نقد كتاب أصول مذهب الشيعة

لمؤلفه  الدكتور  السلفي  ناصر  بن  عبد  الله  القفاري

 

منهج تأسيسي في الإجابة

عن الشبهات المثارة ضدّ المذهب الشيعي

 

الجزء الأول

أ. د. السيّد محمّد الحسيني القزويني

الاُستاذ في  الحوزة  العلمية  قسم الدراسات العليا في  قم المقدسة،

ورئيس قسم الحديث، وعضو الهيئة  العلمية في جامعة  آل  البيت  ^ العالمية.

 


 

هوية الكتاب

اسم الكتاب:.......................... نقد كتاب اُصول مذهب الشيعة

تأليف:..... أ د. محمد الحسيني القزويني بمساعدة اللجنة العلمية

الإخراج الفني وتدقيق المصادر:.......................... حسن السعدي

الناشر:.................. مؤسسة وليّ العصر# للدراسات الإسلامية

رقم الإيداع الدولي (ج1):...................  9 ــ 31 ــ 8615 ــ 964 ــ  978

رقم الإيداع الدولي للدورة:....................  6 ــ 32 ــ 8615 ــ 964 ــ 978

الطبعة:............................................. الأولى 1434هـ ــ 2013م

عدد النسخ:..................................................... 5000 نسخة

يحق للجميع طبع الكتاب ونشره مع إعلام المؤلف والناشر قبل ذلك

 

 


 

 

 

 

 

اللجنة العلمية

د. فلاح عبد الحسن الدوخي

د. يحيى عبد الحسن الدوخي

د.حكمت جارح الرحمة

السيّد حاتم كاطع البخاتي

 

 

تحت إشراف

أ. د. السيّد محمد الحسيني القزويني

 

 


 

 

 

 

إهداء

إلى من كان رمزَ  الجهاد والتضحية  والفداء، إلى من أفنى حياته في الدفاع عن حريم الإسلام وإعلاء كلمته، إلى من وطّد أركان الإسلام بجهده وجهاده، إلى من كان همّهُ الحفاظ على وحدة المسلمين وتقوية شوكتهم في وجه أعدائه، إلى ابن عمّ النبي’ وأخيه، أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب× نُهدي هذا الجهد المتواضع، والبضاعة المزجاة، راجين من الله تعالى القبول.


 

 

 

 

 

 


 

 

مقدمة  الكتاب

لقد كان الحفاظ على وحدة الاُمّة الإسلامية وتماسكها هدفاً أسمى وغاية عظمى للمشرع الإسلامي، ففي ظلّ هذه الوحدة ستنعم الاُمّة بالأمن والاستقرار، وتشيع فيها أجواء المحبّة والاُلفة، وتنمو بذور الخير والعطاء، فتصبح الاُمّة من خلال ذلك قدوةً واُسوةً لكلّ الأمم، ومثلاً يُحتذى به، فتسعى الاُمم إلى اعتناق الإسلام والدخول في دين الله تعالى؛ لما يرون ما فعله هذا الدين بهذه الاُمّة من إشاعة قيم المحبّة والتكاتف والتعاضد.

كما أن الاتّحاد والتآلف يجعل الاُمم والجماعات قويةً متماسكةً صلبةً، فلا يطمع فيها طامع، أو يغدر بها غادر، ومن هذا المنطلق حثّت الشريعة الإسلامية على وحدة الأمة وأكدت على ضرورة ترابط نسيجها الاجتماعي، وحذّرت في الوقت ذاته من العواقب الوخيمة والآثار السيئة للفرقة والتشتّت والتشرذم، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْل اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}([1]) وقال سبحانه: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}([2]) وقال عزّ وجلّ: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}([3]).

وأردفت السنّة النبويّة القرآن الكريم ببيانات كثيرة تحضّ على الوحدة والألفة والتوادّ، ونبذ الخلاف والتباغض، فقال: «مَثَلُ المؤمنين في توادّهم وتعاطفهم وتراحمهم مَثَلُ الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى»([4])، وقال أيضاً: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمّتهم أدناهم، وهم يدٌ على من سواهم»([5]).

من هنا، فقد تمّ التصدي لمن يحاول أن يقوّض دعائم الوحدة الإسلامية، ويقطّع عراها، ويزرع بذور الشقاق والتفرقة والفتنة بين المسلمين، من خلال التحذير منه، ومناهضته بشتى السبل والوسائل؛ بغية الحدّ من خطورته وتأثيره في الجبهة الداخلية للمسلمين، قال: «أنّه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرّق أمر هذه الاُمّة وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائناً من كان»([6])، وقال أيضاً: «الفتنة نائمة، لعن الله من أيقظها»([7]).

ومن ثمّ ترى الكثير من عقلاء الاُمّة وقادتها تتعالى أصواتهم لإخماد أيّ فتنة وبلية تطلّ برأسها لتعبث بحاضر المسلمين ومستقبلهم، فكانت هذه الضمائر الحية لا تألو جهداً على طول التاريخ في رأب الصدع، وتعزيز أواصر الاُخوّة الإيمانية بين المسلمين، وتنقية الأجواء ممّا يشوبها من كدر بعض الخلافات والتقاطعات؛ لذا كانت تعقد المؤتمرات واللقاءات بين علماء المسلمين من مختلف الطوائف والمذاهب؛ ليتبادلوا وجهات النظر وإبداء الرؤى، بما يخدم المصلحة الإسلامية العليا.

إلاّ أنّه وفي موازاة هذه الجهود الخـيّرة والنيات المخلصة التي جعلت مصلحة الإسلام والمسلمين نصب عينيها، قد برز تيّار إسلامي خطير، يتفاخر بالانتماء إلى سلف الاُمّة وماضيها التليد، ويدّعي إحياء تراثها والرجوع بها إلى سالف عهدها المشرق، من خلال اُطروحات فكرية ودعوات تتقاطع مع مبادئ الإسلام الأصيل ومع مشروعه الوحدوي، فكانت دعواته هذه المتلفّعة بأردية الإصلاح، والتمسّك بالإسلام، والسير على نهج السلف الصالح، كانت تحمل في جوهرها روح التعصّب والتطرّف والتشدّد، واستعداء كلّ من لا يوافقها الرأي والمنهج، أو لا يرتضي كيفية تعاطيها النصوص الإسلامية، من كلّ المذاهب والتيارات.

إنّ هذا التيّار هو ما يعرف اليوم بالتيّار السلفي الوهّابي الذي ترجع جذور تكوينه إلى ما يسمّى بشيخ الإسلام، ابن تيمية الحرّاني، المتوفى سنة (728هـ)، الذي يعدّ بجدارة مهندس هذا الفكر وواضع أساسه وراسم معالمه.

لقد خالف ابن تيمية، في فهمه للنصوص الإسلامية، كثيراً من الثوابت والمسلّمات الدينية، وأسّس رؤاه على الفهم السطحي لتلك النصوص، فانتهى به الأمر إلى تبديع وتكفير قطّاعات واسعة من المسلمين وإخراجهم من ملّة الإسلام؛ لمجرد أنّهم لا يلتقون مع أفكاره وتصوراته التي يدّعي أنّه استقاها من مواقف السلف وأقوالهم!!([8]).

وزعم أنّه القادر على فهم أقوال السلف وأفعالهم، من هنا نجده كثيراً ما يفسّر ويفتي وفق فهمه الشخصي لقول السلف، وهذا الفهم عادة ما يكون فهماً سطحيّاً لا يمت إلى الواقع بصلة.

لقد كان ردّ فعل علماء المسلمين تجاه هذا اللون من التفكير، سريعاً وإيجابيّاً، فتصدّى له العديد منهم بكل حزم وشجاعة، بعد أن استشعروا خطورته وتهديده لوحدة الاُمّة الإسلامية وعقيدتها، فاُلّفت الكتب وصدرت الفتاوى بحقّ ابن تيمية ومن يؤمن بأفكاره وطروحاته([9])، فضُيّق عليه، وتعرّض لمعاملة قاسية انتهت به إلى السجن، ليلقى حتفه هناك([10])، ومع هذا ظلّت تداعيات وأصداء هذا المنهج موجودة يتعاهدها بعض من تأثّر بها من تلامذته ومن سار على خطاهم، وإن كان صوتهم ضعيفاً وأتباعهم قلّة.

ولكنّ هذا الأمر لم يدم طويلاً، حتى شاءت الأقدار أن يقوى هذا المنهج وتبعث فيه الروح من جديد، وأن يكون ذلك الانبعاث في قلب الجزيرة العربية، مهد الإسلام، وذلك في القرن الثاني عشر الهجري، على يد رجل يدعى (محمّد بن عبد الوهاب) الذي تهيّأت، أو هُيّئت، له ظروف خاصّة ووسائل داعمة، ساعدت على فرض أفكاره وتصوّراته على المسلمين في الجزيرة، والذين كانوا قد قاوموا هذا التوجّه في بادئ الأمر، إلاّ أنّ قوّة السلطان والمال والسلاح كانت أقوى من إرادة الناس، فغُلبوا على أمرهم، وفُرضت عليهم معتقدات وآراء محمّد بن عبد الوهاب وأتباعه من الوهابيين([11])، فتجرّع المسلمون من أبناء الطوائف والمذاهب السنّية، المرارة والمعاناة، واُجبروا على ترك معتقداتهم وممارسة شعائرهم الإسلامية، التي اعتبرت بدعاً وضلالاتٍ حسب المنهج الجديد، وأزيلت تلك الشعائر بحجّة تطهير الجزيرة من مظاهر الشرك والوثنية ومحاربة البدع!! وطمست معالم الإسلام وآثار النبوّة المباركة في أرض الجزيرة، فضلاً عمّا عانته، جرّاء ذلك، بقيّة الطوائف والمذاهب الإسلامية الاُخرى.

ثمّ إن هذا المدّ المتطرّف والمتشدّد، بدأ ينتشر شيئاً فشيئاً في أرجاء البلاد الإسلامية؛ بسبب الدعم اللا محدود، مادّياً ومعنوياً، من قِبَل السلطات الحاكمة في أرض الجزيرة التي تبنّت هذا الفكر، فأغدقت الأموال الطائلة واستغلّت الخيرات الكثيرة ـ التي حبا الله بها أرض المسلمين ـ من أجل نشر وتبليغ الأفكار السلفية الوهابية.

لقد كاد هذا اللون من الفهم والإدراك، للإسلام، أن يَغطّي على كلّ الألوان والاجتهادات الإسلامية التي تستند في فهمها واجتهادها إلى الكتاب والسنّة أيضاً ـ على حدّ اعتقادها ـ فخبت وذوت كثير من المراكز العلمية والفعاليات الفكرية لبقية الطوائف، خصوصاً في الجزيرة العربية، وحُرم علماؤها من ممارسة نشاطاتهم العلمية والتبليغية، واُعطيت الفرصة لمذهب ولون واجتهاد معيّن، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى في هذا المجال.

إنّ هذه الجماعة السلفية ـ وانطلاقاً ممّا تحمله من نهج متزمّت وأسلوب متطرّف يمتاز بالحدّة والجفاء، ويلازمه فهم سطحي للإسلام وتعاليمه السمحاء ـ هاجمت كلّ من لا يتناغم معها في الطرح والفهم، واستخدمت في هذا السبيل كلّ وسيلة، بما فيها القوّة والعنف، من أجل فرض أفكارها ومتبنّياتها، فبدّعوا وكفّروا العديد من الطوائف والجماعات الإسلامية، وكان الشيعة الذين هم أتباع أهل البيت^، هدفهم الأوّل وغرضهم الأهمّ، من بين جميع طوائف المسلمين، فذاقوا منهم الويلات والمصائب أينما وجدوا، وأخذت تطالهم يد التعدّي أينما كانوا، حتى مع كونهم يشاركونهم الوطن والعيش المشترك، فكان التمييز والتهميش، والإقصاء عن كلّ مظاهر الحياة الاجتماعية والسياسية والعلمية، هو أقلّ ما يمكن أن يناله الشيعة منهم.

بالإضافة إلى إشاعة جوٍّ من العداء والبغض تجاه أتباع أهل البيت^، في كلّ مكان من البلاد الإسلامية، مستخدمين جميع الوسائل المتاحة، في حين كان أتباع مذهب أهل البيت^ يدعون إلى السلم، والتعايش المنضبط مع كافّة المسلمين، بل وغير المسلمين، محكّمين لغة الحوار، متبنّين مبدأ {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} على ايّ منطقٍ آخر أو نهج آخر، فكانوا هم السبّاقين، دوماً، إلى التقريب بين المذاهب والطوائف، حفاظاً على بيضة الإسلام ومقدّرات المسلمين([12])، وكانوا في ذلك يمتثلون أوامره تعالى في محكم التنزيل([13]) فضلاً عن وصايا أئمة أهل البيت^، الذين كانوا يحثّون أتباعهم ومريديهم على الحفاظ على وحدة المسلمين وصيانة كيانهم، وهذا ما تشهد به سيرتهم^ ومواقفهم، وما صدر عنهم من أقوال وتوجيهات.

فنرى أمير المؤمنين× يسكت عن حقّه مدّة طويلة، ويلزم سمت المسلمين وجماعتهم، مُقدّماً النصح والإرشاد لولاتهم وأمرائهم، بعد أن رأى الأخطار محدقة بالإسلام، ومنذرة بذهاب جهود النبيّسدى، فصبر وفي العين قذىً وفي الحلق شجا، بعد أن رأى تراثه نهباً وحقّه غصباً، إلاّ أنّه آثر المحافظة على كيان الاُمّة الإسلامية ووحدتها، وغضّ عمّا له من حقّ في الإمامة والخلافة.

قال في كلام له×، لمّا عزموا على بيعة عثمان: «لقد علمتم أنّي أحقّ الناس بها من غيري، ووالله لأسلمن ما سلمت اُمور المسلمين »([14]).

ونجده أيضاً، في كلام له آخر، يقول: «فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى مَحْقِ دين محمّد صلّى الله عليه وآله، فخشيتُ، إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليّ أعظمَ من فوت ولايتكم، التي إنّما هي متاع أيّامٍ قلائل، يزول منها ما كان كما يزول السراب...»([15]).

وكذلك يخاطب الخوارج في زمان إمامته×، يقول: «والزَموا السواد الأعظم، فإنّ يد اللّه مع الجماعة. وإيّاكم والفرقة، فإن الشاذّ من النّاس للشيطان، كما أن الشاذّ من الغنم للذئب»([16]).

وقال×: «وعليكم بِالتواصلِ والتباذلِ، وإِيّاكم والتدابر والتقاطع»([17]).

وكتب إلى أبي موسى الأشعري، حين رأى الأخير أنّ خلْعَ عليّ ومعاوية، من الخلافة، هو توحيد لجماعة المسلمين: «وليس رجلٌ أحرصَ الناس على جماعة اُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وألفتها منّي، أبتغي بذلك حُسنَ الثواب وكَرمَ المآب، وسأفي بالذي وأيتُ على نفسي»([18]).

وبهذا يكون الإمام×، هو المثلُ الأعلى، والاُسوة، وهو المؤسّس لنظرية التعايش والوحدة مع الخطّ المخالف له؛ من أجل تحقيق مصالح الإسلام العليا.

وعلى نفس المنوال سار خَلَفُه الصالح، وهم أئمّة أهل البيت^، فأمروا أتباعهم وجميع المسلمين بالتراحم والتعايش والتواصل والتفاعل فيما بينهم، ونبذ الفُرقة والقطيعة، واجتناب أسباب التناحر والصِدام، مهما حصل من خلاف واختلاف في وجهات النظر، فقد روي عن الإمام الصادق× وهو يوصي أتباعه بالتفاعل والتواصل مع سائر المسلمين، قال: «عودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، وصلّوا في مساجدهم»([19]).

وعنه× أيضاً قال: «من صلّى معهم في الصف الأوّل كان كمن صلّى خلف رسول الله’»([20]).

وروى الشيخ الصدوق أيضاً في كتابه: صفات الشيعة، عن أبي عبد الله× قال: «إنّ الله عزّ وجلّ يقول في كتابه: {قُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً}، ثمّ قال: عودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، واشهدوا لهم وعليهم، وصلّوا معهم في مساجدهم، واقضوا حقوقهم»([21])، ولذا كان الشيعة، أتباع مذهب أهل البيت^، على مرّ التاريخ، يعيشون بين إخوانهم من أصحاب المذاهب والطوائف الإسلامية الاُخرى، في وئام وانسجام، لم يبدر منهم ما يثير الفرقة والخلاف، وكانوا يشاركون إخوانهم في السرّاء والضرّاء، ويحملون هموم الاُمّة الإسلامية وقضاياها المصيرية، وكانوا يهبّون للدفاع عن حريم الإسلام إذا داهمته الأعداء، فشاركوا في الفتوحات الإسلامية ومعارك المسلمين الدفاعية، وكانوا من المرابطين في ثغور المسلمين، يحمون حدود الدولة الإسلامية، ويصونون منجزاتها ويذبّون عن مقدّساتها.

