يحتضن أوائل هذا القرن الجديد، صورتين اثنتين: أولاهما صورة ذيول التخلف الاجتماعي والديني وأطراف نهايته مشوبة بمشكلات يخشى أن تقضي عليها. والثانية صورة بداية الصحوة الإسلامية المبشرة بصحوة إسلامية راشدة.
ولا شك أن بروز هاتين الصورتين، وتلاقيهما معاً بهذا الشكل، يضفي على واجب الدعوة إلى الله، وتعريف الناس بالإسلام أهمية جديدة؛ ويؤكد مضاعفة مسؤولية القيام بأعبائها.
لقد كان القيام بهذه المهمة فيما مضى واحداً من الفروض الكفائية في أكثر الظروف والأحقاب، أما اليوم _ وقد تلاقت هاتان الصورتان _ فلعلنا لا نبتعد عن الحق، إن قلنا: إن القيام بهذا الأمر غدا اليوم من الفرائض العينية التي يتوجه الخطاب التكليفي بها إلى كل مسلم، وعى الحقائق الإيمانية والواجبات السلوكية للإسلام على نحو سليم.
ذلك لأن العهد الذي يقبل فيه الناس إلى الإسلام تمسكاً به أو تفهماً له، أحوج إلى المرشدين والدعاة من العهد الذي يدير فيه معظم الناس عن الإسلام، وقد تكاثر اليوم عدد المقبلين إلى الإسلام داخل ربوعه، كما تضاعف عدد الراغبين في فهمه خارج بلاده. وإن بهؤلاء وأولئك حاجة ماسة إلى من يعرض حقائق هذا الدين لهم بأسلوب علمي مبسط، ويزيح عن طريقهم إليه الغشاوات المصطنعة والشبهات المختلفة. فإن لم يسرع من المسلمين الصادقين من ينهض بمسؤولية هذا الشرح والبيان على أتم وجه، أوشك أن يسبق إليهم من الأعداء التقليدين وجنودهم من يجهض لديهم تلك
الرغبة، بابتداع صور مشوهة كاذبة عن الإسلام يضعونها نصب أعينهم، ثم يتسللون بها إلى مكمن الوعي من نفوسهم، وهذا ما يجري اليوم.
ولكن فما هو المنهج الأمثل لقيام المسلمين اليوم بمهام هذه الدعوة؟
من الواضح أن هذا المنهج لن يكون إلا المنهج الذي سار عليه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم واقتدى به في ذلك صحبه البررة الكرام، ومن بعدهم من السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين، ولسوف نكتفي برسم الخطوط العريضة لهذا المنهج النبوي في الدعوة إلى الإسلام وتعريف الناس به، موضحين من خلال ذلك مدى ابتعادنا عن هذه الخطوط العريضة، بل مدى تناقضنا معها.
أول هذه الخطوط، ما قد بصرتنا به سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أن الإسلام يتمثل في جذع راسخ واحد، هو العقيدة، وأغصان كثيرة متفرعة عنه، هي الحواشي الاجتهادية لجذع العقيدة، والأحكام السلوكية الكثيرة الخاضعة للنظر والاجتهاد.
وإنما انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، في دعوته الناس إلى الإسلام، من الجذع الاعتقادي الراسخ، ثم انتهى بهم إلى بيان فروعه الاجتهادية الكثيرة، وما حياته في مكة وأسلوب دعوته فيها إلا ترسيخ لهذا الجذع الاعتقادي الواحد في الألباب والعقول، بل إن شطراً كبيراً من جهوده في المدينة المنورة كان مواصلة مستمرة لهذا الترسيخ.
وبهذا ضمن المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يكون إذعان الناس لهذا الدين، ضمانة لجمع الشمل وتوحيد الأمة، وأن تغدوا اختلافاتهم الاجتهادية بعد ذلك في الفروع والهوامش اختلافات تعاونية يحيط بها جذع العقيدة الواحد الموحد.
