيئة، قال: يا رب، أسألك بحقّ محمّد
لمّا غفرت لي, فقال الله: يا آدم وكيف عرفت محمّد و لم أخلقه؟ قال: يا رب لأنك لمّا
خلقتني بيدك ونفخت فيّ من روحك رفعت رأسي، فرأيت على قوائم العرش مكتوباً: لا إله
إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلاّ أحبّ الخلق إليك، فقال
الله: صدقت يا آدم، إنه لأحبّ الخلق إليّ، ادعني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما
خلقتك<.
قال الحاكم: >هذا
حديث صحيح الإسناد وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذا الكتاب<([582]).
وأخرجه البيهقي في دلائل
النبوة, وقال: >تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن
أسلم, من هذا الوجه, وهو ضعيف<([583]).
قال
المقريزي: >هو أبو زيد عبد الرحمن بن زيد بن
أسلم، مولى عمر بن الخطاب، ضعّفه أحمد وأبو داود والنسائي، وقال ابن عدي: له
أحاديث حسان، وهو ممن احتمله وصدقه بعضهم، وهو ممّن يكتب حديثه...<([584]).
وقال المنذري متكلّماً حول سند
رواية فيها عبد الرحمن بن زيد: >رواه ابن
ماجه من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقد وثق, قال ابن عدي: أحاديثه حسان وهو ممن
احتمله الناس وصدقه بعضهم وهو ممن يكتب حديثه<([585]).
قلتُ: فمثله ممّن يستشهد بحديثه إن
شاء الله.
وهناك عدة شواهد على حديث توسل آدم× بالنبي| أهمها:
الشاهد الأوّل: حديث استشفاع آدم× وحواء باسم
النبي|.
قد وجدنا لهذا الحديث شاهداً
قويّ الإسناد, أورده ابن تيمية في مجموع الفتاوى, قال: >وقد رواه أبو الحسين بن بشران من طريق الشيخ أبى
الفرج ابن الجوزى في الوفا بفضائل المصطفى: حدّثنا أبو جعفر محمّد بن عمرو حدّثنا
أحمد بن إسحاق بن صالح ثنا محمد بن صالح ثنا محمد بن سنان العوفى ثنا إبراهيم بن
طهمان عن يزيد بن ميسرة عن عبد الله بن سفيان عن ميسرة، قال: قلت يا رسول الله،
متى كنتَ نبيّاً؟ قال: لمّا خلق الله الأرض واستوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات
وخلق العرش كتب على ساق العرش محمّد رسول الله خاتم الأنبياء، وخلق الله الجنّة
التى أسكنها آدم وحواء، فكتب اسمى على الأبواب والأوراق والقباب والخيام وآدم بين
الروح والجسد، فلمّا أحياه الله تعالى نظر إلى العرش فرأى اسمى فأخبره الله انّه
سيّد ولدك، فلمّا غرّهما الشيطان تابا واستشفعا باسمى إليه<([586]).
قال
الصالحي الشامي: >وروى ابن الجوزي بسند جيّد لا بأس
به عن ميسرة رضي الله تعالى عنه< وذكر الحديث([587]).
وقال
الحافظ الغماري: >إسناد هذا الحديث قوي<([588]).
ومن الواضح أنّ قوله: >واستشفعا باسمى إليه< هو معنى قول آدم في
الحديث السابق: >يا رب أسألك بحقّ محمّد لمّا غفرت
لي<,
فهو من نوع التوسل بالذات ولا يمكن حمله على أيّ معنى آخر, خصوصاً أنّ القصّة حصلت
قبل مولد النبي’ وفي زمن آدم عليه السلام, فلا يمكن لأحد أن يقول هنا أنّ هذا
التوسل هو توسل بدعاء النبي’.
وحيث
إنّ السلفية لم يستطيعوا تأويل هذه الدلالة, لذا حاولوا إبطال هذا الحديث من
وجهين:
الوجه الأول: إنّ هذا السند ليس له أصل, فابن
الجوزي لم يذكر الأسانيد في كتابه الوفا بأحوال المصطفى المطبوع بين أيدينا بأكثر
من طبعة, فلا يمكن إثبات الدلالة بسند لا أصل له.