وكان هذا ديدنهم، في كلّ زمان ومكان، ففي العصر الحديث عندما غزت جيوش الغرب أرض المسلمين، كما حصل في العراق في مطلع القرن العشرين، هبّ الشيعة بعلمائهم وعامّتهم؛ للدفاع عن الدولة العثمانية ذات المذهب السنّي آنذاك؛ لكونها تحمل شعار الإسلام، رغم أنّها كانت آنذاك تضطهد الشيعة وتسيء إليهم، إلاّ أن ذلك لم يكن ليمنعهم من حمل راية الجهاد؛ دفاعاً عن الإسلام والمسلمين، وهكذا تراهم اليوم أيضاً في أماكن تواجدهم، شوكةً في عيون أعداء الإسلام من المستكبرين والصهاينة الغاصبين، كما هو الحال في شيعة إيران ولبنان والعراق، وغيرها من بلاد المسلمين، وهو دليل قاطع، وردٍّ حاسم، على تخرّصات بعض المغرضين الحاقدين، الذين يتّهمون الشيعة بممالأة الأجنبي ضدّ المسلمين، وهي التهمة التي روّج لها ابن تيمية وسوّقها، وراح أتباعه يجترّونها دون دراية وتمحيص.

لقد امتدّت الهجمة السلفية على الشيعة، أتباع مذهب أهل البيت^، أفقياً وعمودياً، وبشكل كثيف ومركّز، فلو استثنينا بعض المحاولات والكتابات حول الشيعة، والتي ابتدأها الجاحظ في القرن الثالث، في كتابه العثمانية، ثمّ القاضي عبد الجبار المعتزلي، في القرن الرابع، في كتابه المغني وغيرهما، والتي كانت على نطاق محدود، وفي فتراتٍ متباعدة؛ فإنّ القرن الثامن الهجري يعدّ الانطلاقة الحقيقية لمسلسل الافتراءات على الشيعة، أتباع منهج أهل البيت^ من قبل ابن تيمية الحرّاني وأتباعه من بعده، فلا يكاد يخلو قرن، من هذه الكتابات والمؤلفات، ولو أجرينا مسحاً تاريخياً لهذه الكتب وأزمنتها، لا نجد أنّ هناك زمناً يخلو من كتاب أو أكثر من هذه الكتب.

فهناك توسّع كبير لأعداد هذه الكتب في كلّ وقت، خصوصاً في العصر الحديث، فبناءً على آخر إحصائيات إحدى المؤسسات البحثية قد اُلّف ضدّ الشيعة ما يقارب خمسة آلاف كتاب بلغات متعددة.

 والجدير بالذكر أنّ سبعين بالمائة من هذه الكتب قد اُلّف بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وطبقاً لما أعلنته سفارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية في باكستان، فإنّه قد تمّ في غضون سنة واحدة إصدار ستّين عنوان كتاب تهاجم الشيعة بلغ عدد نسخها ثلاثين مليون نسخة!!([22]).

لقد كان همّ هؤلاء الكتاب والمؤلفين، في كتاباتهم ضد الشيعة، هو البحث والتنقيب في بطون الكتب، وركام الماضي، عن كل مشتبه ومحتمل؛ ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وعن كل شاردة وواردة وهفوة تخدم أغراضهم غير الطيّبة، من دون أن يلتمسوا لذلك عذراً، بل توسلوا ـ من أجل تحقيق غاياتهم ـ بالكذب والافتراء تارةً، وبالتضخيم والتهويل تارةً أخرى، بحجّة الدفاع عن الإسلام ورموزه.

لقد كانت هذه الكتابات، في مجملها، أصداء وانعكاسات لما كتبه ابن تيمية وأتباعه، فتراها مكرّرة محشوّة بالافتراءات والمغالطات، بعيدة عن الموضوعية والإنصاف وروح البحث العلمي، في حين لم تصدر من أتباع مذهب أهل البيت^ كتب أو مؤلفات تهاجم أتباع المذاهب الاُخرى وتتحامل عليهم، بل كانت جلّ كتاباتهم هي للدفاع عن أنفسهم انتصاراً لمذهب الحق، وكشفاً للمغالطات والافتراءات التي تُشنّ ضدّه.

إن نظرة بسيطة لحجم الأرقام والإحصائيات، لما يكتب وينشر ضد أتباع مذهب أهل البيت^، سنوياً، تجعل المرء يقف مندهشاً حائراً، يهوله ما يرى وما يسمع، والشيء نفسه في مجال الإذاعة والتلفزة، فلم يعد خافياً وجود العديد من المحطّات الإذاعية والفضائيات المعدّة لهذا الغرض، فضلاً عن حقل (الانترنت)، حيث تجد مئات الآلاف، إن لم تكن الملايين، من الصفحات المكرّسة لإثارة الشبهات والإشكالات حول فكر ومذهب أهل البيت^، إضافة إلى مئات المنتديات ومواقع الحوار وتسجيل المحاضرات، التي تتناول كلّ ما يتعلّق بالشيعة بالطعن والتجريح.

هذا، مع ما يرافقه في كلّ حين من وابلٍ من قذائف الفتاوى والدعوات والبيانات، التي تدعو إلى تكفير الشيعة وتبديعهم وتضليلهم، وإقصائهم عن الحياة الاجتماعية والسياسية، بل وتدعو إلى قتلهم وإبادتهم. وما يحصل لهم اليوم، من حصد للأرواح البريئة، وإراقة للدماء، ونشر للخراب والدمار، في كافّة بلاد المسلمين ـ لا الكافرين ـ ما هو إلاّ نتيجة طبيعية لما يقوم به هؤلاء!!

ورغم كلّ ذلك قد يقال: إنّ الكثير من هذه الكتابات والمواقف ـ غير المشرّفة ـ وغيرها من المحاولات، ترجع إلى اجتهادات شخصية، يتولاها أشخاص لا يعبّرون عن وجهة النظر العامّة للسلفية الوهابية ولا يمثّلون معتدلي القوم ومربّي الأجيال، ومن أخذوا على عاتقهم بعث أمجاد السلف وما يحملونه من روح التسامح والأخوة والرحمة.

ولكن الناظر إلى الحقيقة بعين الواقع الذي عليه هؤلاء، يصاب بصدمة وخيبة أمل كبيرة؛ وذلك عندما يطالع كتابات ونتاجات تحمل ذاتَ النَفَس، وتتّبع نفس الطريقة والمنهج الذي درج عليه أسلافهم، كتابات أعدّت وهيّئت في مراكز علمية وجامعات أكاديمية، وتحت إشراف أساتذة مختصّين في مجال العقيدة والفِرَق، وأجازوها على أنّها رسائل علمية، والمفترض أنّها تتسم بالمنهجيّة والعلميّة، وتقوم على الأسس القويمة والأساليب الصحيحة والوسائل المعتبرة، وخاصةً بعد اعتماد البرمجيات الحديثة في البحث والاستدلال، ولكنّها ـ مع الأسف ـ تبدو وكأنها لا تزال تعيش في عصر الظلمات، لا تمت بسبب إلى تلك النهضة العلميّة الشاملة في العالم، وأنها لا تزال تجترّ ما كتبه أسلافهم قبل قرون، وتردّد أقوالهم وآراءهم.

إن الجامعات والمراكز العلمية السلفية، في السعودية وغيرها، تصدر عنها في كلّ عام دراسات ورسائل علمية، على مستوى الماجستير والدكتوراه، تتعرّض لمواطن الخلاف بين الشيعة والسنّة، وتتعرّض لبيان اعتقاداتهم وآرائهم، وتحصل هذه الرسائل، في غالب الأحيان، على الدرجات والامتيازات العالية؛ لمجرد تطرّقها لهذه الموضوعات، ولكنّك عندما تراجعها وتتفحّصها، تتعجب وتندهش، لضحالتها من الناحية العلمية، فضلاً عن افتقارها للموضوعية والإنصاف، فهي لا تختلف عمّا كتبه، في القرن الثامن الهجري، ابن تيمية وأشباهه، وكذا ما بعد ذلك القرن، من حيث اللغة والأسلوب والمنهج.

ومن أهم هذه الدراسات والرسائل العلمية، والتي نحن بصدد تقييمها والإجابة عنها، هي رسالة علمية نالت درجة الدكتوراه من جامعة الإمام محمّد بن سعود في الرياض، بعنوان (اُصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية) لمؤلفها (الدكتور ناصر بن عبد الله بن علي القفاري)، وقد حازت على مرتبة الشرف الأولى! مع التوصية بطبعها وتداولها في الجامعات والأوساط العلميّة، وقد تمّ فعلاً تنفيذ الوصيّة، فطبعت عدّة طبعات، واعتمدت كمنهج دراسي في الجامعة، ونشرت على صفحات (الانترنت) بشكل واسع، وتقع هذه الرسالة في أكثر من (1500) صفحة، طبعت في ثلاثة مجلدات.


نظرة إلى محتوى كتاب أصول مذهب الشيعة

يتكوّن الكتاب من تمهيد، وخمسة أبواب([23]).

وقد بحث في التمهيد: التعريف بالشيعة، ونشأتها، وجذورها التاريخية، وألقاب الاثني عشرية، وفِرَقها.

وخلص في بحثه، في هذا التمهيد، إلى أن المعنى اللغوي للتشيع هو النصرة والمتابعة، وهذا المعنى لا يتوفّر في مدّعي التشيّع اليوم، ومن قبل اليوم في الغالب، فهم الرافضة كما سمّاهم السلف، أو المنتسبون للتشيّع، وليسوا شيعة على الحقيقة.

وأنّ الشيعة أطوار، وفرق، ودرجات، ما بين إغراق في الغلوّ واقتصاد فيه، وادّعى أنّ المنتسبين للتشيّع قد أخذوا من مذاهب الفرس والروم واليونان والنصارى واليهود وغيرهم، اُموراً مزجوها بالتشيّع!! وقد بدأت محاولة إدخال بعض هذه الأصول، إلى المجتمعات الإسلامية، على يد (ابن سبأ) وأتباعه، فلم يجد لها مكاناً في أمصار المسلمين، إلاّ عند فئة قليلة بالكوفة!!

أمّا الباب الأوّل: فكان موضوعه اعتقاد الشيعة في مصادر الإسلام: القرآن والسنّة والإجماع، وبالنسبة للقرآن، فقد أوهم القرّاء أنّ الشيعة تقول: إنّ القرآن لا يفهم إلاّ بقيّم ـ وهو الإمام× ـ وأنّهم يعتقدون بتحريف القرآن، وبالنسبة للسنّة، فقد زعم أنّها تختلف عمّا في أيدي المسلمين؛ لأنّ الإمام ـ حسب زعمه ـ عند الشيعة يوحى إليه، بل يأتيه خلق أعظم من جبريل× الذي يأتي رسول الله، وادّعى أن الشيعة تؤمن بأنّ من سمع حديثاً من أحد الأئمّة، فله أن يقول فيه: قال الله، لأنّ قولهم قول الله، وطاعتهم طاعة الله.

وفيهم روح القدس التي بها يعلمون ما تحت العرش إلى ما تحت الثرى، وبها يرون ما غاب عنهم في أقطار الأرض، وما في عنان السماء، ويذهبون إلى عرش الرحمن كلّ جمعة ليأخذوا من العلم ما شاؤوا.

ويدعي القفاري أن قول الشيعة: إن الله سبحانه يناجي عليّاً والأئمّة^. يدلّ على أنهم يعتقدون بأنّ عليّاً يوحى إليه.

وفي الحقيقة، إنّ كلّ ما زعمه هو محض افتراء، ليس له مبرر سوى ما يحمله في قلبه من بغض شديد للشيعة، وهذا غير خفي على كلّ من يطالع كتابه.

ولقد كشفنا زيف كلّ هذه المفتريات، في إجابات شافية وافية، في المجلّد الأوّل من إجاباتنا عن شبهاته.

وأمّا بالنسبة إلى الإجماع، فادّعى أنّه ليس حجّة عند الشيعة، بل إنّ مخالفة الاُمّة أصل مقرر في مذهبهم، حتى قالوا: إنّ ما خالف الاُمّة، فيه الرشاد!!

وفي الباب الثاني: تناول اعتقاد الشيعة في اُصول الدين، ولم يتعرّض إلاّ إلى أنواع التوحيد، وهي: التوحيد في الإلوهيّة، والتوحيد في الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وأشار في نهاية هذا الباب إلى بحث الإيمان وأركانه.

واستنتج استنتاجات غريبة، فزعم أن الشيعة جهميّة في نفي الصفات، وقَدَريّة في نفي القدر، ومُرجئة في قولهم بأنّ الإيمان معرفة الإمام وحبّه، ووعيديّة بالنسبة لغيرهم، حيث يكفّرون ما عدا طائفتهم!! كما زعم أنهم يشركون بالله سبحانه، في ربوبيّته وألوهيّته، وفي مسائل عديدة!!

وفي مجال اعتقاد الشيعة بالكتب والرسل زعم: أن الأئمّة نزلت عليهم كتب إلهيّة، ولهم معجزات كالرسل!!

أمّا الباب الثالث، فقد خصّصه للبحث عن اُصول الشيعة التي تفردوا بها، حسب زعمه، فتطرّق إلى بحث الإمامة، والعصمة، والتقية، والمهدوية، والغيبة، والرجعة، والظهور، والبداء، وغيرها.

ولقد وفّقنا الله تعالى إلى الإجابة عن جلّ هذه الشبهات المطروحة حول هذه الموضوعات.

أمّا الباب الرابع، فقد خصّصه للشيعة المعاصرين وصلتهم بأسلافهم، وصلتهم بمصادرهم القديمة، والصلة العقدية بين القدامى والمعاصرين، وغيرها من الأبحاث، وبيّن أن الشيعة المعاصرين يعتمدون على ما افتراه شيوخ الدولة الصفوية، المليئة بالكفر والإلحاد، حسب زعمه!!

كما أفرد فصلاً، في هذا الباب، للحديث عن الجمهورية الإسلامية في إيران، أسماه: دولة الآيات؛ ممّا يومئ إلى أن هناك دوافع سياسية لطرح مثل هذه المواضيع، لا أنّها مجرّد دوافع فكرية وعلمية!

وكذلك الباب الخامس، فجعله متعلّقاً بالحكم على الشيعة، وأثرهم في العالم الإسلامي، وانتهى إلى أنهم هم السبب في انتشار الكفر والإلحاد والزندقة!! وإضلال أهل السنّة، ونشر الرفض والإباحية والفساد!! وكذلك هم السبب في انحطاط المسلمين على الصعيد السياسي والاقتصادي، وكلّ بليّة حلّت بالمسلمين هم السبب فيها!! وفي آخر المطاف، خلص إلى أن الشيعة فرقة كافرة خارجة عن الملّة!!

وقد امتلأ هذا البابان بالمغالطات وتزييف الحقائق، وعدم المنهجية العلمية، لكن الوقت لم يسعفنا للإجابة عنها، نسأل الله أن يوفقنا لذلك في قادم الأيام.

نقد منهج القفاري

كلّ من يقرأ كتاب الدكتور القفاري، لا يشعر أنّ الكاتب كان ملتزماً في منهجه الذي ارتسمه لنفسه؛ ولهذا لابدّ لنا من وقفة موضوعية نقيّم فيها منهجه وأسلوبه، وطريقة عرضه للأدلّة والشواهد، واستخلاص النتائج منها؛ فإن معرفة منهج البحث والاستدلال، والوقوف على مواطن الخلل والصواب فيه، تكشف للقارئ عن الكثير من جوانب البحث التي قد تبدو غامضة أو مشوّشة، كما أنّها توفّر عليه عناء الإجابة عن العديد من الشبهات والإشكالات، الناتجة عن حصول خلل واضح في المنهج المتّبع في البحث والاستدلال، مضافاً إلى أن الاطّلاع على العوامل الذاتية والموضوعية المحيطة بالبحث، ومعرفة الخلفية الفكرية والثقافية والبيئية للباحث، لها دور كبير في توضيح معالم البحث وتقييم نتائجه.

وانطلاقاً من هذه الثوابت العلمية والأكاديمية، في ضرورة النقد العلمي لمنهج الباحث وأسلوبه، ومعرفة ما يؤثّر عليه من عوامل داخلية وخارجية، أحببنا أن نبيّن، وبشكل مختصر، بعض جوانب الخلل الكبير الذي وقع به الدكتور القفاري في كتابه (اُصول مذهب الشيعة)، ولكن قبل ذلك سنتعرّض لذكر ما تميّز به هذا الكتاب عن بقية الكتب التي تعرّضت للتشنيع بالشيعة، ونشير إلى أهمّ دوافعه التي جعلته يكتب هكذا كتاب، ثمّ بعد ذلك نستعرض المنهج الذي التزمه على نفسه، ونقيّم مدى التزامه به، ونتعرّض بعد ذلك إلى شواهد واضحة تناقض منهجه الذي ادّعاه.

خصائص الكتاب

لقد تميّز هذا الكتاب عن الكتب التي سبقته، في التعرّض للمذهب الشيعي، بعدّة اُمور مهمّة، منها:

1ـ كونه رسالة علمية تناولت مسائل عقائدية خلافية مهمّة، بين الشيعة والسنّة، وعلى درجة كبيرة من الخطورة والحسّاسية.

2ـ شمل هذا الكتاب مسائل ومفردات كثيرة لم يقتصر على المسائل العقيدية حسب، بل تناولت قضايا فقهية وأصولية وحديثية وتاريخية وغيرها.

3ـ اختلف هذا الكتاب، عن غيره، بكثرة التتبّع للشواهد من الروايات والنصوص، بحيث يغلب على الظن أن العمل في هذا الكتاب قد قام به فريق من الباحثين وليس شخصاً واحداً.

