السائل: عليرضا سمائي
الجواب:
يذكر الله في القرآن الجعل و التشريع الإلهي لإمامة نبي إبراهيم، و ينسب هذا الجعل إلى نفسه. و بهذه الطريقة لا يرى القرآن في أي موضع منه أن الإمامة يتم تعیینها عن طریق الاختيار ، و هذا هو مكان التأمل و التفكير ان القرآن یبین جعل الإمامة لإبراهيم، کان بعد إجراء اختبار إلهي مهم، حسب ان القرآن یطرح القضايا العامة. لكن هذا يدل على مكانة الإمامة و أهميتها و يصرح بحالات و أمثلة من التشريع و الجعل و یقول:
وَ إِذِ ابْتَليَ إِبْرَاهِمَ رَبُّهُ بِكلَمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنيّ ِ جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَ مِن ذُرِّيَّتيِ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ . البقرة/124.
كانت الإمامة في المدرسة الشيعية من أهم المناصب الإلهية التي اختارها الله لابراهیم بعد وصوله إلى منصب النبوة. لذلك تعتبر الإمامة من أصول الدين و أركانه، و شرعيتها کان بجعل و تشريع الإلهي، حتى أن الله في هذه الآية الكريمة بصیغة اسم الفاعل يستندها الی نفسه، مثل ما جاء في القرآن من جعل و تنصيب لخلافة جميع البشر و النبوّات و یذكر أن مقام الخلافة و النبوة مرتبط بنظام التشريع و الجعل الإلهي.
یقول فی جعل و تشريع الالهي للنبوة هکذا:
وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ كُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا. مريم / 49.
الله تعالی یقول حول جعل و تشریع الخلافة الالهية لنوع البشر هکذا:
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَئكَةِ إِنيّ ِجَاعِلٌ فيِ الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَ تجَعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَ يَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَ نحَنُ نُسَبِّحُ بحِمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنيّ ِ أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ . البقرة/ 30 .
العدّ الثانی من جانب الملائكة عند قول الله تعالی: « إِنيّ ِجَاعِلٌ فيِ الْأَرْضِ خَلِيفَةً». هو ان خليفة الله لابد ان تکون له العصمة و عدم ای زلة و لهذا قالوا: « أتجَعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ» .
و ایضا یصرح عن اشخاص من بني اسرائيل نجحوا فی الامتحانات الالهية الصعبة، انه نصبهم للامامة :
وَ جَعَلْنَا مِنهْمْ أَئمَّةً يهَدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبرَواْ وَ كَانُواْ بِايَاتِنَا يُوقِنُون . السجدة / 24 .
لهذا حسب رأی القرآن الخلافة، النبوة و الامامة لا تختلف من حیث انها تتبع نظام الهی فی الجعل و التشريع الا ان الامامة أعلي مقام و منصب الهي لها شئون و مراتب کالقیادة السياسية و المرجعية الدينية و الولائية و هذه الشئون لم تکن لجمیع الانبیاء الا لبعضهم؛ لهذا الانبیاء الذین لهم مقام الامامة ایضا کان بتشريع و جعل علی حده من الله تعالی لهذا المقام. کنبی ابراهيم الذی مع حفظ مقام النبوة و بعد الامتحان و الابتلاء الصعب بتشريع الهي حاز علی مقام الامامة و قال:
إِذِ ابْتَلي إِبْراهيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمين . البقرة / 124 .
البتة سواء كان تنصيب الإمام و جعله في يد الله أو اختيار الناس، فإن ذلك يتطلب مناقشة مفصلة ينبغي التعرض لها في فرص أخرى.
الحال، السؤال الذی طرح نفسه لبعض اهل السنة هو انه: من أی موضع من الآیة یستفاد ان المجعول هی الامامة؟ المجعول فی هذه الآية لیس النبوة؛ بل المجعول هی الامامة.
للإجابة على هذا السؤال و تحليله، لا بد من النظر بعناية خاصة في النقاط الرئيسية التي أثيرت في هذه الآية، و ذكر آراء و مبادئ الفریقین هنا حتى يتبين أن المجعول في هذه الآية هي الإمامة او الرسالة.