1ـ إنّ السند ذكره ابن تيميّة وهو شيخ الإسلام
بزعمكم, ومن البعيد جدّاً أن يقع بخطأ مثل هذا, بحيث يُركّب إسناداً كاملاً على
حديث ليس له إسناد, فإنّ من يقع في مثل هذا الخطأ لا يمكن الاعتماد عليه مطلقاً,
لذا لا بدّ أن يكون ابن تيمية اعتمد على مصدر موثوق في معرفة سند ابن الجوزي.
2ـ
إنّ الشيخ الصالحي الشامي وهو تلميذ السيوطي جوّد إسناد الحديث من طريق ابن الجوزي
كما تقدّم, ولم يعزه إلى ابن تيمية, فلعلّه وقف على الإسناد أيضاً, أو لا أقلّ من
كونه أمضى كلام ابن تيميه ولم يتوقف فيه.
3ـ
لو قبلنا أنّ سند هذا المتن مفقود فلا يضر ذلك بصحّـته, وذلك أنّ ابن الجوزي ذكر
في مقدّمة كتابه بأنّه لا يخلط فيه الصحيح بالكذب كما يفعل من يقصد تكثير روايته([589]), وهذا يدلّ
على أنّه انتقى الصحيح, خصوصاً أنّ هذا الحديث هو ثالث حديث ذكره في كتابه, فلا
يعقل أن يصدّر كتابه بأحاديث موضوعة أو ضعيفه مع عبارته هذه.
بل إنّ ابن الجوزي عاد في مكان
آخر من كتابه، وقال: >ومن
بيان فضله على الأنبياء: أنّ آدم سأل ربّه بحرمة محمّد أن يتوب عليه, كما ذكرنا<([590]) فهو أرسلها
إرسال المسلّمات, ولم تكن عنده عقدة من مسألة التوسّل, بل عدّ التوسل به’ من دلائل
فضله على الأنبياء.
فسواء عرفنا إسناده أم لم
نعرفه, فإنّ ابن الجوزي يعترف بصحّته, وقول العالم معتبر مأخوذ به ما لم نقف على
علّة ظاهرة توجب طرحه, وحيث لم نقف هنا على السند كما يزعمون, فيبقى قول ابن
الجوزي حجّة؛ لأنّه وقف على الإسناد واعترف بصحّة الحديث.
4ـ أنّ ابن تيمية ذكر بعد هاتين
الروايتين ما يدلّ على اعتبارهما وتعاضدهما معاً فقد ذكر هذه الرواية أوّلاً ثمّ
ذكر بعدها رواية عبد الرحمن بن زيد وقال: >فهذا
الحديث يؤيّد الذى قبله وهما كالتفسير للأحاديث الصحيحة<([591]).
فهل يعتمد شيخ الإسلام على
أحاديث ضعيفة واهية ويفسّر بها الأحاديث الصحيحة!!!
فتحصّل ممّا تقدّم؛ أنّ هذا
الوجه في تضعيف الرواية غير صحيح, وفيه اتهام لشيخ الإسلام بوضع الأسانيد على
المتون, ولا يمكن التفصي من ذلك بنسبة الخطأ لنساخ كتب ابن تيمية, فهو مضافاً
لبعده جداً, فان ابن تيمية لم يقتصر على ذكر السند, بل أضاف بأنّ الحديث مؤيّد
برواية عبد الرحمن بن زيد, واعتبرهما كالتفسير للأحاديث الصحيحة, فهل أنّ هذه العبارة
أيضاً من خطأ النسّاخ!!
الوجه الثاني: أنّ الزيادة في الحديث من
قوله: >فلمّا غرّهما الشيطان تابا واستشفعا باسمى إليه<, لم ترد في طرق حديث
ميسرة, فما جاء عنه هو لفظ مختصر, وهو: >قلت: يا
رسول الله, متى كنتتَ نبيّاً قال: وآدم عليه السلام بين الروح والجسد<([592]), فتكون هذه
الزيادة شاذة.
الجواب:
1ـ أنّ هذه الزيادة غير مخالفة للحديث, ولا
مغيّرة لمعناه, بل هي عبارة عن أمر آخر, يتحدث عن الكلمات التي ذكرها آدم فتاب
الله عليه, وهي الاستشفاع بمحمد’, فهي بمنزلة الرواية المستقلّة, فمادام الإسناد
صحيحاً فهي زيادة صحيحة مقبولة ولا موجب لطرحها.