4ـ ومن خصائص الكتاب أيضاً، إيهام القارئ واستغفاله، بدعوى أنّه يتّبع الأسلوب العلمي والمنهج الصحيح في تناوله للبحث؛ وذلك من خلال ما أشار إلى ذلك في المقدّمة، وكذلك محاولته أن يخلق تصوّراً لدى القارئ بأنّه يعتمد في أحكامه ونتائجه على ما يرد في كتب الشيعة أنفسهم، ولكن واقع الحال ينمّ بغير ذلك، كما سيتّضح لاحقاً.

دوافع المصنف وأهدافه

لقد أشار المصنف في مقدمة كتابه ـ أو رسالته ـ إلى دوافعه وأهدافه من كتابة هذه الرسالة ضد مذهب أهل البيت^ وأتباعهم، فذكر عدّة أهداف ودوافع، حاول في بداية الأمر أن يبرّر أن غرضه هو الدفاع عن الحقّ والحقيقة، وأن التصدّي للفرق المخالفة، وأهل البدع، هو من أجل الحدّ من التفرّق والتشرذم، وتفويت الفرصة على العدوّ المتربّص بوحدة المسلمين.

ونحن نعتقد بأنّ ذلك لم يكن هو الدافع الحقيقي من وراء تأليف هذه الرسالة، وإنّما السبب الأساس هو الوقوف بوجه فكر ومنهج أهل البيت^ بعد أن أخذ بالتوسّع والانتشار في أرجاء البلاد الإسلامية، ودخول أعداد كبيرة من المسلمين في هذا المذهب الذي يقدّم النموذج الصادق، ويعكس الصورة الواقعية عن الإسلام المحمّدي الأصيل وتعاليمه السمحاء، خصوصاً في العقود الأخيرة من القرن الماضي، وبعد اطّلاع الناس على فكر ومدرسة أهل البيت^، نتيجةً لسهولة الاتّصال والتواصل، بين المسلمين، بعد حصول التقدّم العلمي والمعرفي في العالم.

وقد أشار القفاري إلى هذا السبب صراحة ـ وإن حاول أن يجعله ضمن أسباب اُخرى، ذكر أنّها دعته لتناول عقائد الشيعة الاثني عشرية بالخصوص ـ حين قال: «ثانياً: اهتمام هذه الطائفة بنشر مذهبها والدعوة إليه، وعندها دعاة متفرّغون ومنظّمون، ولها في كلّ مكان (غالباً) خليّة ونشاط، وتوجّه جلّ اهتمامها في الدعوة لنحلتها في أوساط أهل السنّة، ولا أظن أن طائفة من طوائف البدع، تبلغ شأو هذه الطائفة، في العمل لنشر معتقدها والاهتمام بذلك. وهي اليوم تسعى جاهدة لنشر مذهبها في العالم الإسلامي، وتصدير ثورتها، وإقامة دولتها الكبرى بمختلف الوسائل. وقد تشيّع بسبب الجهود التي يبذلها شيوخ الاثني عشرية، الكثيرُ من شباب المسلمين، ومن يطالع كتاب (عنوان المجد في تاريخ البصرة ونجد) يهوله الأمر، حيث يجد قبائل بأكملها قد تشيّعت. وقد تحوّلت سفارات دولة الشيعة في إيران، إلى مركز للدعوة إلى مذهبها، في صفوف الطلبة والعاملين المسلمين في العالم»([24]).

إذن، هذا هو السبب الكامن من وراء مثل هذه الكتابات، وكثرة الاحتفاء بها، ونشرها في أوساط الناس، وفي قبال ذلك يمنع منعاً باتاً تداول كتب الشيعة وبيعها، أو السماح بطبعها ونشرها في بلادهم.

المنهج الذي اشترطه القفاري على نفسه

ادّعى القفاري أن منهجه في رسالته يقوم على مجموعة من الضوابط والشروط، منها([25]):

1ـ لا ينظر في المصادر الناقلة عن الشيعة، بل ينقل من الكتب الشيعية مباشرة، وبأمانة.

2ـ يعالج القضايا بموضوعية صادقة، بعيداً عن الميول الذاتية والأفكار المسبقة.

3ـ يعتمد على رواياتهم الموثّقة أو المستفيضة، وينقل عن كتبهم ومصادرهم المعتمدة مع مراعاة العدالة في الحكم.

4 ـ يعتمد على الاُمور العقائدية المعلومة والمشهورة بين علمائهم والمتّفق عليها، قال: «ولم أذكر من عقائدهم في هذه الرسالة إلاّ ما استفاضت أخبارهم به وأقرّه شيوخهم»([26]).

مناقشة القفاري فيما اشترطه على نفسه

كلّ من يطالع كتاب القفاري، بدقّة وعناية، يتّضح له بلا أدنى شكّ أنّه لم يلتزم بما اشترطه على نفسه من شرائط، فلم تكن تلك التعهّدات التي أخذها على نفسه إلاّ حبراً على ورق، ومجرّد مصطلحات أنيقة عذبة لا واقع لها في كثير من الموارد، وقد نلتمس له العذر في التنازل عنها؛ لأنّه لو التزم بها سوف لا يمكنه أن يكتب مجموعة من الصفحات فضلاً عن كتابة رسالة كهذه، لأنّ الالتزام بتلك الشرائط يجعله عاجزاً عن تبرير ما يحمله في باطنه من ركام هائل من المفاهيم السطحية التي تحطّ من قدر الشيعة، والتي ورثها عن أسلافه وفي مقدمتهم ابن تيمية.

وعندما وجد التقيّد بتلك الضوابط يمنعه من إلصاق التهم والتشنيع على الشيعة، تنازل عنها في سبيل هدفه المسبق، وكم تمنّينا على القفاري أن يسير على ما رسمه لنفسه من منهج علمي وأكاديمي صحيح!! ولكن أنّى له ذلك!

وسوف نتعرض لبعض الشواهد التي تؤكّد عدم التزامه بما فرضه على نفسه، ونقتصر على بعض ذلك المذكور، دون التطرّق لكلّ الشواهد، فهي كثيرة، ولكون كتابنا هذا ليس الهدف منه نقد منهج القفاري بالخصوص، بل هو لنقد الشبهات التي أثارها في كتابه، ومحاولة تحليلها ودحضها، وبيان زيفها.

شواهد على عدم التزام القفاري بمنهجه

الافتراءات على الشيعة

1ـ لقد زعم أن الشيعة في إيران يزيدون في الأذان بعد الشهادة الأولى عبارة: خميني رهبر، قال: «أدخل الخميني اسمه في أذان الصلوات، وقدّم اسمه على اسم النبيّ الكريم، فأذان الصلوات في إيران بعد استلام الخميني للحكم، وفي كلّ جوامعها، كما يلي: الله أكبر، الله أكبر، (خميني رهبر) أي أنّ الخميني هو القائد، ثمّ أشهد أنّ محمداً رسول الله»([27]).

فهل من أحد يصدّق هذا الكلام؟! و هل هذه هي الأكاديمية والحيادية في منهج البحث؟!!

إنْ هذا إلاّ مثار للضحك والسخرية، ولا يحتاج إلى تعليق مطلقاً.

2ـ قال: «مات الحسن العسكري سنة260هـ، والذي تزعم الشيعة أنّه إمامها الحادي عشر ـ ولم يُعرف له خلف، ولم يُرَ له ولد ظاهر، كما تعترف كتب الشيعة، وقال ثقات المؤرّخين بأنّه مات عقيماً. فكانت هذه الواقعة قاصمة الظهر للتشيّع»([28]).

ونحن لم نجد من قال، من الشيعة، بهذا الاعتراف، كيف ذلك وهو من صميم اعتقادهم؟!

3ـ زعم أنّ الشيعة تقول: إنّ كتاب الكافي قد عُرض على المهدي؛ قال: «الكافي عُرض على المهدي، فقال: كافٍ لشيعتنا، هذا ما يقوله الصدر([29])، وينسبه للشيعة عموماً، ولهذا قال محب الدين الخطيب: إنّ الكافي عند الشيعة هو كصحيح البخاري عند المسلمين. وقد يكون في كلام الخطيب هذا بعض التسامح؛ لأنّ غلوّهم في الكافي أكثر، ألا ترى أنهم يقولون: إنّ الكافي اُلّف إبان الصلة المباشرة بمهديّهم، وإنّه عرض على المعصوم عندهم، فهو كما لو قال بعض أهل السنّة: إنّ صحيح البخاري تم عرضه على الرسول (صلّى الله عليه وسلّم)؛ لأنّ الإمام عندهم كالنبي»([30]).

لقد أراد القفاري، بكلامه هذا، أن يثبت صحّة كلّ ما في كتاب الكافي، حتى يستفيد من الروايات الضعيفة التي وردت فيه، ويؤسّس عليها شبهاته. فحاول أن يوهم القارئ بأنّ الشيعة ترى الكافي كصحيح البخاري من حيث الصحّة.

بينما الواقع خلاف ذلك، فقد تعامل علماؤنا مع الكتاب على أن له رتبة عالية من الاعتبار، لكنّه مع عدم الجزم بصحة جميع مروياته، بل لا يخلو من وجود الأحاديث الضعيفة غير الصحيحة، وأنّ حكاية عرضه على المعصوم، أو المهدي×، لم تثبت صحتها عندهم، لذلك قال المحدّث النوري في خاتمة مستدركه: «الخبر الشائع من أنّ هذا الكتاب عرض على الحجّة× فقال: (إنّ هذا كاف لشيعتنا) فإنّه لا أصل له، ولا أثر له في مؤلّفات أصحابنا، بل صرّح بعدمه المحدّث الاسترآبادي الذي رام أن يجعل تمام أحاديثه قطعية»([31]).

 وعلق السيد العسكري على حكاية عرضه على المعصوم: >أنّه قول مجهولٌ راويه، ولم يُسمّ أحداً اسمه, ويدلّ على بطلانه تأليف مئات كتب الحديث بمدرسة أهل البيت بعد الكافي, مثل: من لا يحضره الفقيه, ومدينة العلم والتهذيب والاستبصار والبحار ووسائل الشيعة وجامع أحاديث الشيعة وغيرها<([32]).

فلاحظ كيف تعمد القفاري إيهام القارئ، واعتمد على حكاية لا أصل لها ولا أثر؟!!

4 ـ حاول أن يلصق بالشيعة اُموراً معلومة الانتفاء عندهم بشكل بدَهي،  فاتهمهم بالقول بالتجسيم وتأثّرهم بالمعتقدات اليهودية، قال: «اشتهرت ضلالة التجسيم بين اليهود، ولكن أوّل من ابتدع ذلك بين المسلمين هم الروافض»([33]).

مع أنّ نفي التجسيم من مسلّمات الشيعة المعروفة، وقد تغافل عن أن التأثيرات اليهودية في الفكر الوهّابي أوضح من أن تذكر، خصوصاً في منهج ابن تيمية صاحب مدرسة التجسيم.

5ـ ومن افتراءاته الاُخرى: أنّ واضع مبدأ السجود للمخلوق، والسجود على التراب، هو الشيخ الكركي&؛ قال: «فإنّ شيوخهم يضعون بدعاً جديدة، حتى أن شيخ الدولة الصفوية، عليّ الكركي، وضع مبدأ جواز السجود للمخلوق، ووضع لهم أيضاً مبدأ السجود على التربة»([34]).

وهل يمكن لأحدٍ أن يصدّق هذا الكلام، ومتى كان في عقائد الشيعة جواز السجود للمخلوق؟! وهل يحتاج مبدأ السجود على التربة إلى أن يبتكره شيخ الدولة الصفوي، كما سمّاه؟!!([35]).

وهو بكلامه هذا يتراجع عن منهجيّته وموضوعيّته بدرجة كبيرة جدّاً، فيعتقد بما ينقله جهّال وعوّام أهل السنّة، عن الشيعة، بأنّ الشيعة يسجدون للتربة بدلاً من السجود لله!! ويتغافل عن أنّ السجود عند الشيعة هو على التربة وليس للتربة، وأنّ ذلك ثابت بأدلّة شرعية تفيد بلزوم السجود على الأرض بالخصوص، وأن التربة المعروفة التي يسجد عليها الشيعة هي أحد مصاديق الأرض؟!

وهم بسجودهم على الأرض يقتدون بالنبي وبالصحابة المنتجبين ـ رضوان الله عليهم ـ فقد أخرج البخاري بسنده عن جابر بن عبد الله، قال: >قال رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم): أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً...<([36]).

وهذا الحديث يثبت بوضوح أن وجه الأرض تراباً كان أو صخراً أو حصى هو الأصل في السجود.

وهذا المعنى لا يتعارض مع تفسير الحديث بأنّ المقصود منه هو جواز السجود في كلّ مكان، فهو مطلب آخر تثبته الرواية.

وروي عن جابر، قال: >كنت أصلى مع رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) الظهر فآخذ قبضة من حصى في كفى لتبرد حتى أسجد من شدة الحر<([37]).

فهل سجد جابر (رض) للحصى أم أنّه سجد على الحصى؟! وهل أن القفاري بسجوده على الفرش يكون عبادة للفرش؟

أسلوب تقطيع الأحاديث

ليس القفاري من تفرّد بهذا الأسلوب والمنهج، في الطعن بعقائد الشيعة، بل إنّه منهج قديم، سلكه كلّ من حاول تشويه المذهب الشيعي، فتعمُّد الاقتطاع والتدليس هو أحد المناهج المتّبعة، منذ القدم، عند المناهضين للفكر الشيعي.

ونحاول أن نلقي الضوء على بعض ما مارسه القفاري، من اقتطاع وتدليس، قال: «وهم يلصقون هذه المفتريات بأهل البيت، ليتخذوا منهم عكازة يعتمدون عليها لنشر مذهبهم. وإلاّ فمن يقول: أنا الأوّل والآخر والظاهر والباطن؛ هل يختلف عن فرعون الذي قال: أنا ربُّكم الأعلى؟! وكيف يتجرأ أساطين المذهب كالكشّي والطوسي، على نقل هذا الإلحاد، وكيف يعدّون الكليني ثقة إسلامهم وهو ينقل، هو وأضرابه، هذا الكفر البواح؟!»([38]).

لاحظ كلامه، وكيف قايس بين معتقدات الشيعة ومعتقد فرعون؟! وكيف تكلّم، وبكلّ جرأة، بحيث يجعل القارئ لا يشك في نقله مطلقاً ولا يتوهّم التقطيع؟!

مع أنّنا لو رجعنا إلى النقل، الذي زعمه، من صاحب كتاب البحار، لوجدنا أن القفاري كان مخالفاً للموضوعية، بكل ما للمخالفة من معنى، فقد تعمّد تقطيع الرواية وترك المقطع الذي يفسّر تلك الألفاظ التي اُثِرَتْ عن الإمام علي×.

وإليك نصّ الرواية كاملة، ليتضح مدى استخفاف القفاري بعقلية القارئ العربي؛ وليتضّح أن ما ادّعاه، من نزاهة وموضوعية، إنّما كان مجرّد كلام لا واقع له.

قال صاحب البحار: «روي أنّ أمير المؤمنين× كان قاعداً في المسجد وعنده جماعة من أصحابه، فقالوا له: حدثنا يا أمير المؤمنين، فقال لهم: ويحكم! إن كلامي صعب مستصعب، لا يعقله إلاّ العالمون، قالوا: لابدّ من أن تحدثنا، قال: قوموا بنا، فدخل الدار، فقال: أنا الذي علوت فقهرت، أنا الذي أحيي وأميت، أنا الأوّل والآخر والظاهر والباطن، فغضبوا وقالوا: كفر!... فقال: ألم أقل لكم: إنّ كلامي صعب مستصعب، لا يعقله إلاّ العالمون؟! تعالوا أفسّر لكم، أما قولي: أنا الذي علوت فقهرت؛ فأنا الذي علوتكم بهذا السيف، فقهرتكم حتى آمنتم بالله ورسوله، وأمّا قولي: أنا أحيي وأميت؛ فأنا أحيي السنّة وأميت البدعة، وأمّا قولي: أنا الأوّل؛ فأنا أوّل من آمن بالله وأسلم، وأمّا قولي: أنا الآخر؛ فأنا آخر من سجى على النبيّ’ ثوبه ودفنه، وأمّا قولي: أنا الظاهر والباطن؛ فأنا عندي علم الظاهر والباطن، قالوا: فرّجت عنا فرّج الله عنك»([39]).

وهكذا حال كلّ الروايات التي تحدثت عن كون الأئمّة جنب الله أو وجه الله أو يد الله، كلّها مؤوّلة ومفسّرة بشبيه ما ذكره صاحب البحار.

فهل هذا مبرّرٌ لأنْ يتّهم علماء الشيعة بنقل الكفر البواح؟!!! وهل يستدعي أن يعتبرها مفتريات اُلصقت بالأئمّة^؟!!

3ـ اقتطاعه من كلام السيّد الخوئي ما يفيد ـ على حدّ زعمه ـ بأنّ الشيعة تعتقد بتحريف القرآن، قال: «والخوئي مرجع الشيعة في العراق وغيره اليوم، يقول: إنّ كثرة الروايات (رواياتهم في تحريف القرآن) من طريق أهل البيت، ولا أقلّ من الاطمئنان بذلك، وفيها ما روي بطريق معتبر»([40]).

ونلاحظ هنا، أن التدليس قد تجسّد، وبشكل مجحف في هذا المقطع الذي اقتطعه، من حيث إنّ السيّد الخوئي هو ممّن اشتُهر في تفنيد قول كلّ من زعم أن القرآن محرّف، وكتابه البيان يشهد له بذلك.