العهد الالهي :
ما معنى "العهد" في الآية المبحوث عنها؟
هناك تفاسير و تعابیر مختلفة بين المفسرين من اهل السنة. لكنهم في نفس الوقت لم يصلوا إلى نتيجة نهائية بشأن هذه المسألة. على سبيل المثال، يقول الماوردي الشافعي في موقف التعبير عن الآراء القائمة في هذا الصدد هکذا:
و في هذا العهد ، سبعة تأويلات : أحدها : أنه النبوة ، و هو قول السدي . و الثاني : أنه الإمامة ، و هو قول مجاهد . و الثالث : أنه الإيمان ، و هو قول قتادة . والرابع : أنه الرحمة ، وهو قول عطاء . والخامس : أنه دين الله وهو قول الضحاك . والسادس : أنه الجزاء والثواب . والسابع : أنه لا عهد عليك لظالم أنه تطيعه في ظلمة ، وهو قول ابن عباس .
الماوردي البصري ، أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب (المتوفی450هـ) ، النكت والعيون ، ج 1 ، ص 64 ، تحقيق : السيد ابن عبد المقصود بن عبد الرحيم ، ناشر : دار الكتب العلمية - بيروت ـ لبنان .
و الزحيلي، وهبة ، تفسير المنير ، ، ج 1 ، ص 33 ، ناشر : دار الفكر ، ط . 8، 1426 ق .
فخر الرازي یقول فی ما هو المقصود من العهد الالهي هکذا:
و المراد بهذا العهد إما عهد النبوة أو عهد الإمامة ، فإن كان المراد عهد النبوة وجب أن لا تثبت النبوة للظالمين ، و إن كان المراد عهد الإمامة وجب أن لا نثبت الإمامة للظالمين وإذا لم تثبت الإمامة للظالمين وجب أن لا تثبت النبوة للظالمين ، لأن كل نبي لا بد وأن يكون إماماً يؤتم به ويقتدي به . والآية علي جميع التقديرات تدل علي أن النبي لا يكون مذنباً .
فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي (المتوفی604هـ) ، التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب ، ج 3 ، ص 279 ، ناشر : دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1421هـ ، 2000م ، الطبعة الأولي .
نقد و دراسة:
تفسير اهل السنة من «العهد الهي» يمكن دراسته و نقده بعدة طرق:
الف: لم يقدموا أي أسباب و وثائق معقولة لتفسيرهم لـ "العهد الإلهي". علاوة على ذلك، فإن هذا الأمر ليس له علاقة بما أراده إبراهيم لنسله و ما فسره الله في عهده.
فمثلاً ما علاقة الإمامة بالثواب، و ما علاقة الإمامة بعقيدة ذرية إبراهيم؟
ب: التفسير الآخر عند اهل السنة للعهد هو النبوة. إذا قبلنا هذا التفسير، فسنواجه بعض الأسئلة الأساسية التي يجب على اهل السنة الإجابة عليها:
1. عرف إبراهيم نفسه أن النبوة لم تصل إلى الظالمين. لماذا قال الله الحكيم في إجابة إبراهيم ما لا لبس فيه؟ بينما يعلم الله أن هذا لا يخفى على إبراهيم.
2 . إذا كان معنى "العهد" في هذه الآية هو النبوة، فمن الطبيعي المجعول المقصود في آية "إني جاعلك" هو النبوة، و السؤال الآن هو ما هي الحكمة و الفلسفة في إعادة جعل النبوة لإبراهيم؟
عدم التوافق مع قواعد اللغة العربية:
وفقًا للقواعد العربية، فإن اسم الفاعل لا يعمل أبدًا بمعنى الماضي؛ إنه يعمل بمعنى الحال أو المستقبل.
رشيد الشرتوني یقول فی شرائط عمل اسم الفاعل هکذا:
اما اذا كان متعدّياً و هو بمعني الحال او الاستقبال، فانّه ينصب مفعوله، نحو : «ان المجتهد محبُّ كتابة .
رشيد الشرتوني، مبادي العربيّة ، مؤسسه انتشارات دار العلم، قم ، ط. 11/1428 هـ .
الحال ان لفظة «اماماً» هی مفعول ثانی لعاملها فی آية «اني جاعلك...»؛ لهذا لفظة «جاعل» فی هذه الآية بمعني الحال.
اطلع ابراهیم علی هذه المعلومة عن طريق الوحي:
نقطة أخرى هي أن عبارة "إني جاعلك ..." تعد إبراهيم بأن يتم اختياره كإمام. و قد أُبلغ إبراهيم بهذا الوعد من خلال الوحي. فقبل أن يصل موعود الإمامة إلى إبراهيم، كان له لقب نبي یوحی اليه.