2ـ أنّ هذه الزيادة لها شواهد
ولم يتفرد بها راوٍ واحد حتّى يُقال بشذوذها,
فقد تقدّم في رواية عبد الرحمن بن زيد أنّ آدم قال: >يا ربّ أسألك بحقّ محمّد لمّا غفرت
لي< وستأتي شواهد أخرى على ذلك فيما يلي.
الشاهد الثاني: توسّل آدم× بحقّ محمّد| وعلي وفاطمة والحسن
والحسين^:
وهو
ما أخرجه ابن المغازلي وابن الجوزي بسنديهما عن محمّد بن عليّ بن
خلف العطار قال: >حدّثنا حسين الأشقر حدّثنا عمرو بن
ثابت عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: سألت
النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عنه، فقال:
قال بحقّ محمّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلاّ تبتَ عليّ فتاب عليه<([593]).
وسند ابن الجوزي لم يُتكلّم
فيه إلا من جهة حسين الأشقر, وعمرو بن ثابت, وهو عمرو بن أبي المقدام, أما أبوه (أبو المقدام)
هو ثابت بن هرمز, فهو ثقة([594]), وسعيد
بن المسيّب تابعي ثقة ثبت([595]), ومحمد
بن علي بن خلف العطار, ثقة مأمون حسن العقل([596]).
أمّا حسين الأشقر؛ فقد
تقدّم في الجزء الأوّل([597]), ونتعرض
له هنا مختصراً, مع بعض الإضافات: فهو
صدوق لم يُتّهم بعدالته، بل صرّحوا بصدقه وعدم تعمّده الكذب، فقد ورد عن أحمد بن
محمّد بن هانئ، قال: «قلت لأبي
عبد الله ـ يعني ابن حنبل: تُحدّث عن حسين الأشقر؟ قال: لم يكن عندي ممّن يكذب... وقال
ابن الجنيد: سمعت ابن معين ذكر الأشقر، فقال: كان من الشيعة الغالية، قلت: فكيف
حديثه؟ قال: لا بأس به، قلت: صدوق؟ قال: نعم، كتبت عنه»([598]).
وذكره
ابن حبّان في كتاب الثقات([599]).
وقال
ابن حجر: «صدوق يهم، ويغلو في التشيع»([600]).
وقال النسائي: حسين الأشقر
ليس بالقوي([601]). وكذا
قال الدارقطني([602]).
والراجح عند أهل الفن أنّ
قولهم ليس بالقوي لا يعني التضعيف, بل يعني أنّه لا يبلغ رتبة الثقات الأثبات([603]). كما
أنّ الترمذي والبخاري يقبلون رواية الأشقر, فقد قال الترمذي معلّقاً على حديث:
>الذهب بالذهب عيناً بعين< والذي في رواته حسين
الأشقر: >سألت محمداً [يعني البخاري] عن هذا الحديث، فقال:
أرجو أن يكون محفوظاً، وحسين بن الحسن مقارب الحديث<([604]).
ولفظ: >مقارب الحديث< من ألفاظ التعديل, قال الترمذي عند كلامه عن الأفريقي: >ورأيت محمّد بن إسماعيل
يقوى أمره، ويقول: هو مقارب الحديث<([605]).
فتلخَّص, أنّ الرجل غير مطعون
في صدقه ووثاقته، بل الطعن جاء نتيجة تشيعه ورواياته لفضائل أهل البيت^.
وأمّا عمرو بن ثابت؛ فالظاهر أنّ الرجل صدوق في نفسه
وأحاديثه مستقيمة وليس فيها نكارة, لكنّهم ضعّفوه بأمور لا علاقة لها بالوثاقة,
وهذه الأمور هي الرفض والتشيع وسبّ السلف كما يزعمون، وروايته: ارتداد الناس بعد
رسول الله إلا أربعة:
قال أبو داود: >عمرو بن ثابت، وأبو إسرائيل، ويونس بن خباب ليس في
حديثهم نكارة<([606]), وقال:
>قد روى إسماعيل بن أبي خالد، وسفيان عن عمرو بن ثابت
ـ وهو المشؤوم([607])
ـ ليس يشبه حديثه أحاديث الشيعة, وجعل يقول: يعني أنّ أحاديثه كانت مستقيمة<([608]), وقال:
>وعمرو بن ثابت رافضي رجل سوء, ولكنّه كان صدوقاً في
الحديث<([609]).