فالسيّد الخوئي ينفي دلالة تلك الروايات على التحريف، قبل هذا المقطّع من كلامه، فيقول: «الجواب: أن هذه الروايات لا دلالة فيها على وقوع التحريف في القرآن بالمعنى المتنازع فيه»، فهو يفرّق بين كثرة الروايات ودلالتها([41])، ثمّ يقول في نهاية بحثه: «وممّا ذكرناه، قد تبيّن للقارئ، أن حديث تحريف القرآن، حديث خرافة وخيال، لا يقول به إلاّ من ضعف عقله، أو من لم يتأمّل في أطرافه حقّ التأمّل، أو من ألجأه إليه حبّ القول به. والحبّ يعمي ويصمّ، وأمّا العاقل المنصف المتدبر، فلا يشكّ في بطلانه وخرافته»([42]).

فهل بعد هذا، يحقّ لعاقل أن يقول: إن السيّد الخوئي يعتقد بالتحريف، أليس هذا محض افتراء؟!! بل أقبح مراتبه على الإطلاق.

4ـ ممارسة التمويه والتشويه للروايات، فقد زعم مثلاً: أن الشيعة تروي أن الناس عبيد للأئمّة، قال: «والشيعة حينما اعتقدت في أئمّتها أنهم جهة تشريع، أكملت ذلك بدعواها أن الناس جميعاً عبيد للأئمّة، لتتضح صورة الشرك أكثر. قال الرضا: الناس عبيد لنا في الطاعة، موالٍ لنا في الدين، فليبلّغ الشاهد الغائب»([43]).

لكن القفاري لم يتعرّض للمقطع الأوّل في الرواية، الذي ينفي فيه الإمام تلك الشبهة جملةً وتفصيلاً، فهدف الإمام× من الرواية بأجمعها إنّما كان منصبّاً على نفي ما سمعه من بعض الجُهّال أنهم يقولون: إن الناس عبيد للائمّة، وإليك الرواية: «عن محمّد بن زيد الطبري، قال: كنت قائماً على رأس الرضا عليّ بن موسى× بخراسان، وعنده جماعة من بني هاشم، منهم إسحاق بن العباس بن موسى، فقال له: يا إسحاق بلغني أنّكم تقولون: إنا نقول: إن الناس عبيدٌ لنا! لا، وقرابتي من رسول الله’ ما قلته قطّ، ولا سمعته من أحد من آبائي، ولا بلغني عن أحد منهم قاله، لكنا نقول: الناس عبيدٌ لنا في الطاعة، موال لنا في الدين، فليبلّغ الشاهدُ الغائب»([44]).

فنجد أن الإمام يقسم بقرابته من رسول الله أنّه لم يقل ذلك، بل أن الذي يقول به هو، والأئمة من آبائه^ هو أن الناس عبيد لهم في الطاعة، وهذا ليس بخافٍ على أحد، من حيث إن طاعتهم فرض على كلّ مؤمن ومؤمنة؛ وقد فرض الله طاعتهم على الناس، وطاعتهم إنّما تعني الالتزام بحدود الشريعة وتطبيقها، لا أكثر ولا أقل.

فأين هذا من تمويه القفاري؟!!

افتقاره للأمانة العلمية وعدم الرعاية في النقل

لم يلتزم القفاري بالأمانة العلمية فيما ينقله، وهناك شواهد كثيرة تؤكّد ذلك، نذكر منها على سبيل المثال:

1ـ إدخاله، أو إدراجه، بعض الألفاظ، في الأحاديث المنقولة عن أهل البيت^، ليحقق بذلك غرضه في تمرير تلك الشبهات؛ قال: «كما أنك ترى الكافي، أصحّ كتبهم الأربعة، قد احتوى على جملة من أحاديثهم تقول بأنّ الأئمّة ثلاثة عشر. فقد روى الكليني، بسنده عن أبي جعفر، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم): إني، واثني عشر إماماً من ولدي وأنت يا علي، زرّ الأرض ـ يعني أوتادها وجبالها ـ بنا أوتد الله الأرض أن تسيخ بأهلها، فإذا ذهب الاثنا عشر من ولدي، ساخت الأرض بأهلها ولم ينظروا»([45]).

بينما الذي جاء في الكافي: «إني، واثني عشر من ولدي، وأنت يا علي، زر الأرض، يعني أوتادها وجبالها، بنا أوتد الله الأرض أن تسيخ بأهلها، فإذا ذهب الاثنا عشر من ولدي، ساخت الأرض بأهلها ولم ينظروا»([46]).

فنلاحظ أنّ القفاري قد زاد كلمة (إماماً)، وهي كلمة مهمّة في الاستدلال على ما زعمه!!! مع أن الرواية ضعيفة السند، وقد رويت من وجه آخر جاء فيه: >إني وأحد عشر من ولدي< على ما سوف يأتي تفصيله لاحقاً.

2ـ التلاعب بالروايات بشكل فاضح، قال ـ وهو ينتقد ارتباط الشيعة بالإمام المهدي في زمان غيبته: «والزواج ـ أي زواج الشيعة ـ مرتبط بأمر القائم في الغالب، قال أحدهم: زُوِّجت بأمره سرّاً، فلمّا وطأتها علقت وجاءت بابنة، فاغتممت وضاق صدري فكتبت أشكو ذلك...»([47]).

فنلاحظ أنّه زعم أن زواجهم كان مرتبطاً بأمر المهدي، وكان المفترض أن يكون القفاري أميناً في نقله، وأن لا يغيّر عبارة: تزوّجت بامرأة، إلى عبارة: زوّجت بأمره!!!

ففي المصدر لا يوجد (زوجت بأمره)، بل الموجود (تزوجت بامرأة).

فلاحظ خيانته وعدم أمانته؟!!([48]).

جهله بمباني وضروريات المذهب الشيعي

نجد في كثير من الأحيان، أن القفاري يفتقر إلى الفهم الصحيح للمباني الشيعية، وهذا ما امتازت به رسالته بجدارة، فهو يفهم الشيعة ومعتقداتهم، بحسب ما عنده من مفاهيم مسبقة، لا ترتقي إلى الحدّ الأدنى من النضج، لكي تكون لها القدرة على انتقاد معتقدات وآراء يجزم أصحابها أنّها مستقاة من الفكر الإسلامي الصحيح.

ولم يقتصر جهله بالمباني تلك، بل نجد أن جهله تعدّى ذلك إلى اُمور بدَهية، ما كان المتوقع أن يجهلها، وسوف يتعرّف القارئ على ذلك من خلال اطّلاعه على الكتاب، ونورد بعض الشواهد على ذلك:

جهله بمباني الشيعة وآرائهم في مسألة عدم توريث الزوجة من الأرض، حيث توهّمها القفاري في مطلق المرأة، سواء البنت أو الزوجة، فقد أشكل على مسألة إرث الزهراء ÷ من فدك، قال: «نقلت رواياتهم أخباراً عن كتاب يسمونه كتاب عليّ، ووصفوا شكله بأنّه مثل فخذي الرجل، مطوّى، وأنه خطّ عليّ بيده، وإملاء رسول الله، ولم ينقلوا لنا من نصوصه وأحكامه إلاّ هذا الحكم الجائر الذي يقول: إن النساء ليس لهن من عقار الرجل إذا هو توفّي عنها شيء، هذا والله خطّ عليّ بيده، وإملاء رسول الله، وهم يأخذون بهذا النصّ من ذلك الكتاب الموهوم، ويعرضون عن نصوص القرآن العامّة، والتي لم تفرّق بين العقار وغيره. ثمّ إن هذا يناقض ما يدّعونه بأنّ لفاطمة نصيباً في فدك» وقال في الحاشية: «وحاولوا التخلّص من ذلك، بزعمهم أن رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)، خصّها بذلك في حياته»([49]).

وهذا المبنى الشيعي في الإرث، معروف في الأوساط الإسلامية، وأن المنع من الإرث ـ فيما لو كان عقاراً ـ مختصّ بالزوجة فقط، ولا يشمل البنت، فهذا هو مستوى القفاري الحاصل على شهادة الدكتوراه في العقيدة الإسلامية! فهو في الوقت الذي زجّ نفسه في موضوع يتطلّب غاية الدقّة في فهم مباني الشيعة وآرائهم، نجده سطحيّ الفهم في تلك المباني والآراء!

2ـ جهله بالتاريخ: حيث اعتقد أن زمان الحسن× كان بعد الحسين×، قال: «قالت كتب الشيعة: إن الناس ارتدّوا بعد وفاة الرسول إلاّ ثلاثة، قالت أيضاً: ارتد الناس بعد قتل الحسين إلاّ ثلاثة: أبو خالد الكابلي، ويحيى بن([50]) أم الطويل، وجبير بن مطعم. فأنت ترى أن هذا النصّ لا يستثني أحداً من أهل البيت، ولا الحسن بن عليّ الذي تعدّه الاثنا عشريّة إمامها، ويبدو أنّها لا تستثنيه لأنّها عليه ساخطة، لقيامه بمصالحة معاوية، حتى خاطبه بعض الشيعة بقوله: يا مذلّ المؤمنين»([51])!

فنلاحظ أن القفاري رتّب شبهته واتهاماته بناءً على تأخر الإمام الحسن عن زمان أخيه الحسين، مع أن الإمام الحسن توفي قبل أخيه الإمام الحسين.

3ـ جهله، أو تجاهله، الاستعمالات العربية، من الكناية وغيرها، حيث قال، نقلاً عن السيّد الخميني&، في كتابه الحكومة الإسلامية: «وإذا عزمنا على إقامة حكم إسلامي، سنحصل على عصا موسى، وسيف عليّ بن أبي طالب. والجمع بين عصا موسى، وسيف علي بن أبي طالب كناية ـ فيما يبدو لي ـ عن تعاون اليهود مع الشيعة في دولة الآيات»([52]).

ومن البيّن أن عصا موسى، في كلام السيد الخميني&، هو كناية عن القوة التي تدلّ على التأييد والنصرة الإلهية، وليس المقصود به اليهود، كما فسّره القفاري، لكنّه قد تعمّد تشويه الاستعمال بشكل واضح، أو كان جاهلاً فيه على أقل تقدير.

4ـ جهله بكتب الشيعة، التي ادّعى أنّه مطّلع عليها، فنجده مثلاً، يجهل كتب الرجال المعتمدة عند الشيعة، وذلك حينما يعتبر كتاب الكشي هو عمدة كتب الشيعة في تراجم الرجال، وكذلك ادّعى أن الكافي ونهج البلاغة هما أصحّ كتب الشيعة، قال: «ورجال الكشّي عمدتهم في كتب الرجال...([53]) كما أنك ترى الكافي، أصّح كتبهم...([54]) وكتاب النهج الذي هو أصحّ كتاب عند الشيعة...([55])، وهي تزعم أنّها تصدّق بكلّ حرف في النهج»([56]).

ومن المعلوم أن كتاب الكشّي ليس هو العمدة في كتب الرجال عند الشيعة، وكذلك فإن الشيعة لا يعتبرون كتاب الكافي أصحّ كتبهم، نعم له اعتبار عندهم أكثر من غيره إلاّ أن هذا لا يعني أن كلّ أحاديثه ـ على إلاطلاق ـ مسلمة عندهم، كما أن كتاب نهج البلاغة ليس أصحّ الكتب عندهم!!

فهو بهذا، إما تعمّد القول بذلك، حتى ينسج عليه شبهاته، أو قال بذلك جهلاً، وهو بهذا يسجّل نقطة ضعف كبيرة على منهجه.

5ـ جهله بعقائد الشيعة؛ فمثلاً، يفسّر عقيدة البداء عند الشيعة بتفسيرات خاطئة مشوّهة، قال: «ولا شكّ بأنّ عقيدة البداء، بمقتضى معناها اللّغوي، وبموجب روايات الاثني عشريّة، وحسب تأويل بعض شيوخهم، تقتضي أن يكون في علم الله اليوم ما لم يكن في الأمس. وحسب الاثني عشرية، عاراً وفضيحة أن تنسب إلى الحقّ جلّ شأنه هذه العقيدة، على حين تبرّئ أئمّتها منها، فإذا وقع الخُلْف في قول الإمام، نسبت ذلك إلى الله لا إلى الإمام»([57]).

ونلاحظ جليّاً، كيف شوّه عقيدة البداء عند الشيعة، مع أن هذا لم يتفوّه به أحد من علمائهم، فلم يدّع أحد منهم أن البداء بهذا المعنى الذي يستلزم الجهل على ذات الله تعالى.

كيف، وهم ينقلون في كتبهم عن الصادق×: «من زعم أن الله بدا له في شيء اليوم، لم يعلمه أمس، فابرؤا منه»([58])!

فالبداء له معنيان: الأوّل: بمعنى الظهور، كما في قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا}. والثاني: تغيّر الإرادة وتبدّل العزيمة، تبعاً لتغيّر العلم وتجدّده، وهو بهذا المعنى لا يجوز بالنسبة إليه تعالى، ولا يقول به أحد من الإمامية.

والمعنى الأوّل هو الذي تقصده الشيعة، والذي نصّت عليه بعض الأحاديث المنقولة عن أهل البيت^.

قال الشيخ المفيد: «لفظ البداء يطلق على معنيين: الأوّل هو الظهور، وهذا هو الأصل في هذه اللفظة من حيث الوضع اللغوي، والثاني هو الانتقال والتحوّل من عزم إلى عزم، بحصول العلم أو الظنّ بشيء بعد ما لم يكن حاصلاً، والبداء بهذا المعنى الأخير ممّا لا يجوز إطلاقه في حقّ الباري تعالى؛ لاستلزامه حدوث العلم وتجدّده له، ممّا دلّت الأدلّة القاطعة على نفيه عنه تعالى، فحيث ما يضاف إليه هذه اللفظة، فالمراد منه هو ظهور أمر غير مترقّب أو حدوث شيء لم يكن في الحسبان حدوثه ووقوعه...»([59]).

هذه هي خلاصة فكرة البداء عند الشيعة، وهو كما ترى، فإنّه معنى منسجم مع آيات القرآن ومع روايات أهل البيت^، وأين هذا ممّا افتراه القفاري؟!!

تهافت القفاري

كما أنّ المطالع لرسالة القفاري، بدقّة، لا يتردّد أبداً في الحكم بأنّ الباحث يحمل في رسالته تناقضات صارخة، تخرجه عن الموضوعية والحيادية التي حاول أن يتذرّع بها، فعلى سبيل المثال لا الحصر، تناقضه في دعواه النقل بأمانة من كتب الشيعة، التي تعتبر من المسائل الجوهرية في تحليل معتقداتهم، فمن ناحية، يصرّح بأنّه سوف يعتمد على كتبهم المعتمدة والمشهورة ـ كما ذكر ذلك في مقدّمته ـ لكن من ناحية اُخرى، نجده، في كثير من الأحيان، يتجاهل ذلك، بل ويعتمد على أقوال خصومهم في هذا المجال، فمثلاً: يعتمد في إلصاق تهمة القول بالتجسيم بهشام بن الحكم، على أقوال خصوم الشيعة، فيصفهم مادحاً ـ بعد أن أشكل على نفسه من أن الاعتماد على خصوم الشيعة في تلك المسألة لا يكون حجّة على الشيعة ـ : «وهم أصدق من الرافضة مقالاً وأوثق نقلاً»([60]).

بل وفي أحيان كثيرة، يعتمد على المتطرّفين منهم، فيعتمد في تكوين تصوّراته، عن المذهب، بما يقوله أمثال ابن حزم وابن خلدون، والآلوسي، والجبهان، والخطيب، وابن تيمية، وجار الله، وإحسان إلهي ظهير وغيرهم، وهذا أمر لا حاجة إلى الاستدلال عليه، فالكتاب مليء، من أوله إلى آخره، بأفكار هؤلاء وتصورّاتهم عن المذهب الشيعي!!!

ولا يقف الأمر على هذه التصورات، بل يتعدّى ذلك إلى تصدير الأحكام، جزافاً، على الشيعة؛ فنجده مثلاً، ينقل عن ابن تيمية قوله: «ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية، إلى أن المنتسبين للتشيّع قد أخذوا من مذاهب الفرس والروم واليونان والنصارى واليهود وغيرهم، اُموراً مزجوها بالتشيّع...»([61]).

واعتماداً على ما نقله عن ابن تيمية يبني حكمه، ويتهجّم على الطائفة الشيعية ويتجنّى عليهم بشكل كبير، فيقول: «أنّه قد ركب مطيّة التشيّع كلّ من أراد الكيد للإسلام وأهله، وكل من احتال ليعيش في ظل عقيدته السابقة باسم الإسلام، من يهودي ونصراني ومجوسي وغيرهم، فدخل في التشيّع كثير من الأفكار الأجنبية والدخيلة...»([62]).

كما نجده قد أسّس الكثير من الشبهات المهمّة، معتمداً فيها على أقوال أهل السنّة أنفسهم، ومن ثمّ يطلق أحكامه الجزافيّة على الشيعة وفقاً لتلك الآراء.

فمثلاً، نجده في مبحث اعتقاد الشيعة بالسنّة النبويّة، يتهم الشيعة بمحاربتهم السنّة النبويّة، وفقاً لمقولة عبد القاهر البغدادي، من أن الشيعة هم من المنكرين للسنّة، قال: «اعتبر الإمام عبد القاهر البغدادي الشيعة من المنكرين للسنّة، لرفضهم قبول مرويّات صحابة رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، على حين نجد أن السيوطي يشير في كتابه (الاحتجاج بالسنّة) إلى ظهور دعوة شاذّة في عصره، تدعو إلى نبذ السنّة، والإعراض عن الاحتجاج بها، والاكتفاء بالقرآن، ويذكر أن مصدر هذه الدعوة رجل رافضي، وقد كتب كتابه المذكور لنقض هذا الاتّجاه وإبطاله. إذن، فالشيعة تحارب السنّة، ولهذا فإن أهل السنّة اختصوّا بهذا الاسم، لاتّباعهم سنّة المصطفى (صلّى الله عليه وسلّم)»([63]).