العلامة الطباطبائي رضوان الله تعالي عليه یقول هنا هکذا:
قوله تعالي: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً، أي مقتدي يقتدي بك الناس، و يتبعونك في أقوالك و أفعالك، فالإمام هو الذي يقتدي و يأتم به الناس، و لذلك ذكر عدة من المفسرين أن المراد به النبوة، لأن النبي يقتدي به أمته في دينهم، قال تعالي: «وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ، إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ»: النساء- 63، لكنه في غاية السقوط.
أما أولا: فلأن قوله: إِماماً، مفعول ثان لعامله الذي هو قوله:
جاعِلُكَ و اسم الفاعل لا يعمل إذا كان بمعني الماضي، و إنما يعمل إذا كان بمعني الحال أو الاستقبال فقوله، إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً، وعد له ع بالإمامة في ما سيأتي، مع أنه وحي لا يكون إلا مع نبوة، فقد كان (ع) نبيا قبل تقلده الإمامة، فليست الإمامة في الآية بمعني النبوة (ذكره بعض المفسرين.)
و أما ثانيا: فلأنا بينا في صدر الكلام: أن قصة الإمامة، إنما كانت في أواخر عهد إبراهيم ع بعد مجي ء البشارة له بإسحق و إسماعيل، و إنما جاءت الملائكة بالبشارة في مسيرهم إلي قوم لوط و إهلاكهم، و قد كان إبراهيم حينئذ نبيا مرسلا، فقد كان نبيا قبل أن يكون إماما فإمامته غير نبوته.
الميزان في تفسير القرآن، ج 1، ص 271.
لهذا التفسير الذی کان فی معنی لفظة جعل فی الآیة«اني جاعلك للناس اماماً» بالنبوة، لم یکن معقولا لعدة ادلة:
1 . كلمة "إماما" هي المفعول الثاني لعاملها و عاملها كلمة (جاعلک) و اسم الفاعل اذا کان بمعنی الماضی لا يعمل أبدًا و لا يأخذ المفعول عندما يتصرف فیعنى معنی الحال أو المستقبل.
و وفقًا لهذه القاعدة، فإن عبارة"انی جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماماً" هي وعد لإبراهيم (عليه السلام) يقوده إلى منصب الإمامة في المستقبل، و قد أُبلغ إبراهيم (عليه السلام) بهذه الجملة و الوعد من خلال الوحي. فتبين أنه قبل أن يصل إليه هذا الوعد كان نبيا هو حتی نزل عليه الوحی. لذلك، فإن الإمامة التي ستعطى له فيما بعد هي بالتأكيد ليست النبوة التی كانت لديه في ذلك الوقت (و قد قال هذا الجواب أيضًا بعض المفسرين الآخرين).
2 . كان مسار إمامة إبراهيم في نهاية حياته و بعد البشارة بإسحاق و إسماعيل. نزلت الملائکة بهذه البشارة عندما جاءوا لهلاک قوم لوط فبین الطریق مرّوا علی نبی ابراهیم و هو فی الحال نبی مرسل فلهذا اتضح أنه كان لديه النبوة قبل الإمامة.
النتيجة :
و بناء علی ما ذکرنا المجعول في هذه الآية هی الإمامة و ليس النبوة. و كان نبي إبراهيم عليه السلام نبيًا في ذلك الوقت. لأنه إذا كان معنى الجعل في آية " اني جاعلك للناس اماماً " النبوة ، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو انه ما هي فلسفة جعل النبوة لمرة اخری لإبراهيم؟
هل يعلن وجوب طاعة إبراهيم عليه السلام من جديد؟ و لئن ثبتت هذه الطاعة بجعل نبوة إبراهيم في المرحلة الأولى، فعند جعل النبوة لإبراهيم، لا بد من طاعته بالكامل، و قد ثبت ذلك بجعل النبوة له. الحال جعل النبوة له مرة اخری ان کان الغرض منه إعلان وجوب الطاعة، فهذا الجعل لا يکون فیه من حكمة و فلسفة، و هو لایلائم حکمة الباری تعالى. لذلك فإن المفسرين من اهل السنة هنا يواجهون سؤالا جديا فیما يجب أن يقوله الله لإبراهيم: لابد من إطاعة الناس لک بعد أن وجب عليهم إطاعتک قبل سنوات؟؟ فحكمة جعل النبوة لمرة اخری لا مبرر لها، و لم يجيبوا علماء اهل السنة على هذا السؤال الی الآن.
و من الله التوفیق
فریق الاجابة عن الشبهات
مؤسسة الإمام ولي العصر(عج)للدراسات العلمیة