كما أنّ ابن المبارك حدّث عنه
ثمّ ترك ذلك: قال الحاكم: >عمرو
بن ثابت هذا هو ابن أبي المقدام الكوفي، وليس من شرط الشيخين، وإنّما ذكرته
شاهداً، ورواية عبد اللّه بن المبارك عنه حثّني على إخراجه<([610]).
وقال
عبد الملك: >سألت ابن المبارك، قلت: عمرو بن
ثابت، لمَ تركتَ حديثه؟ قال: كان يشتم السلف؛ فلذلك تركت حديثه<([611]).
فابن
المبارك كان يحدّث عن عمرو، وقد أوضح العلّة في تركه إياه، وهي دعوى سبّ السلف,
ومرادهم من السلف على ما يبدو: عثمان, قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: >كان يشتم عثمان, ترك ابن المبارك حديثه<([612]). وهذه ليست بعلّة قادحة عندهم,
فهم يوثقون من يسبّ ويقع في عليّ بن أبي طالب, فلماذا يضعّف من يقع في عثمان ولا
يضعّف من يقع في غيره من الصحابة؟!!
ولذا نرى الحافظ أبا الوليد
هشام بن عبد الملك لا يرى به بأساً, قال الحافظ الفسوي: >فسمعت أبا الوليد هشام بن عبد الملك، يقول: قد كتبنا عنه
ونحدث عنه. فقال له قائل: ابن المبارك تكلّم فيه. قال أبو الوليد: كان يذهب مذهب الزيدية
ولم يكن به بأس<([613]).
كما أنّ هناد بن السري حدّث
عنه كثيراً, وقال: >كتبت
عن عمرو بن ثابت، قال: حدّثنا كثيراً فبلغني عنه أنه كان يوماً عند حبان بن علي،
قال هناد: وأخبرني من سمعه وما أراه إلا نوفل، يقول: كفر الناس بعد رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلا أربعة، قال: قيل لحبان: أيقول هذا ولم تنكر عليه؟ قال: فقال
حبان: هو جليسنا، كأنه قال: فكرهت أنْ أقول له شيئاً، قال: وكان حين تكلّم بهذا
الكلام يتناوم، كأنه ينعس، يعني حبان<([614]).
فنلحظ هنا أنّ حبّان بن علي
يرفض الطعن في عمرو بن ثابت، بل أظهر نفسه مظهر المتناعس لأجل أن لا يتكلم فيه, مضافاً
إلى أنّ هذه الرواية ليست بعلّة قادحة في الرجل, فهو لم يتفرد بها، بل قد روي ذلك
بأسانيد صحيحة، وعلى سبيل المثال ما جاء عن أنس، قال: >لما توفى رسول الله صلّى الله عليه وآله ارتدّت العرب<. والحديث صححه الحاكم
ووافقه الذهبي([615]).
كما أنّ عبد الرحمن بن مهدي
ارتضاه فحدّث عنه أيضاً, قال محمّد بن المثنى: >سمعت
عبد الرحمن يُحدّث عن عمرو بن ثابت بن أبي المقدام<([616]).
وقد لخص البزار الرأي في عمرو
بن ثابت, حيث قال:
>كان يتشيّع ولم يُترك<([617]).
ولذا فإنّ البخاري لم يزد على
أن قال: >ليس بالقوي عندهم<([618]). وعرفنا
فيما سبق أنّ هذه العبارة لا تدل على الجرح، بل تفيد درجة دانية من الوثاقة، فهو
بمنزلة الصدوق.
فتلخص من جميع ما تقدّم: أنّ
الرجل صدوق في نفسه, فيكون حديثه حسناً لذاته, ولا أقلّ من كونه صالحاً في
المتابعات والشواهد, فيعضد الحديثين اللذين قبله فيكون الحديث حسناً بمجموع طرقه.
الشاهد الثالث: توسّل آدم× بجاه محمّد|:
قال السيوطي: >وأخرج ابن المنذر عن محمّد بن علي بن حسين بن علي بن
أبي طالب قال: لمّا أصاب آدم الخطيئة عظم كربه واشتدّ ندمه، فجاءه جبريل، فقال: يا
آدم، هل أدلك على باب توبتك الذي يتوب الله عليك منه، قال: بلى يا جبريل، قال: قم
في مقامك الذي تناجي فيه ربّك فمجده وامدح، فليس شيء أحب إلى الله من المدح، قال:
فأقول ماذا يا جبريل؟ قال: فقل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله
الحمد يحيى ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير كلّه، وهو على كلّ شيء قدير، ثمّ تبوء
بخطيئتك، فتقول: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلاّ أنت رب إنّى ظلمت نفسي وعملت
السوء فاغفر لي إنّه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت.