وهناك العشرات من هذه الموارد، التي يستقي فيها فكرته من مصادر أهل السنّة، ويؤسّس شبهته على أقوالهم وفهمهم، وهو بذلك يخالف المنهج الذي طرحه في مقدمة كتابه، فضلاً عن أنّه مخالف لمبادئ الحوار والمناظرة.

خروجه عن أدب الحوار

كما لا يخفى على من يتصفّح رسالة القفاري، تعمّده في استعمال الألفاظ الحادّة والجارحة، في كثير من مقالاته، وهو منهج بعيد عن الأدب مع المخالفين، ويتقاطع مع الخلق الإسلامي الذي من المفترض أن يتحلّى به الدكتور القفاري، ونحن لا نستغرب بعض الألفاظ التي تصدر منه؛ لأنّنا نعتقد أن مرجع ذلك هو تأثّره القوي بالاتّجاه السلفي المتعصّب، وبالخصوص تأثّره الكبير بابن تيمية وغيره، فقد انطلق، في أغلب مواضيع بحثه، من عقلية ذلك الاتّجاه في اختلاق الشبهات، وكذلك ساقه هذا التأثّر إلى استعمال الألفاظ ‏الفاحشة، نفسها، التي ردّدها ابن حزم في كتابه الفصل، كاستعمال لفظة (رعاع الشيعة)، أو (النوكى)([64])، وغيرها من ألفاظ الشتيمة لبعض كبار علماء الشيعة، كقوله في العلاّمة الأميني أعلى الله مقامه: «الرافضي المغفل أو الزنديق المرتدي ثوب الإسلام»([65]). وكقوله على العلاّمة النوري الطبرسي بأنّه مجوسي وملحد([66]).

وهذا الأسلوب من التهجّم، ما كان ينبغي أن يصدر من باحثٍ مثل القفاري.

هذا، بالإضافة إلى محاولة تسخيف آراء الشيعة، من خلال تسخيف آراء علمائهم، ووصفه إياهم بقوله: قال جعفرهم، وقال شيخهم، وقال آيتهم، وقال عالمهم المعاصر، إلى غير ذلك من العبارات التي يهدف من ورائها إلى التقليل من قيمتهم.

هدفنا من الرد على الكتاب

هناك مجموعة من الأهداف جعلتنا نتعرّض للردّ على الدكتور ناصر القفاري، مع أن معظم الشبهات التي أوردها لم تكن جديدة، بل كان معظمها اجتراراً لما كتبه أسلاف القفاري ضد المذهب الشيعي، منذ مئات السنين، وسوف نجمل هذه الأهداف في النقاط التالية:

1ـ نظراً لما أحرزه الكتاب، في الآونة الأخيرة، من الحفاوة والرواج في أوساط أهل السنّة، حيث اعتبره بعضٌ مرجعاً مهمّاً في معرفة ونقد المذهب الشيعي؛ لذا كان من الضروري كشف الواقع العلمي والموضوعي المزيّف للكتاب نصرةً منا للحق، وتوخّياً للأمانة العلمية، وأداءً للواجب التاريخي، وشعوراً بالمسؤولية تجاه أولئك الذين انطلت عليهم هذه المغالطات والافتراءات، والتزييف للحقائق العلمية والتاريخية.

2ـ إن الكتاب ـ وممّا يؤسف له ـ يعدّ منهجاً دراسياً في الجامعات السعودية، يتلقفه طلبة الجامعة في قسم العقيدة، بكل ما فيه من مفتريات، ويؤسّسون عليه فهمهم الخاطئ تجاه طائفة كبيرة من المسلمين، ومن هنا كان لابدّ من إيصال رسالة إلى هؤلاء، مفادها أن الكثير من محتويات هذا الكتاب، لا يمكن الأخذ بها كمسلّمات، بل لابدّ من مراجعتها وتحليلها والتأمّل فيها؛ باعتبار أنّ المؤلّف قد جانب فيها الحقيقة وتنكّب طريقها، ومما يؤسف له أنه قد انخدع الكثير في السنوات الأخيرة بما في محتويات الكتاب، وأخذت تلك المحتويات ـ مع ضعف الكثير منها ـ طريقها إلى محافل النقاش من غير تدقيق وتمحيص؛ لذا من الجدير بالمؤسسة العلمية وحفاظاً على سمعتها في الأوساط الفكرية أن تعيد النظر في هذا المنهج الدراسي، وتستعيض عنه بكتاب آخر يكون صالحاً لفهم العقيدة الشيعية.

3ـ لقد استخدم القفاري منهج التحريض والاستعداء، ضد الشيعة، بأسلوب خطابيّ مفبرك، أراد منه التأثير على عقول العامّة؛ في محاولةٍ منه لخلق أرضية صالحة لنموّ بذور الحقد والكراهية بين المسلمين، خصوصاً ونحن نعيش أجواء الفتنة والشحن الطائفي والمذهبي الذي يغذّيه المستكبرون وأعداء الإسلام، لهذا كان من الضروري التصدّي لتلك الفتنة، ومحاولة القضاء عليها قدر الإمكان.

4ـ وأخيراً، لابدّ لنا من التأكيد على أننا لم نكن نهدف قطّ، الهجوم على معتقدات أهل السنّة؛ كيف، وهم إخواننا الذين تجمعنا وإيّاهم كلمة التوحيد، وكتابنا وكتابهم واحد، ونبينا ونبيهم واحد؟! لكنّنا ندافع عن أنفسنا دفاعاً مشروعاً، في خضمّ هذه الهجمة التكفيريّة على معتقداتنا الدينيّة، وسوف يرى القارئ، بأمّ عينه، أننا لم نكن لنتعرّض لأيّ رمز من الرموز التي يحترمها إخواننا، كما فعل القفاري، ولم نكن لنسيء إلى أيّ معتقد، بل نحرص كلّ الحرص، على تقديم النموذج الأمثل في الحوار الهادف البنّاء، بعيدة عن التشنّجات وما يثير الحسّاسية، في تعاطينا الردّ على الشبهات.

منهجنا في رد شبهاته

لقد اتّبعنا، في نقدنا لشبهات القفاري، منهجاً عامّاً ومنهجا خاصّاً، وكل منهما له مواصفاته:

أمّا المنهج العامّ، فيعتمد على النقاط التالية:

أوّلاً: أن يكون ردّ الشبهة، وفق المنهج العامّ لأهل السنّة، أي أننا نجيب الدعاوى المطروحة، على وفق مبانيهم الرجالية والحديثية والأصولية والفقهية، ووفق أقوال علمائهم.

ولهذا فقد اعتمدنا بشكل كبير على الروايات الصحيحة ـ وفق التصحيح السندي عندهم ـ وابتعدنا عن الروايات الضعيفة([67])، ومن هنا كنا نحتاج إلى عناية خاصّة في انتقاء الرواية من مصادرها الأصلية، والنظر في تصحيحها والتدقيق فيه؛ لئلاّ يبتني بحثنا على رواية ضعيفة تؤدّي، بالنتيجة، إلى بطلان الردّ من الأساس.

ثانياً: الابتعاد عن المنهج الفلسفي والعقلي المعمّق، وكذلك الابتعاد عن التأويل والتفسير الباطني، كما ابتعدنا أيضاً عن المنهج الكلاسيكي في الرد، من قبيل: إن قلتم قلنا، أو استخدام بعض المصطلحات التي لا يفهمها إلاّ بعض المتخصّصين في العلوم الإسلامية.

ثالثاً: الجواب بأسلوب يبتعد عن التهجّم والسبّ والشتم والألفاظ الحادّة، واحترام الشخصيّات الدينيّة التي تحظى باحترام الطرف المقابل.

رابعاً: بذل ما في الوسع، في الاعتماد على أمّهات المصادر في نقل الأحاديث واقتباس النصوص، والاعتماد قدر الإمكان على أقوال كبار العلماء، وقد توخّينا الدقّة في ذكر المصادر، بحيث يبعد أن تجد كلاماً منسوباً للآخرين دون ذكر مصدره، كما تمّت مراعاة الأقدمية والأهميّة في تسلسل المصادر.

خامساً: الابتعاد عن الإطناب في ردّ الشبهة، والاقتصار في كلّ جواب أو عنوان، على القدر الذي يصبّ في معالجة الشبهة والإجابة عنها، فابتعدنا عن البحوث اللغوية المطوّلة، أو المقدّمات الكثيرة، مع قلّة الاحتياج إليها في الجواب. ومن ناحية اُخرى، تركنا الاختصار المخلّ والعبارات غير المألوفة، مستخدمين العبارات العصرية قدر الإمكان، مع المحافظة على دقّة الجواب وعلميّته.

أمّا منهجنا الخاصّ: فنقصد به كيفية ردّ الشبهات بنحوٍ تفصيلي، وقد تضمّن النقاط التالية:

أوّلاً: قراءة الشبهة، في رسالة القفاري، وفهمها بشكل دقيق، ومحاولة انتزاع عنوان كلّي للشبهة، ووضعه قبل الردّ.

ثانياً: اقتباس ما يدلّ على الشبهة من كلام القفاري في رسالته بشكل مختصر.

ثالثاً: وضع عنوان: بيان الشبهة في كثير من الشبهات فيما لو كانت غير واضحة، ثمّ الشروع بتوضيحها بشكل دقيق، ثمّ نقوم بردّها وتفنيدها وفق المنهج المتّبع.

رابعاً: وضعنا عنوان: (أساسيّات الشبهة) في بعض الموارد، ونعني بها المقدّمات التي استند إليها القفاري في وضع شبهته، بمعنى كيفيّة تبلور الشبهة في ذهن القفاري، سواء ذَكَر تلك المقدمات في كتابه أو لم يذكرها.

خامساً: ثمّ شرعنا بالردّ وفق تلك الأساسيّات، لدحض تلك المقدّمات.

خطة البحث

لقد وفّقنا الله تعالى لإكمال ثلاثة أجزاء من الردّ على هذه الشبهات في مقدمة وثلاثة أبواب، وستأتي الأجزاء اللاحقة تباعاً، إن شاء الله تعالى.

أمّا الجزء الأوّل فقد احتوى، بعد المقدمة، على الباب الأول، الذي اقتصر على الإجابة عن الشبهات التي أثارها القفاري حول اعتقاد الشيعة بالسنّة النبويّة، حيث اتّهم الشيعة بأنّ سنّتهم تختلف عن سنّة المسلمين، وأنهم ينكرون السنّة النبويّة. وقد احتوى هذا الجزء أيضاً على قسم من الباب الثاني الذي تعلق بمسألة الإمامة، التي تعتبر أهمّ نقاط الخلاف مع إخواننا أهل السنّة، وقد تضمن أربعة فصول:

الفصل الأوّل: بحثنا فيه الشبهات المثارة حول مفهوم الإمامة ومنزلتها عند الشيعة، ودحضنا فيه شبهة أن عقيدة الشيعة سبئيّة الأصل.

الفصل الثاني: بحثنا فيه الشبهات حول أدلّة الإمامة، فقد حاول القفاري أن يفنّد كلّ الأدلّة التي استدل بها الشيعة على صحّة عقيدة الإمامة، وبدأ بمناقشة الأدلّة القرآنية على الإمامة أولاً، لذا فقد جاء الفصل الثاني كإثبات لصحّة تلك الأدلّة القرآنية، ودفع ما أثاره من شبهات وتزييف للحقائق. وقد وقع هذان الفصلان في الجزء الأول.

أما الفصل الثالث والرابع من الباب الثاني، فقد صار نصيبهما في الجزء الثاني، وقد تناولنا في الفصل الثالث، دحض الشبهات المثارة حول أدلّة الإمامة الروائية.

وأما الفصل الرابع فخصصناه لدحض الشبهات المتعلقة بوجود النصّ على الإمامة.

أما الجزء الثالث، فقد تضمن باباً ثالثاً بعنوان شبهات حول المهدية والتوسل، في فصلين: الأول خصصناه لبحث الشبهات المتعلقة بالإمام المهدي×، والثاني خصصناه لموضوع التوسل، وقد تطرقنا لأدلته ومناقشة الشبهات المثارة حوله من القفاري وغيره.





شكر وتقدير

نتقدم بالشكر الجزيل إلى سماحة حجة الإسلام والمسلمين الدكتور أعرافي، رئيس جامعة المصطفى | العالمية، على ما بذله من جهود في تذليل بعض الصعاب والعقبات التي اعترضت طريق التحقيق والبحث، فجزاه الله خيراً.

كما نشكر أيضاً مؤسسة الكوثر، ممثلةً بأمينها سماحة حجة الإسلام والمسلمين: الشيخ عبد المجيد البقشي، لما قام به من توفير بعض المصادر والكتب وغيرها من المستلزمات.

كما نشكر كلّ من مدّ يد العون والمساعدة في إنجاز هذا العمل وإخراجه بالصورة التي هي عليها الآن، ونخص بالذكر الشيخ ماجد حمد الطائي والسيد رضا البطاط لمشاركتهما في تصحيح وتقويم الكتاب, فنسأل الله تعالى للجميع دوام التوفيق والسداد.


 

 

 

 

 

 

 

الباب الأول

شبهات حول عقيدة الشيعة بالسنة النبوية

وتضمن هذا الباب مبحثاً واحداً حول الشبهات المثارة على عقيدة الشيعة بالنسة النبوية


 

الشبهة: الشيعة لا يؤمنون بالسنة النبوية

تمهيد

قبل الدخول في بحث اعتقاد الشيعة بالسنّة النبويّة، ودفع الشبهات التي أثارها الدكتور القفاري، نرى من الضروري أن نذكر مقدّمة تمهيداً لهذا البحث.

فنقول: لقد حاول القفاري، في هذا الفصل من كتابه، أن يوحي للقارئ بأنّ الشيعة لا يؤمنون بالسنّة النبويّة الشريفة، وينكرونها؛ في محاولةٍ لإخراجهم عن الإسلام، معتمداً في ذلك على بعض الكلمات والعبارات التي اقتطعها من بعض الكتب الشيعية، مستعيناً ببعض المغالطات؛ ليجعل معاني تلك العبارات دالّة على مقصوده الذي جانب فيه الحقيقة والواقع، ذلك الواقع الذي يدلّ على أنّ الشيعة الإمامية الاثني عشرية تعتقد اعتقاداً راسخاً بأنّ السنّة النبويّة المطهّرة، هي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي الحنيف، وهذا من صميم عقائدهم وضروريات مذهبهم، وأمرٌ بدَهي بالنسبة إليهم.

 كيف، وهم يتلون الآيات القرآنية الدالّة على ذلك، من قبيل قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}([68]) فهم لا يختلفون في ذلك عن أهل السنّة، في اعتقادهم بالسنّة النبويّة، إلاّ في الطريق الموصل إليها.

فطريق أهل السنّة إلى واقع السنّة النبويّة ودرْك حقيقتها، هو ما رواه الصحابة من أقوال النبيّ وفعله وتقريره، والتي انتظمت ودوّنت في كتبهم، كالصحاح الستّة والمسانيد، وغيرها من كتب الحديث. بينما اختار الشيعة الإمامية طريقاً آخر لتلّقي السنّة النبويّة وفهمها والتعبُّد بها، وهو ما صحّ عندهم عن أهل البيت^، عن جدهم، وما ثبت عن رسول الله عن طريق بعض الصحابة.

أسباب اختيار الشيعة طريق أهل البيت^

إنّ اختيار الشيعة لهذا الطريق يرجع لسببين أساسيين، نذكرهما تباعاً:

السبب الأول:

هو توافر الأدلّة القطعيّة على لزوم اتّباع أهل البيت، وتلقي السنّة النبويّة الشريفة عنهم سلام الله عليهم.

السبب الثاني:

هو ما اعترى طريق أهل السنّة، من ظروف وملابسات، جعل من غير المنطقي الاعتماد عليه في أخذ الشريعة الإسلامية وتعاليمها، وهذا ما سيتّضح، بصورة جليّة، لاحقاً.

مناشئ السبب الأول

أمّا فيما يتعلّق بالسبب الأوّل، فإنّ الشيعة الإمامية لم يكن لهم خيار إلاّ اتّباع أهل البيت^، وذلك لعدّة أدلّة، نذكر منها:

 

حديث الثقلين والتمسّك بمرجعية أهل البيت

وهو الحديث الذي رواه الفريقان، وبلغ من الشهرة والذيوع مبلغاً كبيراً، فقد رواه كبار المحدّثين والعلماء، بألفاظ متقاربة وبصيغ متعدّدة، ممّا يدلّ على أنّ النبيّ’ قد تحدّث به في أكثر من مناسبة؛ فقد أخرج مسلم في صحيحه، بسنده عن زيد بن أرقم، قال:

 «قام رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) يوماً فينا خطيباً، بماءٍ يدعى خُمّاً، بين مكّة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكّر، ثمّ قال: أمّا بعد، ألا أيّها الناس... وأنا تارك فيكم ثقلين: أوّلهما كتاب الله... ثمّ قال: وأهل بيتي؛ أذكّركم الله في أهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي»([69]).

وأخرجه الترمذي، بسنده عن أبي سعيد الخدري وزيد بن أرقم، قالا: «قال رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم): إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر؛ كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما»([70])، وقد صحّحه الألباني في صحيح الجامع الصغير([71]).

وأخرج قريباً منه، أحمد في مسنده([72])، والنسائي في السنن الكبرى([73])، والحاكم في المستدرك، وقال عنه: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بطوله»([74]).

والحديث مضافاً لوروده في صحيح مسلم وتصحيح الحاكم له, فقد صحّحه عدّة من العلماء كالذهبي, وابن كثير، وابن حجر, والألباني وغيرهم([75]).

بل لا يبعد القول بتواتره؛ لوروده من طرق عديدة جداً وبألفاظ متقاربة عن جمع من الصحابة، قال أبو منذر سامي بن أنور المصري الشافعي: «فحديث العترة، بعد ثبوته من أكثر من ثلاثين طريقاً، وعن سبعة من صحابة سيّدنا رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) ورضي عنهم، وصحّته التي لا مجال للشكّ فيها، يمكننا أن نقول: أنّه بلغ حدّ التواتر»([76]).

من هم أهل البيت؟

ولكن من هم أهل بيت رسول الله، وعترته، الذين جُعلوا عِدْلاً للقرآن، وجعل التمسّك بهما نجاة من الضلال والهلاك؟

هذا ما أجابت عنه وبيّنته السنّة النبويّة نفسها، فقد أخرج مسلم عن عائشة, قالت: >خرج النبيّ (صلّى الله عليه وسلّم) غداة وعليه مِرْطٌ مُرَحَّل من شعر أسود, فجاء الحسن بن علي فأدخله, ثمّ جاء الحسين فدخل معه, ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها, ثمّ جاء عليّ فأدخله, ثمّ قال: إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً<([77]).

 وأخرج الترمذي في سننه، عن عمر بن أبي سلمة، قال: «لمّا نزلت هذه الآية على النبيّ (صلّى الله عليه وسلّم): {إنّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} في بيت أمّ سلمة، فدعا فاطمة وحسناً وحسيناً، فجلّلهم بكساء، وعليّ خلف ظهره، فجلّله بكساء، ثمّ قال: اللّهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، قالت أمّ سلمة: وأنا معهم يا رسول الله؟ قال: أنت على مكانك، وأنت إلى خير»([78]).

وأخرجه غيره من المحدّثين والعلماء، كالطبري في جامع البيان([79])، والطحاوي في مشكل الآثار([80]).

والحديث له طرق مختلفة، وعن عدّة من الصحابة, ومضافاً لوروده في صحيح مسلم فقد صحّحه الترمذي والحاكم والألباني وغيرهم([81]).

وبضم هذه الأحاديث التي فسّرت معنى أهل البيت ـ بالخمسة أصحاب الكساءـ إلى حديث الثقلين، نحصل على الجواب الواضح للسؤال: من هم أهل بيته؟ فتكون النتيجة التي لا لبس فيها أن أولئك هم العروة الوثقى وسفينة النجاة من الغرق في بحر الضلالات والأهواء.

معنى التمسك بأهل البيت

بما أن التمسّك بأهل البيت هو من المفاهيم البيّنة والواضحة، فلا يعدو أن يكون المعنى هو محبّتهم أوّلاً، والعمل بما يقولون ثانياً.

قال ملاّ عليّ القاري: «والمراد بالأخذ بهم، التمسّك بمحبّتهم، ومحافظة حرمتهم، والعمل بروايتهم، والاعتماد على مقالتهم...»([82]).

وذكر المناوي في فيض القدير ما يشبه هذا المضمون([83]).

وهذا واضح في الدلالة على أن السنّة النبويّة التي كانت صنو القرآن وعدله هي السنّة المأخوذة عن أهل البيت^، بالمعنى الذي فسّرته السنّة.

2ـ حديث السفينة

وهو من الأدلّة المحكمة والواضحة، على لزوم اتّباع طريق أهل البيت^ دون غيرهم، فقد أخرج أحمد بن حنبل، في فضائل الصحابة، بسنده عن حنش الكناني، قال: «سمعت أبا ذرّ يقول، وهو آخذ بباب الكعبة: من عرفني، فأنا من قد عرفني، ومن أنكرني، فأنا أبو ذرّ، سمعت النبيّ (صلّى الله عليه وسلّم) يقول: ثمّ ألا إن مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها هلك»([84]).

وقد أخرجه غيره من الحفّاظ والعلماء، كالطبراني في الكبير والأوسط والصغير([85])، والحاكم في المستدرك، وقال عنه: «حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه»([86])، والخطيب البغدادي في تاريخه([87])، وأبو نعيم في حلية الأولياء([88])، وغيرهم من الحفّاظ، فقد أخرجوه عن عدد من الصحابة، كعليّ بن أبي طالب×، وأبي ذرّ الغفاري، وأبي سعيد الخدري، وابن عبّاس، وأنس بن مالك وغيرهم، وبطرق متكثّرة ومتشعّبة، تعطي للحديث قوّة وترفعه إلى درجة الصحّة أو الحسن، قال ابن حجر الهيتمي في الصواعق: «وجاء من طرق كثيرة يقوّي بعضها بعضاً، مثل: أهل بيتي، وفي رواية: إنّما مثل أهل بيتي، وفي اُخرى: إنّ مثل أهل بيتي، وفي رواية: ألا إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح في قومه من ركبها نجا ومن تخلّف عنها هلك، وفي رواية: من ركبها سلم ومن تركها غرق، وأنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطّة في بني إسرائيل، من دخله غفر له...»([89]).

وقال الحافظ السّخاوي: «وبعض هذه الطرق يقوّي بعضاً»([90]).

ودلالة الحديث لا تحتاج إلى مزيد بيان، في أنّ أهل البيت هم سبل النجاة وأعلام الهداية في بحر الضلالة والغواية، فتشبيههم بسفينة نوح× تارة، وبباب حطّة اُخرى، له أبلغ الدلالة على أنّ الطريق الصحيح للسنّة النبوية من بعد وفاة النبيّ منحصر بهم، فلابدّ من ركوب سفينتهم للوصول إلى السنّة الحقيقية، والنجاة من الغرق في بحر المخالفات.

قال المناوي: «ووجه تشبيههم بالسفينة، أنّ من أحبّهم وعظّمهم شكراً لنعمة جدّهم، وأخذ بهدي علمائهم، نجا من ظلمة المخالفات، ومن تخلّف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم، وهلك في معادن الطغيان»([91]).

وقال ملاّ عليّ القاري: «(ألا إن مثل أهل بيتي)، بفتح الميم والمثلثة، أي شبّههم (فيكم مثل سفينة نوح)، أي في سببية الخلاص من الهلاك إلى النجاة، (من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها هلك) فكذا من التزم محبّتهم ومتابعتهم نجا في الدارين، وإلاّ فهلك فيهما»([92]).

ولا شكّ أنّ الخلاص والنجاة من الهلاك، وركوب السفينة، لا يتحقّق بمجرّد المحبّة، ما لم يتحقّق معه الأخذ بتعاليمهم وأوامرهم، والرجوع إليهم في اُمور الدين والدنيا، وإلاّ فلا يحصل معنى ركوب السفينة والنجاة من الهلاك والغرق، وهو نفس المعنى المتقدّم في حديث الثقلين، فالحديثان أحدهما يكمّل معنى الآخر.

3ـ حديث النجوم

وهو قول رسول الله: «النجوم أمان لأهل السماء، إذا ذهبت النجوم ذهب أهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض».

أخرجه أحمد بن حنبل، والطبراني، والحاكم، والروياني وغيرهم([93]).

والحديث صحّحه عدد من العلماء والمحدّثين، منهم: الحاكم في المستدرك، قال: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه»([94])، وقال بصحّته، كذلك، ابن حجر الهيتمي في الصواعق([95])، وحسّنه السيوطي في الجامع الصغير، قال المناوي في شرحه للجامع الصغير: «(عن سلمة بن الأكوع) رمز لحسنه [أي قد حسّنة السيوطي]، ورواه عنه أيضاً الطبراني ومسدّد وابن أبي شيبة بأسانيد ضعيفة، لكن تعدّد طرقه ربّما يصيّره حسناً»([96])، وللحديث ألفاظ اُخرى متقاربة، وروي بطرق متعدّدة يقوّي بعضها بعضاً.

وقد ذكر بعض تلك الطرق، السخاوي في كتابه استجلاب ارتقاء الغرف([97])، والسمهودي في جواهر العقدين([98])، وقال في معرض تعليقه على حديث الثقلين: «إنّ ذلك يُفهِمَ وجودَ مَن يكون أهلاً للتمسّك به مِن أهل البيت والعترة الطاهرة، في كلّ زمان وجدوا فيه إلى قيام الساعة، حتى يتوجّه الحثّ المذكور إلى التمسّك به، كما أنّ الكتاب العزيز كذلك، ولهذا كانوا ـ كما سيأتي ـ أماناً لأهل الأرض، فإذا ذهبوا ذهب أهل الأرض»([99]).

وهذا الدليل ـ كما ترى ـ له دلالته البيّنة على وجوب التمسّك بأهل البيت^ بوصفهم أماناً لأهل الأرض، أو للأمّة، من الضلال والاختلاف، قال المناوي في فيض القدير: «شبههم بنجوم السماء وهي التي يقع بها الاهتداء، وهي الطوالع والغوارب، والسيّارات والثابتات، فكذلك بهم الاقتداء وبهم الأمان من الهلاك»([100]).

وهذا المعنى الذي تفيده الروايات، يستبطن أن في خلافهم وعدم الاقتباس من نور هدايتهم، التمزّق والتفرّق؛ إذ ليس بعد الهدى إلاّ الضلال، وهذا ما أشارت إليه إحدى الروايات الشريفة، وهي التي أخرجها الحاكم في مستدركه، عن ابن عبّاس، قال: «قال رسول الله’: النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمّتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب، اختلفوا فصاروا حزب إبليس».

قال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه»([101]).

4ـ حديث الاثني عشر خليفة

من الحقائق الإسلامية التي لا تخفى على أحد، وإن أراد بعضٌ إخفاءها أو التغافل عنها، هي أنّ عزّة هذا الدين ومنعته الحقيقية تكون متمثّلة باثني عشر خليفة، أو أميراً، بعد النبيّ، وهم الذين يحملون روح الإسلام وتعاليمه الحقيقية، وهذا المعنى قد أفادته أحاديث نبوية كثيرة، حملتها أمّهات كتب المسلمين المعتبرة، فقد أخرج البخاري في صحيحه، بسنده عن جابر بن سمرة، قال: «سمعت النبيّ (صلّى الله عليه وسلّم) يقول: يكون اثنا عشر أميراً، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: أنّه قال: كلّهم من قريش»([102]).

وأخرج مسلم في صحيحه عن جابر بن سمرة، قال: «انطلقت إلى رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) ومعي أبي، فسمعته يقول: لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة، فقال كلمة صمّنيها الناس، فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلّهم من قريش»([103])، وأخرج هذا المعنى بألفاظ متقاربة جدّاً عدد من الحفاظ والعلماء، كأحمد في مسنده([104])، والترمذي([105])، وأبو داود في سننهما([106])، وغيرهم.

إذن فلا سبيل إلى إنكار أصل هذه الحقيقة المسلّمة بعد ورودها في أصحّ الكتب، ولكن المشكلة تكمن في تفسير هذا الحديث، وإيجاد المصداق الحقيقي له، والإنصاف يدعونا إلى القول بأنّ أيّة فرقة من فرق المسلمين، لم توفّق لإعطاء المصداق الحقيقي لهؤلاء الاثني عشر، والذي ينسجم مع عزّة الإسلام، بحيث تشير إلى شخصيّاتهم بوصفهم رمزاً يمثّل عزّة الإسلام، سوى الشيعة الإمامية الذين فسّروا هذا الحديث بالأئمّة الاثني عشر من ذرية رسول الله، وهم أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً؛ أوّلهم عليّ بن أبي طالب× وآخرهم المهديّ المنتظر×، ويستندون في تفسيرهم هذا إلى أدلّة قويّة ومحكمة، كحديث الثقلين وحديث السفينة وحديث الأمان من الضلال، التي تقدّم الكلام عنها، والتي جاءت صحيحة من طرق أهل السنّة.

هذا، وقد فسَّر الشيعة الإمامية، منعة الدين وعزّته ـ التي لا تتحقّق إلاّ بهؤلاء ـ بالحفاظ على قيمه ومبادئه الأصيلة، وتجسيد تعاليمه والعمل بأوامره ونواهيه، وذلك من خلال اتّباع تلك الصفوة.

كما وأن السيرة الذاتيّة لأهل البيت^، خير شاهد على ما نقول، وليس أدلّ على ذلك من شهادة القاصي والداني لهم بالعلم الغزير، والفضائل الكثيرة، والملاكات العالية، من الإخلاص والتقوى والاستقامة على طريق الحقّ، مع ما كانوا يتمتّعون به من الخُلُق العالي المنقطع النظير.

أهل السنة يختلفون في تفسير حديث: الأئمة اثنا عشر

لم يقدّم علماء أهل السنّة ومحدّثوهم، التفسير الواقعي والحقيقي لهذا الحديث، بعد أن ارتأوا أن يفسّروه بالخلفاء والحكّام والأمراء، الذين تسلّموا مقاليد اُمور الدولة الإسلامية، مفسّرين عزّة الإسلام ومنعته بالإمرة والحكم السلطوي، فجاءت أقوالهم وتأويلاتهم غريبة وبعيدة عن الواقع، وعديمة الحجّة والبيّنة الواضحة، تكتنفها الحيرة والارتباك؛ حيث كانت الأحاديث النبويّة تقطع عليهم وجهتهم، تلك الأحاديث القاضية بأنّ الله بدأ هذا الأمر بنبوّة ورحمة، ثمّ تكون خلافة ثمّ تكون ملكاً عضوضاً وفساداً في الأرض...([107])، وأن «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثمّ تكون ملكاً»([108]).

هذا من جهة، ومن جهة اُخرى تحاصرهم سيرة كثير من أولئك الأمراء التي لا تمتّ للإسلام وتعاليمه بصلة، فوقعوا في حيرة من أمرهم، إزاء تفسير هذا الحديث، بخلاف الشيعة الذين كان عدد الاثني عشر عَلَماً وهويّة لهم، فنُعِتوا لأجله بالشيعة الاثني عشرية.

 وإليك أيها القارئ بعض تفسيرات علماء أهل السنّة، لترى بنفسك كيف أنّها كانت عبارة عن فرضيّات ومحتملات يناقض بعضها بعضاً، وممّا يدلّ على كونها كذلك، ما عبّروا به من كلمات، من قبيل: (قيل) أو (الذي يغلب على الظنّ) أو (الله أعلم بمراد نبيّه) أو (الله أعلم) وغير ذلك.

تفاسير بعض علماء أهل السنّة للحديث

أـ ابن عربي لا يرى للحديث معنى

قال ابن العربي، في شرح صحيح الترمذي: «فَعَدَدْنا بعد رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) اثني عشر أميراً، فوجدنا أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلياً، والحسن، ومعاوية، ويزيد، ومعاوية بن يزيد، ومروان، وعبد الله بن مروان، والوليد بن عبد الملك، وسليمان، وعمر بن عبد العزيز...» إلى أن قال: «وإذا عددنا منهم اثني عشر انتهى العدد بالصورة إلى سليمان، وإذا عددنا بالمعنى، كان معنا منهم خمسة: الخلفاء الأربعة وعمر بن عبد العزيز، ولم أعلم للحديث معنى، ولعلّه بعض حديث!!»([109]).

ب ـ النووي يرى تفسير الحديث مرتبطاً بعلم الله تعالى

وقال النووي: «وقال القاضي عياض، في جواب القول: أنّه قد ولي أكثر من هذا العدد؟ قال: وهذا اعتراض باطل؛ لأنّه (صلّى الله عليه وسلّم) لم يقل: لا يلي إلاّ اثنا عشر خليفة، وإنّما قال: يلي، وقد ولي هذا العدد، ولا يضرّ كونه وُجِد بعدَهم غيرُهم... ويحتمل أوجهاً اُخرى، والله أعلم بمراد نبيّه»([110]).

ج ـ ابن الجوزي لا يرى أحداً ينطبق عليه الحديث

وكشف ابن الجوزي عن مدى حيرته، التي دعته إلى أن يتّهم الرواة بالتخليط؛ لأنّه لم يجد تفسيراً يقتنع به، حيث قال: «هذا الحديث قد أطلت البحث عنه، وطلبت مظانّه، وسألت عنه، فما رأيت أحداً وقع على المقصود به، وألفاظه مختلفة لا أشكّ أن التخليط فيها من الرواة، وبقيت مدة لا يقع لي فيه شيء، ثمّ وقع لي فيه شيء»([111]).

ثمّ بعد أن أعيته الحيلة اختار العدد من بني أمية، وأيّده بحديث: (تدور رحى الإسلام)؛ ممّا جعل ابن حجر العسقلاني يرفض هذه المحاولة، معلّقاً: «وأمّا محاولة ابن الجوزي الجمع بين حديث تدرو رحى الإسلام وحديث الباب ظاهر التكلّف»([112]).