اللهم إنّي
أسالك بجاه محمّد عبدك وكرامته عليك أن تغفر لي خطيئتي، قال: ففعل آدم، فقال الله:
يا آدم من علمك هذا؟ فقال: يا رب إنك لما نفخت في الروح فقمت بشراً سويا أسمع
وأبصر وأعقل وأنظر، رأيت على ساق عرشك مكتوباً: بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا
الله وحده لا شريك له محمد رسول الله، فلما لم أر على أثر اسمك اسم ملك مقرب ولا
نبي مرسل غير اسمه علمت أنه أكرم خلقك عليك، قال: صدقت، وقد تبت عليك وغفرت لك خطيئتك، قال: فحمد آدم ربه وشكره وانصرف بأعظم
سرور لم ينصرف به عبد من عند ربّه<([619]).
الشاهد الرابع: توسل آدم× بحق محمد| وآل
محمد:
أخرج
الديلمي في مسند الفردوس على ما ذكره السيوطي بسند رواه عن علي عن النبي’ أنّ
الكلمات التي قالها آدم فتاب الله عليه هي: >اللهمّ
إنّي أسالك بحقّ محمّد وآل محمّد سبحانك لا إله الا أنت عملت سوءاً وظلمت نفسي
فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم إنّي أسالك بحقّ محمّد وآل محمّد، سبحانك
لا إله إلا أنت عملت سوءاً وظلمتُ نفسي فتب عليّ انّك أنت التواب الرحيم، فهؤلاء
الكلمات التي تلقّى<([620]).
الشاهد الخامس: توسل آدم بحق محمد’:
قال
الآجري: >أخبرنا أبو أحمد هارون بن يوسف بن زياد التاجر، قال:
حدثنا أبو مروان العثماني، قال: حدثني أبي عثمان بن خالد، عن عبد الرحمن بن أبي
الزناد، عن أبيه قال: من الكلمات التي تاب الله بها على آدم عليه السلام قال:
اللهم إني أسألك بحق محمد عليك، قال الله عز وجل: يا آدم، ما يدريك بمحمد؟ قال: يا
رب رفعت رأسي فرأيت مكتوبا على عرشك: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنه
أكرم خلقك عليك<([621]).
الشاهد السادس: توسّل آدم بحرمة النبي’:
أورده
القسطلاني في المواهب اللدنية, قال: >وروي
أنّه لما خرج آدم من الجنّة رأى مكتوباً على ساق العرش وعلى كل موضع في الجنّة اسم
محمد’ مقروناً باسم الله تعالى, فقال: يا ربّ هذا محمد من هو؟ فقال الله: هذا ولدك
الذي لولاه ما خلقتك. فقال: يا رب بحرمة هذا الولد ارحم هذا الوالد, فنودي: يا
آدم, لو تشفعت إلينا بمحمّد في أهل السماوات والأرض لشفعناك<([622]).
وينتج
من جميع ذلك أنّ الحديث قويٌ بشواهده.
الدليل
الثالث على التوسل بالذات
توسّل النبي| بنفسه وبالأنبياء الذين
من قبله
قال الطبراني: >حدّثنا أحمد بن حمّاد بن زغبة قال: حدّثنا روح بن
صلاح قال: حدّثنا سفيان الثوري, عن عاصم الأحول, عن أنس بن مالك قال: لمّا ماتت
فاطمة بنت أسد بن هاشم أمّ عليّ, دخل عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجلس
عند رأسها، فقال: رَحِمَكِ الله يا أمّي, كنتِ أمّي بعد أمّي, تجوعين وتشبعيني,
وتعرين وتكسيني, وتمنعين نفسك طيب الطعام وتطعميني, تريدين بذلك وجه الله والدار
الآخرة, ثمّ أمر أن تغسل ثلاثاً وثلاثاً, فلمّا بلغ الماء الذي فيه الكافور سكبه
عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده, ثمّ خلع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
قميصه فألبسها إياه, وكُفّنت فوقه, ثمّ دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسامة
بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلاماً أسود ليحفروا, فحفروا قبرها,
فلمّا بلغوا اللحد حفره رسول الله بيده, وأخرج ترابه بيده, فلمّا فرغ دخل رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم فاضطجع فيه، وقال: الله الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت
اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ولقّنها حجتها, ووسّع عليها مدخلها, بحق نبيك والأنبياء
الذين من قبلي, فإنّك أرحم الراحمين, ثمّ كبّر عليها أربعاً, ثمّ أدخلوها القبر هو
والعبّاس وأبو بكر الصديق<.