دـ ابن كثير والسيوطي يريان أن المهدي من الاثني عشر

وهذا ابن كثير يدلو بدلوه، بعد أن يرفض أئمّة الشيعة الاثني عشر، بحجّة أنهم لم يلوا الأمر؛ قال: «لا يشترط أن يكونوا متتابعين، بل يكون وجودهم في الاُمّة متتابعاً ومتفرّقاً، وقد وُجِد منهم أربعة على الولاء، وهم: أبو بكر ثمّ عمر ثمّ عثمان ثمّ عليّ (رض)، ثمّ كانت بعدهم فترة، ثمّ وجد منهم من شاء الله، ثمّ قد يوجد منهم من بقي في الوقت الذي يعلمه الله تعالى، ومنهم المهدي...»([113]).

وواضح، من خلال كلامه، أنّه ليس لديه وضوح حول المصداق الواقعي للعدد، بل يتكلّم رجماً بالغيب، وليس حال السيوطي بأفضل من حال ابن كثير، إذ يقول: «فقد وجد من الاثني عشر خليفة: الخلفاء الأربعة والحسن ومعاوية وابن الزبير وعمر بن عبد العزيز، هؤلاء ثمانية، ويحتمل أن يضمّ إليهم المهتدي من العباسيين؛ لأنّه فيهم كعمر بن عبد العزيز في بني أمية، وكذلك الطّاهر؛ لما أوتيه من العدل، وبقي الاثنان المنتظران؛ أحدهما المهدي؛ لأنّه من آل بيت محمّد (صلّى الله عليه وسلّم)»([114]).

وقد علّق عليه الأستاذ أبو ريّة بقوله: «ولم يبيّن المنتظر الثاني!! ورحم الله من قال في السيوطي: إنّه حاطب ليل»([115]).

وبعد كلّ هذا، يتبيّن لنا وضوح النظرية الشيعية ونضجها، في تفسيرها لهذا الحديث، وأن تطبيقه الصحيح لا يتّفق إلاّ مع واقع أهل البيت^، وإن فارقتهم الاُمّة وخالفتهم، ولم تهتد بهديهم، كما ورد عن رسول الله أنّه قال: «... اثنا عشر خليفة، كلّهم يعمل بالهدى ودين الحقّ، لا يضرّهم من خذلهم»([116]).

وهذه النظرية تشكّل، مع الأحاديث السابقة التي نقلناها، أطروحة واضحة المعالم، في أنّ أهل البيت ^، هم الامتداد الطبيعي للرسول الأكرم، وهم حملة لواء الشريعة الإسلامية، وسفن النجاة، وسبل الخلاص من الفرقة والاختلاف والأهواء، وهم الأدلاّء على طريق الله، فما خاب عندئذ من تمسّك بهم، وأمن من اتّبعهم ولجأ إليهم، فحقيقة اتّباع أهل البيت^ لم يكن بلا مبرر شرعي، أو أنّه مجرّد اتّباع لذوات أشخاصٍ معيّنين، بل اتباعهم إنّما هو امتثال للسنّة النبويّة، وعمل بهديها، فكيف يعقل بعد هذا القول إن الشيعة تنكر السنّة النبويّة الشريفة؟! كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولوا إلاّ كذباً.

مناشئ السبب الثاني في اختيار الشيعة لطريق أهل البيت ^

وأمّا السبب الثاني الذي حدا بالشيعة إلى اتّباع أهل البيت واتّخاذهم طريقاً في فهم السنّة والتعبّد بها، ومجانبة الطرق الاُخرى التي سلكها إخوانهم من أهل السنّة، للوصول إلى أحكام وتعاليم النبيّ الأكرم، هو ما تعرّضت له هذه الطرق من ملابسات، واعتراها من مشاكل وصعوبات جمّة، يتعذّر معها الاطمئنان في السير فيها للوصول إلى منبع السنّة الحقيقي، وهذا ليس شقّاً لعصى المسلمين، ولا تفريقاً لصفوفهم والعياذ بالله، وإنما هو طريق الحق الذي لابدّ منه ولا محيصَ عنه، والحقّ أحقّ أن يتّبع، وسنذكر أهمّ ما شاب طرق أهل السنّة من مشاكل وملابسات:

1ـ منع التحديث والتدوين

لقد جوبهت السنّة النبويّة، بعد وفاة الرسول، بالحظر والمنع؛ تحديثاً وتدويناً، واستمر هذا الحظر إلى ما يقرب من قرن من الزمان، بعد أن مات السواد الأعظم من حامليها، وهناك شواهد عديدة على هذا المنع نوردها فيما يلي:

أـ أبو بكر يحض الصحابة على منع التحديث

 ورد في تذكرة الحفّاظ للذهبي، في ترجمة أبي بكر، قال: «إن الصدّيق جمع الناس بعد وفاة نبيّهم، فقال: إنكم تحدّثون عن رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه»([117]).

ب ـ عمر يأمر بتقليل الرواية عن النبي

ومنع أيضاً عمر بن الخطّاب وفد الصحابة، الذين أرسلهم إلى الكوفة، من الرواية عن رسول الله’، قال: «... فأقلّوا الرواية عن رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)، ثمّ أنا شريككم»([118])، وأخرج هذا الحديث، الحاكم في مستدركه وأضاف في ذيله: «فلمّا قدم قرظة، قالوا: حدِّثنا، قال: نهانا ابن الخطّاب»، وقال عنه الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد، له طرق تجمع ويذاكر بها، وقرظة بن كعب الأنصاري صحابي سمع من رسول الله’»([119]).

ج ـ عمر بن الخطاب يحبس بعض الصحابة الذين أكثروا الرواية

أورد الذهبي، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه: «أن عمر حبس ثلاثة: ابن مسعود وأبا الدرداء وأبا مسعود الأنصاري، فقال: قد أكثرتم الحديث عن رسول الله»([120])، وكذلك نهى عمر بن الخطّاب كبار الصحابة، عن نشر حديث رسول الله، فقد أخرج ابن عساكر، عن السائب بن يزيد، قال: «سمعت عمر بن الخطّاب يقول لأبي هريرة: لتتركنّ الحديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) أو لألحقنّك بأرض دوس، وقال لكعب الأحبار: لتتركنّ الحديث عن الأول أو لألحقنّك بأرض القردة»([121]).

قال شعيب الأرنؤوط في تحقيقه على سير أعلام النبلاء: >وهذا إسناد صحيح<([122]).

دـ أبو بكر وعمر يأمران بإحراق الأحاديث

ولم يختلف الحال في رواية الحديث عنه في مجال تدوينه، فقد كان الموقف شديداً إزاءه، فقد مُنِع تدوين الحديث منعاً باتّاً، بل امتدّ الأمر إلى حرق وإتلاف ما كُتِب من الأحاديث الشريفة، قالت عائشة: «جمع أبي الحديث عن رسول الله، وكانت خمسمائة حديث، فبات ليلته يتقلّب كثيراً، قالت: فغمّني، فقلت: أتتقلّب لشكوى أو لشيء بلغك؟ فلمّا أصبح قال: أي بنيّة، هلمّي الأحاديث التي عندك، فجئته بها، فدعا بنار فحرقها»([123]).

وأخرج ابن سعد في الطبقات، عن عبد الله بن العلاء، قال: «سألت القاسم يملي عليّ أحاديث، فقال: إنّ الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطّاب، فأنشد الناس أن يأتوه بها، فلمّا أتوه بها أمر بتحريقها، ثمّ قال: مثناة كمثناة أهل الكتاب»([124]).

هـ ـ عمر يكتب إلى الأمصار بوجوب إمحاء السنّة

لم يكتف الخليفة عمر بحرق وإتلاف ما كان موجوداً في عاصمة الخلافة الإسلامية، وإنما صدرت الأوامر بإتلاف جميع الأحاديث الموجودة في الأمصار الإسلامية، فقد روى سفيان بن عيينة، عن عروة، عن يحيى بن جعدة، قال: «إنّ عمر بن الخطّاب أراد أن يكتب السنّة، ثمّ بدا له أن لا يكتبها، ثمّ كتب إلى الأمصار: من كان عنده منها شيء فليمحه»([125]).

وبغضّ النظر عن الأسباب والمبرّرات التي دعت إلى هذا المنع، فإن الذي يهمّنا من ذلك هو التنبيه على حقيقة لابدّ لنا من التنبيه عليها، وهي أنّ السنّة النبويّة التي كانت موجودة في أيدي المسلمين لم تدوّن، ولم يتحدث بها بشكل واسع، حتى رحل الصحابة وجلّ التابعين، يقول الأستاذ محمود أبو ريّة: «وقد ظلّ الأمر في رواية الحديث على ما ذكرنا، تفعل فيه الذاكرة ما تفعل، لا يكتب ولا يدّون طوال عهد الصحابة، وصدراً كبيراً من عهد التابعين، إلى أن حدث التدوين ـ على ما قالوا ـ في آخر عهد التابعين»([126]).

وقال محمّد أبو زهو: «كاد القرن الأوّل ينتهي ولم يصدر أحد من الخلفاء أمره إلى العلماء بجمع الحديث؛ بل تركوه موكولاً إلى حفظهم... ومرور هذا الزمن الطويل كفيل بأن يذهب بكثير من حملة الحديث من الصحابة والتابعين»([127]).

وقال أيضاً: «وقد تتابع الخلفاء على سنّة عمر (رضي الله عنه)، فلم يشأ أحدهم أن يدوّن السنن، ولا أن يأمر الناس بذلك، حتى جاء عمر بن عبد العزيز»([128]).

وهذا الأمر، بلا شكّ، سوف يبقي الباب مفتوحاً على جميع الاحتمالات من الوضع والدسّ والضياع وغير ذلك.

2ـ تعرض السنة للتغيير والتبديل

لقد وردت عدّة روايات، تشير إلى أن السنّة النبويّة قد تعرّضت للتبديل والتغيير بعد وفاة صاحبها، وهذا ما أخبر به النبيّ، فقد أخرج البخاري في صحيحه، بسنده عن أبي حازم، قال: «سمعت سهل بن سعد يقول: سمعت النبيّ (صلّى الله عليه وسلّم) يقول: أنا فرطكم على الحوض، فمن ورده شَرِبَ منه، ومن شَرِبَ منه لم يظمأ بعده أبداً، لَيَرِدَ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثمّ يحال بيني وبينهم، قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن أبي عياش وأنا أحدّثهم هذا، فقال: هكذا سمعت سهلاً؟ فقلت: نعم، قال: وأنا أشهد على أبي سعيد الخدري، لسَمِعْتُه يزيد فيه، قال: إنهم منّي، فيقال: إنّك لا تدري ما بدّلوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي»([129]).

وروى الشافعي في كتابه الأمّ عن وهب بن كيسان، قال: «كلّ سنن رسول اللّه قد غيّرت حتى الصلاة»([130]).

وروى البخاري في صحيحه، عن الزهري، قال: «دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي، فقلت له: ما يبكيك؟ فقال: لا أعرف شيئاً ممّا أدركت، إلاّ هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضُيّعت»([131]).

وروى الإمام مالك بن أنس، عن عمّه أبي سهل بن مالك، عن أبيه أنّه قال: «ما أعرف شيئاً ممّا أدركت الناس عليه، قال الباجي: يريد الصحابة، إلاّ النداء بالصلاة، قال الباجي: يريد أنّه باقٍ على ما كان عليه، لم يدخله تغيير ولا تبديل، بخلاف الصلاة، فقد أخّرت عن أوقاتها، وسائر الأعمال دخلها التغيير»([132]).

واستثنى الحسن البصري القبلة فقط بقوله: «لو خرج عليكم أصحاب رسول اللّه، ما عَرَفوا منكم إلاّ قبلتكم»([133]).

وأخرج البخاري في صحيحه، عن عمران بن حصين، أنّه «صلّى مع عليّ (رضي الله عنه) بالبصرة، فقال([134]): ذكّرنا هذا الرجل صلاةً كنا نصليها مع رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)، فذكر أنّه كان يكبّر كلّما رفع وكلّما وضع»([135]).

وكذا أخرج في صحيحه أيضاً بسنده عن العلاء بن المسيّب، عن أبيه، أنّه قال: «لقيت البراء بن عازب (رضي الله عنهما)، فقلت: طوبى لك، صحبت النبيّ وبايعته تحت الشجرة، فقال: يا بن أخي، إنّك لا تدري ما أحدثنا بعده»([136]).

ولا شكّ أنّ معنى الإحداث في السنّة والتبديل فيها، تغيير ما أسّسه النبيّ من أحكام شرعية وغيرها.

وهذا المعنى واضح، يدلّ عليه ما ذكرناه من الشواهد وغيرها التي تبيّن أن هناك تغييراً قد حصل في سنّة النبيّ وأحكامه بعد وفاته، وهذا بدوره يزرع بذور الشكّ في هذا الطريق الذي يُدّعى أنّه الأسلم في الوصول إلى السنّة النبويّة.

3ـ اختلاف الصحابة في رواية السنة وفهمها

إنّ الصحابة الذين يُعدّون القناة الناقلة للسنّة النبويّة، لم يكونوا في الواقع على مستوى واحد، في الفهم والإدراك والإيمان والصحبة، فتسبّب ذلك في حصول كثير من الخلافات بين الصحابة أنفسهم، سواء على مستوى نقل الرواية أم فهمها، وأشار لهذا المعنى البخاري، عن أبي موسى، عن النبيّ، قال: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضاً، فكان منها نقيّة([137]) قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة اُخرى، إنّما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً»([138]).

اعتراض الصحابة بعضهم على بعض

وقد سجلّت لنا كتب الحديث والتاريخ، حصول الخلافات والانتقادات لبعضهم بعضاً، فكثيراً ما كان الصحابي ينقل حديثاً فيعترض عليه صحابي آخر، وينتقده في صحّة سمعه أو فهمه، فقد روى البخاري أنّ عمر بن الخطّاب كان ينقل عن رسول الله قوله: «إن الميّت ليعذب ببكاء أهله عليه»([139])، ونقل ابن عباس ذلك الكلام لعائشة (رضي الله عنها)، فقالت: «رحم الله عمر، والله ما حدّث رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم): إنّ الله ليعذّب المؤمن ببعض بكاء أهله عليه، لكن رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) قال: إنّ الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه، وقالت: حسبكم القرآن {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخرى}»([140]).

وقد أنكر الصحابة على أبي هريرة بعض مروياته، إلى حدّ الاتّهام، قال ابن قتيبة: «فلمّا أتى ـ أبو هريرة ـ من الرواية عنه (صلّى الله عليه وسلّم)، ما لم يأت بمثله مَنْ صَحِبَهُ مِن جلّة أصحابه، والسابقين الأوّلين إليه، اتّهموه، وأنكروا عليه، وقالوا: كيف سمعت هذا وحدك؟! ومن سمعه معك؟ وكانت عائشة (رض) أشدّهم إنكاراً عليه، لتطاول الأيام بها وبه»([141]).

هذا، وقد جمع الإمام الزركشي كتاباً قيّماً فيما استدركته عائشة على الصحابة، سمّاه: (الإصابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة).

4ـ قلة اهتمام الصحابة بالرواية عن رسول الله

ثمّ إنّ الصحابة لم يحضروا مجالس رسول الله جميعهم، ولم يصحبوه في جميع حلّه وترحاله، وإنما كانت لكثير منهم انشغالاتهم واهتماماتهم، مضافاً لانصرافهم إلى تأمين عيشهم في العمل بالتجارة وغيرها.

فقد أخرج البخاري في صحيحه، بإسناده عن الأعرج عن أبي هريرة أنه قال: «إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدّثت حديثاً ـ ثمّ يتلو: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} إلى قوله: {الرَّحِيمُ} ـ إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) بشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون»([142]).

كذلك روى ابن سعد، في طبقاته: «قالت عائشة لأبي هريرة: إنك لتحدّث عن النبيّ (صلّى الله عليه وسلّم) حديثاً ما سمعته منه، فقال أبو هريرة: يا أمه، طلبتُها وشَغَلكِ عنها المرآة والمكحلة، وما كان يشغلني عنها شيء»([143]).

وكذلك ما نقل عن عمر بن الخطاب، في حديث الاستئذان، حينما جهل صدور الحديث، قال: «أخَفيَ هذا علَيَّ من أمر رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)؟! ألهاني الصفق بالأسواق»([144])، وغير ذلك من الشواهد.

5ـ جهل بعض الصحابة بالسنة النبوية

لم يكن الصحابة قد بلغوا رتبةً من العلم يستطيعون بها معرفة جميع ما جاء به النبيّ، بل إن كثيراً منهم قد كان جاهلاً بأحكام واضحة، حتى أن ذلك الجهل لم يخل منه كبار الصحابة، أمثال عمر وأبي بكر، فها هو الخليفة أبو بكر يعترف بجهله بحكم ميراث الجدّة، مدّعياً أنّه ليس لها شيء في كتاب الله، ولا يعلم ذلك في سنّة نبيّه، ثمّ يرجعها حتى يسأل الناس، روى ذلك ابن أبي داود في سننه، وكذلك رواه غيره، عن قبيصة بن ذؤيب، أنّه قال: «جاءت الجدّة إلى أبي بكر الصدّيق تسأله ميراثها، فقال: ما لكِ في كتاب الله تعالى شيء، وما علمتُ لك في سنّة نبيّ الله (صلّى الله عليه وسلّم) شيئاً، فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)؛ أعطاها السدس...»([145]).

كما أنّه قد روي عن عمر بن الخطّاب جهله بحديث الاستئذان ثلاثاً، حتى أعلمه به صغار الصحابة، فقد أخرج البخاري بسنده عن عبيد بن عمير: «أن أبا موسى الأشعري استأذن على عمر بن الخطّاب (رضي الله عنه)، فلم يؤذن له، وكأنه كان مشغولاً، فرجع أبو موسى؛ ففرغ عمر، فقال: ألمْ أسمع صوت عبد الله بن قيس؟! ائذنوا له، قيل: قد رجع، فدعاه، فقال: كنّا نؤمر بذلك، فقال: تأتيني على ذلك بالبيّنة، فانطلق إلى مجلس الأنصار فسألهم، فقالوا: لا يشهد لك على هذا إلاّ أصغرنا، أبو سعيد الخدري، فذهب بأبي سعيد الخدري، فقال عمر: أخَفِيَ علَيَّ هذا من أمر رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) ؟ ألهاني الصفق بالأسواق»([146]).

وكذلك جهله بحكم التيمّم في الشريعة الإسلامية، حتى أخبره الصحابي عمّار بن ياسر بذلك، ففي صحيح مسلم: «عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه، أنّ رجلاً أتى عمر، فقال: إني أجنبت فلم أجد ماء، فقال: لا تصلِّ، فقال عمّار: أما تذكر يا أمير المؤمنين، إذ أنا وأنت في سريّة، فأجنبنا، فلم نجد ماء، فأمّا أنت فلم تصلّ، وأمّا أنا فتمعّكت في التراب وصليت، فقال النبيّ (صلّى الله عليه وسلّم): إنّما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ثمّ تنفخ، ثمّ تمسح بهما وجهك وكفّيك؟! فقال عمر: اتّق الله يا عمّار، قال: إن شئت لم أحدّث به»([147]).

وقد طال الجهل والخلط حتى كبار المحدّثين، أمثال أبي هريرة، فقد روي عن شعبة أنّه قال: «أبو هريرة كان يدلّس: أي يروي ما سمعه من كعب وما سمعه من رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)، ولا يميّز هذا من هذا»([148]).

وقد لا يكون الجهل ناشئاً من عدم علم الصحابي بأصل الحكم، بل يمكن أن يكون عالماً بالحكم لكن كان حكماً منسوخاً؛ لكونه لم يسمع الناسخ، فيجهل بسبب ذلك حقيقة الحكم الواقعي، وربّما سمع آخر المطلق ولم يسمع المقيّد، فيعلم بالمطلق فقط، وإلى هذا المعنى يشير أمير المؤمنين عليّ× عندما سئل عن أحاديث البدع، وعمّا في أيدي الناس من اختلاف الخبر: «إنّ في أيدي الناس حقّاً وباطلاً، وصدقاً وكذباً، وناسخاً ومنسوخاً، وعامّاً وخاصّاً، ومحكماً ومتشابهاً، وحفظاً ووهماً ـ إلى أن يقول ـ : ورجل ثالث سمع من رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) شيئاً يأمر به، ثمّ نهى عنه وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شيء ثمّ أمر به وهو لا يعلم، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ، فلو علم أنّه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنّه منسوخ لرفضوه»([149]).

وكذلك، ربّما سمع صدر الحديث ولم يسمع ذيله، فقد روى ابن الجوزي، قال: «إن الزبير بن العوّام سمع رجلاً يحدّث عن رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)، فاستمع له الزبير حتى إذا قضى الرجل حديثه، قال له الزبير: أنت سمعت هذا من رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)؟ قال: نعم، قال: هذا وأشباهه، يمنعنا أن نحدّث عن رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)، قد لعمري سمعت هذا من رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) وأنا يومئذٍ حاضر، ولكن رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) ابتدأ بهذا الحديث، فحدّثناه عن رجل من أهل الكتاب حدّثه إيّاه، فجئت أنت يومئذٍ بعد انقضاء صدر الحديث، وذكر الرجل الذي من أهل الكتاب، فظننت أنّه من حديث رسول الله»([150]).

وهذه الاشتباهات كانت سائدة في مجتمع الصحابة والتابعين الذين نقلوا السنّة النبويّة، قال بسر بن سعيد: «اتّقوا الله وتحفّظوا في الحديث، فوالله، لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة؛ فيحدّث عن رسول الله ويحدّثنا عن كعب، ثمّ يقوم، فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله عن كعب، ويجعل حديث كعب عن رسول الله»([151]).

ولهذا قال الصحابي عمران بن حصين: «والله، إن كنت لأرى أنّي لو شئت لحدّثت عن رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) يومين متتابعين، ولكن بطّأني عن ذلك أنّ رجالاً من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) سمعوا كما سمعت وشهدوا كما شهدت، ويحدّثون أحاديث ما هي كما يقولون، وأخاف أن يشبّه لي كما شبّه لهم، فأعلمك أنّهم كانوا يغلطون، لا أنهم كانوا يتعمّدون»([152]).

هذا كلّه، مضافاً لما حلّ بمجتمع الصحابة بعد وفاة الرسول’، من فتن وخلافات وتناحرات وحروب ونزاعات، مع وجود المنافقين والأعداء؛ ممّا ألقى بظلاله على حديث رسول الله وسنّته، سيّما وأنّ الأحاديث تعتبر من الأسلحة المهمّة التي كان يستخدمها الصحابة ضدّ بعضهم بعضاً، وهذا ممّا لا ينكره أحد، وهو ما دعا الحافظ أبو يعلى إلى القول: «واعلم أن الدين العتيق: ما كان من وفاة رسول الله إلى قتل عثمان بن عفان، وكان قتله أولّ الفرقة وأوّل الاختلاف، فتحاربت الاُمّة وافترقت، واتّبعت الطمع والهوى والميل إلى الدنيا»([153]).

وهذا أيضاً ما قرَّره العلاَّمة سعد الدين التفتازاني، المُتكلّم الاُصولي الشهير، في كتابه شرح المقاصد([154])، قال: «إنّ ما وقع بين الصحابة من المحاربات والمشاجرات، على الوجه المسطور في كتب التواريخ، والمذكور على ألسنة الثقات، يدلّ بظاهره على أنّ بعضهم قد حاد عن طريق الحقّ، وبلغ حدّ الظلم والفسق، وكان الباعث له الحقد والعناد، والحسد واللداد، وطلب الملك والرئاسة»([155]).

ثمّ يقول: «ليس كلّ من لقي النبيّ بالخير موسوماً، إلاّ أنّ العلماء، لحسن ظنّهم بأصحاب رسول اللّه، ذكروا لها محامل، وتأويلات بها تليق، وذهبوا إلى أنّهم محدودون عمّا يوجب التضليل والتفسيق؛ صوناً لعقائد المسلمين عن الزلل والضلالة في حقّ كبار الصحابة، سيّما المهاجرين منهم والأنصار، والمبشّرين بالثواب في دار القرار»([156]).

6 ـ تدوين الحديث في زمن بني أميّة وما رافقه من آثار خطيرة

إنّ ظاهرة منع وحظر تدوين الحديث، لم تساهم في جعل السنّة النبويّة حبيسة الصدور، ورهناً لاجتهادات المجتهدين وفهم المحدّثين فحسب، بل خلقت في الذهنية العامّة للمسلمين شعوراً بعدم أرجحية الكتابة، وكراهية التدوين، فكانوا يتحرّجون من الكتابة، بعد أن كانت سنّة من كان قبلهم من الصحابة هي عدم الكتابة والتدوين، فقد حدث معمر عن الزهري، قال: «كنّا نكره كتاب العلم، حتى أكرهنا عليه هؤلاء الأمراء»([157]).

وقال الزهري: «استكتبني الملوك، فأكتبتهم، فاستحييت الله إذ كتبها الملوك ألاّ أكتبها لغيرهم»([158]).

وهكذا بقيت السنّة النبويّة، لم تخرج إلى حيز الوجود الكتبي، حتى ذهب القرن الأوّل من الصحابة وجلّ التابعين، وانقضت فترة ما يسمّى بالخلافة الراشدة، ثمّ جاءت الدولة الأموية بكلّ ما تحمله من سياسات خاصّة، لتتولى عملية التدوين، الذي ترعرع في كنفها، حيث أصدر الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، أول أمر رسمي بتدوين الحديث، فكتب إلى الآفاق يقول: «انظروا حديث رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) فاجمعوه»([159]). ومن الذين كاتبهم بهذا الأمر، أبو بكر بن حزم([160])، وابن شهاب الزهري([161])، وربّما تأخّر التدوين إلى ما بعد وفاة عمر بن عبد العزيز؛ لأنّه لا توجد شواهد تاريخية تثبت أن الأمر قد نفّذ في حياة عمر بن عبد العزيز([162]).

وعلى كلّ التقادير، فإنّ الدولة الأموية هي أوّل من تولّى أمر هذا التدوين، وفي أجوائها تشكّلت بنية الأحاديث، تلك الاحاديث التي قد أقصي عنها أهل البيت^، وفي طليعتهم الامام عليّ×.

وغير خافٍ أن سبب الإقصاء، هو أنّها ترى أحقيتهم في قيادة الاُمّة، لذا عملت بكل الوسائل على إبعادهم، وخصوصاً عليّ بن أبي طالب×، الذي تعرّض لحملة شعواء من قبل بني أميّة، وعلى رأسهم معاوية، فحوربت فضائله، وقُتّل أصحابه وشُرّع سبُّه على المنابر، حتى صار سنّةً متّبعة، هذا ما تناقلته كتب المسلمين؛ فقد أخرج مسلم في صحيحه، بسنده عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص، عن أبيه، قال: «أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً، فقال: ما منعك أن تسبّ أبا التراب...»([163]). وأخرج مسلم في صحيحه أيضاً، بسنده عن سهل بن سعد، أنّه قال: «استعمل على المدينة رجل من آل مروان ـ قال ـ فدعا سهل بن سعد، فأمره أن يشتم عليّاً ـ قال ـ فأبى سهل، فقال له: أمّا إذ أبيت، فقل: لعن الله أبا التراب...»([164]).

بل وصل الحد إلى أنّ يسبّ علي× من على سبعين ألف منبر، بأمرٍ من معاوية، كما نقل ذلك السيوطي، قال: «كان في أيّام بني أميّة، أكثر من سبعين ألف منبر يلعن عليها عليّ بن أبي طالب بما سنّه لهم معاوية»([165]).

هذا، ولم تكتف الدولة الأموية بالسبّ والشتم والإقصاء والتضييق على أهل البيت^، بل امتدّت يدها لتصفيتهم جسدياً وانتهاك حرماتهم، كما حصل في واقعة كربلاء، وهي الجريمة الغنية عن التعريف، فكيف يمكن والحال هذه، أن تسمح الدولة الأموية بأن تُكتَب الأحاديث النبوية التي لا تتماشى وسياستها، وهي لا تتورّع في ارتكاب أيِّ شيءٍ ضدّ من يهدّد كيانها ووجودها؟!

ولهذا فقد طمست كثير من الآثار النبويّة، وحرّفت الأحاديث التي تبيّن مكانة أهل البيت^ ومرجعيّتهم الشرعيّة، وأهليّتهم لقيادة هذه الاُمّة، وهذا واضح في كثير من الروايات التي تؤكّد هذا المعنى.

فقد روى الخطيب البغدادي، عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه، قال: «جاء علقمة بكتاب من مكّة أو اليمن، صحيفة فيها أحاديث في أهل البيت، بيت النبيّ صلى الله عليه، فاستأذنّا على عبد الله، فدخلنا عليه، قال: فدفعنا إليه الصحيفة، قال: فدعا الجارية، ثمّ دعا بطست فيها ماء، فقلنا له: يا أبا عبد الرحمن انظر فيها، فإنّ فيها أحاديث حساناً، قال: فجعل يميثها فيها([166])»([167]).

بل وصل الأمر إلى درجة أنّ ذكر اسم عليّ× والتفوّه به، يعدّ جريمة كبرى، فكان العلماء والمحدّثون، بل حتى بعض كبار التابعين، لا يجرؤون على ذكر اسمه×.

فقد أخرج المزيّ في تهذيب الكمال، بسنده عن يونس بن عبيد، قال: «سألت الحسن([168]) قلت: يا أبا سعيد، إنك تقول: قال رسول الله، وإنك لم تدركه؟ قال: يا بن أخي، لقد سألتني عن شيءٍ ما سألني عنه أحد قبلك، ولولا منزلتك مني ما أخبرتك، إني في زمان كما ترى ـ وكان في عمل الحجاج ـ كلّ شيء سمعتني أقول: قال رسول الله’، فهو عن علي بن أبي طالب×، غير أني في زمان لا أستطيع أن أذكر عليّاً»([169]).

وجاء في مناقب أبي حنيفة، للموفّق الخوارزمي، أنّه لمّا دعي أبو حنيفة ليسأل عن مسألة فقهية، من قبل أحد الأمويّين، قال أبو حنيفة: «فاسترجعت في نفسي وقلت: أول ما دعيت وسئلت وأنا أقول فيها بقول علي رضي الله عنه، وبه أدين الله تعالى، فكيف أصنع؟ ثمّ عزمت أن أصدِقَهُ وأفتيه بالذي أدين الله به، وذلك أن بني أميّة كانوا لا يفتون بقول عليّ ولا يأخذون به<، ثم قال المصنف: >وكان عليّ لا يُذكر في ذلك العصر باسمه، والعلامة عنه بين المشايخ: أن يقولوا: قال الشيخ كذا، وكان الحسن البصري يقول فيه: أخبرنا أبو زينب»([170]).

وقد كان الحسن البصري، رغم قربه من الدولة، وعظيم منزلته في المجتمع، إذا أراد أن يحدّث عن عليّ× يقول: قال أبو زينب، ويظهر الابتعاد عن عليّ×، حتى ظهر منه ما يوجب الإنكار عليه، فقال له أبان بن عياش: «ما هذا الذي يقال عنك أنك قلته في عليّ؟! فقال: يا بن أخي، أحقن دمي من هؤلاء الجبابرة ـ يعني بني أميّة ـ لولا ذلك لسالت بي أعشب»([171]).

وعن الشعبي شيخ المحدّثين في العراق، قال: «ما لقينا من آل أبي طالب؟! إن أحببناهم قتلونا، وإن أبغضناهم أدخلونا النار»([172]).

ولم يقف ذلك عند الخوف من ذكر اسم عليّ، بل امتنعوا عن أن يسمّوا أبناءهم باسمه، ويتعرّض للبلاء كلّ من سمّى ابنه عليّاً.

قال ابن حجر، في ترجمة عليّ بن رباح: «وقال الليث: قال عليّ بن رباح: لا أجعل في حلٍّ من سمّاني عليّ([173]) فإن اسمي عُلَي([174]). وقال المقري: كان بنو أميّة إذا سمعوا بمولود اسمه عليّ قتلوه»([175]).

نتائج وآثار تأخير تدوين الحديث إلى زمن بني أميّة

ولعل هذا السبب من أهم الأسباب التي جعلت طريق أهل السنة طريقاً موعراً لا يمكن الركون إليه والإطمئنان به؛ بسبب مجموعة من النتائج الخطيرة التي ترتبت عليه، منها:

أـ ترك علوم علي وأهل البيت

نتيجة لما تقدم، فقد حرم المسلمون من علوم علي وأهل البيت^، وتركوا وصيّة رسول الله بالتمسّك بهم وركوب سفينتهم، وتركوا حديث النبيّ بأنّه مدينة العلم وعليّ بابها، وهذا ما يقرّره لنا ابن تيمية، حيث يقول: «فليس في الأئمّة الأربعة، ولا غيرهم من أئمّة الفقهاء، من يرجع إليه [يعني عليّاً] في فقهه»([176])، فخلت حينئذٍ كتب أهل السنّة عن روايات أهل البيت، إلاّ النزر اليسير الذي لا يوازي ما قاله رسول الله في حقّهم وشدّد عليه، قال ابن تيمية: «فهذا موطأ مالك ليس فيه عنه [يعني عليّاً] ولا عن أحد أولاده إلاّ قليل جدّاً، وجمهور ما فيه عن غيرهم، فيه عن جعفر تسعة أحاديث... وكذلك الأحاديث التي من الصحاح والسنن والمساند منها قليل عن ولده، وجمهور ما فيها عن غيرهم»([177]).

ب ـ الاحتجاج بالنواصب وترك روايات الإمام الصادق

بينما نجد في المقابل أنّ علماء أهل السنّة ومحدّثيهم قد احتجّوا بروايات أعداء أهل البيت^ والنواصب، فهذا البخاري، وهو واضع أصحّ الكتب عندهم، لم يحتجّ بجعفر الصادق×، بينما نجده قد خرّج للنواصب وغيرهم، فقد قال الذهبي في ترجمة عليّ بن هشام: «ترك البخاري إخراج حديثه، فإنّه يتجنّب الرافضة كثيراً، كأنه يخاف من تديّنهم بالتقيّة، ولا نراه يتجنّب القدريّة ولا الخوارج ولا الجهميّة»([178]).

ومن الأمثلة على احتجاجه بالنواصب:

1ـ عكرمة القرشي المتوفّى سنة 105هـ.

روى له البخاري، وهو مولى ابن عباس، واشتهر بالكذب والبدعة وسوء الرأي؛ إذ كان يرى رأي الخوارج.

قال جرير بن عبد الحميد، عن يزيد بن أبي زياد، قال: «دخلت على عليّ ابن عبد الله بن عبّاس، وعكرمة مقيّد على باب الحشّ([179])، قال: قلت: ما لهذا كذا، قال: إنّه يكذب على أبي»([180]).