قال
الطبراني: >لم يرو هذا الحديث عن عاصم الأحول
إلا سفيان الثوري, تفرد به روح بن صلاح<([623]).
قال
الهيثمي: >رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه روح بن صلاح
وثقه ابن حبان والحاكم وفيه ضعف، وبقيّة رجاله رجال الصحيح<([624]).
قلت:
عبارة الهيثمي تدلّ على تحسين حديث الرجل, فإنّه قال: فيه ضعف, ولم يقل ضعيف, فأقلّ
حالاته أن يكون حديثه حسناً.
وقال
الفقيه ابن حجر الهيتمي: >وروى
الطبراني بسند جيد أنّه ذكر في دعائه بحق نبيّك والأنبياء الذين من قبلي<([625]).
والحديث دلالته صريحة
في التوسّل؛ ولذا ذكره الفقيه ابن حجر الهيتمي تحت عنوان: >جواز التوسل برسول
الله صلى الله عليه واله وسلم<([626]),
وقال العلامة أحمد زيني
دحلان: >ومما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من التوسل أنه كان يقول في بعض أدعيته بحق
نبيك والأنبياء الذين من قبلي<([627]),
ولم نر منكراً لذلك([628]), نعم
حاولوا تضعيف السند بـروح بن صلاح، والذي يقال له: روح بن سيابة, بدعوى عدم توثيقه
إلاّ من ابن حبّان والحاكم وهما متساهلان, وقد جرحه غيرهم فيقدّم الجرح على
توثيقهما.
والجواب: لا بدّ أن نقف على كلمات الجرح والتعديل فيه وملاحظة
ما ادعي من تساهل الحاكم وابن حبان ليتضح حال الرجل وهل يمكن الاحتجاج به أم لا:
أمّا التوثيق فقد وثقه
ثلاثة من أئمّة النقد وليس اثنين:
1ـ الحاكم النيسابوري,
حيث قال في سؤالات السجزي: >روح
بن صلاح, ثقة مأمون<([629]).
وتساهل الحاكم إنّما هو
في المستدرك حيث ألّفه في آخر عمره ووافته المنيّة ولم يكمل تنقيحه, وقيل إنّه
تغير في آخر عمره([630]), وأمّا
في غيره فهو معتدل إنْ لم يحكم بتشدده:
قال
المعلمي اليماني - بعد ذكر أسباب وقوع الخلل في المستدرك-: >وذكرهم للحاكم بالتساهل إنّما يخصونه بـ (المستدرك) فكتبه
في الجرح والتعديل لم يغمزه أحد بشيء ممّا فيها فيما أعلم، وبهذا يتبيّن أنّ التشبث
بما وقع له في (المستدرك) وبكلامهم فيه لأجله, إن كان لإيجاب التروي في أحكامه التي
في (المستدرك) فهو وجيه, وإن كان للقدح في روايته أو في أحكامه في غير (المستدرك) في
الجرح والتعديل ونحوه فلا وجه لذلك، بل حاله في ذلك كحال غيره من الأئمة العارفين,
إنْ وقع له خطأ فنادر كما يقع لغيره, والحكم في ذلك إطراح ما قام الدليل على أنّه أخطأ
فيه وقبول ما عداه<([631]).
ولو تنزلنا وقلنا إنّه متساهل
فلا يمكن طرح قوله هنا بالكلية, فهو قال عن الراوي: >ثقة
مأمون<,
فلا أقل من كون الراوي ثقة أو صدوق.
2ـ الحافظ يعقوب بن سفيان الفسوي, فقد روى عنه, قال
الخطيب البغدادي عن روح بن صلاح المصري: >وهو
روح بن سيابة الحارثي, روى عنه يعقوب بن سفيان< ثم ساق له رواية عنه([632]), وقد صرح
الفسوي بأنّ مشايخه كلّهم ثقات, قال: >كتبت
عن ألف شيخ وكسر كلّهم ثقات<([633]). فيكون روح
بن صلاح ثقة عند الحافظ الفسوي, وهو من أئمّة الجرح والتعديل وقوله معتمد.
2ـ ابن حبان حيث ذكره في الثقات وقال: >روح بن صلاح من أهل مصر, يروي عن يحيى بن أيوب وأهل
بلده, روى عنه محمد بن إبراهيم البوشنجي وأهل مصر<([634]).
وغاية ما يؤخذ على ابن
حبان أنّه وثق المجهولين؛ بناء على عدالة المسلم ما لم يجرح, وفي المقام يمكن
القول بأنّ ابن حبّان لم يذكر روح بن الصلاح في الثقات بناء على كونه مجهولاً؛
وذلك لوضوح رواية الأئمّة والثقات عنه أمثال الحافظ يعقوب بن سفيان, والحافظ محمد
بن إبراهيم البوشنجي, وأحمد بن حماد بن زغبة كما تقدّم, وغيرهم كثير, وكذا فقد
ترجم له النقاد أمثال ابن يونس وهو متقدم على ابن حبّان, فمن البعيد جدّا عدم
معرفة ابن حبان بذلك, خصوصاً أنّه صرّح برواية المصريين عنه, فذكْره له هو توثيق
غير مبتن على تلك القاعدة وهو توثيق مأخوذ به.
وأمّا التضعيف:
1ـ قال ابن عدي: ضعيف, وذكر له
حديثين ونسب البلاء في الثاني منها إلى غيره، فقال: وهذان الحديثان بإسناديهما
ليسا بمحفوظين ولعل البلاء فيه من عيسى هذا([635])
فإنّه ليس بمعروف ولروح بن سيابة أحاديث ليست بالكثيرة عن ابن لهيعة والليث وسعيد
بن أبي أيوب ويحيى بن أيوب وحياة وغيرهم وفي بعض حديثه نكرة([636]).
أقول: أمّا قوله: ضعيف, فهو جرح غير مفسر لا يصمد أمام
التوثيق, وأمّا قوله: وفي بعض حديثه نكرة, فهو أيضاً لا يمكن الركون إليه, فإنّ
ابن عدي ذكر أنّ البلاء في أحد الحديثين من عيسى وليس من روح.
أضف إلى ذلك أنّ النكارة في الحديث ليست بعلة
قادحة ما لم تكثر عند الراوي وتصبح صفة ملازمة له بحيث يقال عنه منكر الحديث, فإنّ
مجرد وجود النكارة في حديث الرواي ليس بجرح مفسد له, قال في النكت: >ومما أجمله ابن الصلاح قولهم: روى أحاديث مناكير، قال
الشيخ في شرح الإلمام: لا يقتضي بمجرده ترك روايته حتى تكثر المناكير في روايته وينتهي
إلى أن يقال فيه: منكر الحديث، فليتنبه للفرق بين قولهم: منكر الحديث، وروى مناكير<.
وقال في الإلمام: من يقال فيه: منكر الحديث، ليس كمن يقال
فيه: روى أحاديث منكرة؛ لأن منكر الحديث، وصف في الرجل يستحق به الترك لحديثه، والعبارة
الأخرى تقتضي أنه وقع له في حين لا دائماً, وقد قال أحمد بن حنبل في محمد بن إبراهيم
التيمي: يروي أحاديث منكرة، وقد اتفق عليه الشيخان وإليه المرجع في حديث: إنّما الأعمال
بالنيات. انتهى<([637]).
وقال الذهبي: >ما كلّ من روى المناكير يضعف<([638]).
بل لعلّ النكارة في
الحديث ترجع إلى من رووا عنه أو روى عنهم, كما في المقام فابن عدي ارجع النكارة في
أحد الحديثين إلى عيسى, الراوي عن روح, ولم ينسب النكارة إلى روح نفسه.
2ـ وفي لسان الميزان: >ذكره ابن يونس في تاريخ الغرباء فقال من أهل الموصل قدم
مصر وحدّث بها رويت عنه مناكير ثمّ ذكر وفاته. ونسبه ابن صلاح بن سيابة بن عمرو الحارثي.
وقال الدارقطني: ضعيف في الحديث, وقال ابن ماكولا: ضعّفوه سكن مصر<([639]).
قلت: أمّا التضعيف فهو غير مفسَّر,
وأمّا رواية المناكير عنه فهي غير قادحة، كما تقدم قبل قليل, ومنه يتضح وثاقة
الرجل ولا أقل من كون حديثه حسناً لذاته.
الدليل الرابع على التوسل
بالذات
أمر عائشة بفتح كوى على
قبر النبي لأجل الاستسقاء:
أخرج الدارمي في سننه، قال: >حدّثنا أبو النعمان ثنا سعيد بن زيد ثنا عمرو بن مالك
النكري حدّثنا أبو الجوزاء أوس بن عبد الله، قال: قحط
أهل المدينة قحطاً شديداً فشكوا إلى عائشة فقالت: انظروا قبر النبي صلّى الله عليه
وسلّم فاجعلوا منه كوى إلى السماء؛ حتّى لا يكون بينه وبين السماء سقف, قال:
ففعلوا فمطرنا مطراً حتّى نبت العشب وسمنت الإبل حتّى تفتقت من الشحم, فسمّي عام
الفتق<([640]).
فهذا توسّل بقبره الشريف للاستسقاء؛ وهو إمّا أن
يدخل في هذا النوع، باعتبار أنّ القصد من فتح الكوّة هو توسل إلى الله بحقّ صاحب
هذا القبر, أو يدخل في النوع المتقدم من طلب الدعاء من النبيّ’ بعد وفاته، باعتبار
فتح الكوة كناية عن الطلب من النبيّ ’ أنْ يدعو الله في نزول المطر, وكيف ما كان,
فالرواية تدحض كلام السلفيين في حرمة التوسّل أو كونه من الشرك, فإنّ فعْل السيّدة
عائشة لم يكن بمعزل عن بقيّة الصحابة وعلماء وأئمّة المدينة ولم يكن هناك أيّ
اعتراض على ذلك, فهل كانت السيّدة عائشة تدعو إلى الشرك أو فعل الحرام وأقرّها
الصحابة والتابعون على ذلك؟!
وقد حاول السلفيّة على
عادتهم الطعن بهذا الحديث بأمور لا ترقى إلى الحوار العلمي, نوردها فيما يلي ونجيب
عنها مختصراً:
الأمر الأول: أنّ في سند الخبر سعيد بن
زيد, وفيه ضعف, قال فيه الحافظ في (التقريب): صدوق له أوهام. وقال الذهبي في (الميزان):
>قال يحيى بن سعيد: ضعيف وقال السعدي: ليس بحجّة يُضعّفون
حديثه، وقال النسائي وغيره: ليس بالقوي، وقال أحمد: ليس به بأس, كان يحيى بن سعيد لا
يستمرئه<([641]).
الجواب: إن سعيد بن زيد من رجال
مسلم ووثّقه يحيى ابن معين, وقال عنه البخاري: صدوق حافظ, وقال ابن سعد: كان ثقة, وقال
أبو حاتم والنسائي ليس بالقوي، وقال العجلي بصري ثقة، وقال أبو زرعة: سمعت سليمان بن
حرب يقول: ثنا سعيد بن زيد وكان ثقة، وقال أبو جعفر الدارمي: ثنا حبان بن هلال ثنا
سعيد بن زيد وكان حافظاً صدوقاً، وقال ابن عدي وليس له منكر لا يأتي به غيره وهو عندي
في جملة من ينسب إلى الصدق([642]), أفليس
من العجب طرح كلّ هذه التوثيقات لأجل جرح غير مفسّر, ولا نعرف لماذا غض الألباني
الطرف عن ذكر كل هذه التوثيقات؟!، خصوصاً توثيق ابن معين ومسلم والبخاري, على أنّ
ما ذكره من قول النسائي: ليس بالقوي, ليس بتضعيف, بل درجة دانية من الوثاقة([643]), كما
أنّ قول أحمد: ليس به بأس, ليس من التضعيف في شيء, بل هو توثيق للرجل في ذاته,
فأقل حالات الرجل مع كلّ هذه التوثيقات ومع ملاحظة أنّ الجرح المذكور في حقّه غير
مفسر أن يكون حديث الرجل حسناً لذاته إن لم يكن صحيحاً، ولو ضعفنا الرجل مع كل هذه
التوثيقات لما سلم لنا راوٍ.
ولهذا فقد تعقب مؤلفا كتاب تحرير التقريب قول ابن حجر: صدوق له أوهام, بقولهما: >بل صدوق حسن الحديث<(