ألا ترى إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كم اختلفوا في الاجتهادات الفقهية، ولكن هل زجتهم تلك الاختلافات كلها في شيء من التفرق أو الخصام؟ لقد حال بينهم وبين ذلك حصن العقيدة الذي سبق أن تحصنوا به، وعلمهم بأن الاختلاف في الفروع الاجتهادية لون من أسمى ألوان العبادة، يفوز الجميع من ورائه بأجر من الله ورضوان، مضاعفاً جاء الأجر أو غير مضاعف. فكيف يتصارعون و يتخاصمون وهو يتحركون جميعاً في الساحة التي رسمها لهم الله ويسيرون على الصراط الذي ارتضاه لهم؟
ألا ترون إلى أولئك الذين اجتهدوا فاختلفوا في معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا، لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة). فصلاها بعضهم في الطريق ولم يبالوا أن يتأخروا في سبيل ذلك عن الموعد المحدد لوصولهم إلى بني قريظة، وأخرها بعضهم ليصلوا في الميقات المحدد، غير مبالين بتأخيرهم الصلاة عن آخر وقتها.. ولما وصلوا إلى رسول الله وأخبروه، باختلافهم الاجتهادي هذا أقرّ الفريقين وشكر لكل منهما اجتهاده الذي قام به وجهده العلمي الذي بذله.. ولم يتهارج المختلفون، ولم يسفه بعضهم رأي بعض، ولم تتراجع وحدتهم وحرارة توادّهم وتآلفهم شروى نقير...
ولقد كان من المفروض أن نتبع سيرتهم ونقتفي أثرهم، فنجمع شتات الناس والأفكار في حضن هذا الجذع الاعتقادي الواحد والموحد، ونجعل منه ضمانة لسير الخلافات الاجتهادية على أفضل سنن مشروع.
ولكن هذا المفروض لم يتحقق ويل للأسف، بل الذي يجري الآن على صعيد الدعوة الإسلامية في كثير من مجتمعاتنا الإسلامية _ وقد نستثني من ذلك أفراداً _ عكس هذا المفروض...! فنحن ننطلق من الأغصان وتفرعاتها، ثم نظلّ نراوح فيما بينها، ابتغاء أن نجعل منها بديلاً عن الجذع الأساسي الراسخ، أجل، فنحن ننطلق من الأغصان الاجتهادية ثم لا نتجاوزها إلى الجذع الجامع...!
ومن خلال هذا المنهج المعكوس لهدي النبوة، تفرز الدعوة الإسلامية مزيداً من عوامل التصدع والشقاق.. ويتحول الإسلام الواحد الذي جمع شتات الناس بالأمس، إلى إسلامات متشاكسة تزج الأمة الإسلامية الواحدة في يمّ جديد من الفرقة والشتات.
ومن خلال هذا المنهج المعكوس أيضاً تشتدّ عصبية أصحاب كل رؤية اجتهادية وفكر مذهبي للرأي الذي انتهت إليه، نظراً إلى أن القيادة قد آلت إلى الأنانية النفسية وحظوظها، بعد أن كانت القيادة في عصر النبوة لسلطان العبودية لله، المنبثق من التفاف الجميع حول ذلك الجذع الإيماني الواحد، وتمسكهم به كما قد أمرهم به الله عز وجل.
ودونكم فانظروا إلى أنشطة الدعوة الإسلامية اليوم في مختلف الربوع والأقطار، هل تجدونها تعِجّ إلا بالتهارج والتنافر والتمزق؟ وهل تجدون للتسابق إلى ذلك كله إلا أسلحة الخلافات المذهبية؟ وهل تجدون ضحايا هذا الخصام والتهارج إلا الوصية النبوية القائلة: (..وكونوا عباد الله إخواناً).
أما ثاني هذه الخطوط العريضة، فيتمثل في أن الإسلام الذي أٌبتعت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما هو استسلام الكيان لحقائق العبودية لله عز وجل، من خلال الاستسلام المطلق لألوهية الله عز وجل، إلهاً واحداً لا شريك له.
فإلى هذا الإسلام كان يدعو النبي عليه الصلاة والسلام، وبهذا الإسلام تحلى صحابته البررة الكرام، وإليه دعوا الناس مشرقين ومغربين، ألا ترى أنهم كانوا يتداعون إلى المجالس التي يٌبتغى منها تزكية النفس وزيادة العلم وتجديد الإيمان، وأن أحدهم كان يقول لصاحبه إذا رآه: تعال بنا نؤمن ساعة، وأنهم كانوا يتقبلون في هم المعاد وخوف الحساب، مما صغر الدنيا إلى نفوسهم وحقر لذائذها في عيونهم.
وما أعلم أن واحداً منهم كان يتقلب في هم الحكومة الإسلامية، متى تقام، أو في هم "المجتمع الإسلامي" كيف يؤسس، ذلك لأنهم لم يكونوا ليمزجوا التفكير في العهد الذي قطع اله سبه لهم على نفسه، مع التفكير فيما قد طلبه الله منهم وكلفهم به.
أما الإسلام الذي يتصوره كثير من المسلمين، بل من دعاته اليوم، فهو منهج فوقي يتمثل في نظام ينافس الأنظمة الأخرى، أو في جملة قوانين وتشريعات تجابه بها بقية الشرائع والقوانين، بل ربما كان الإسلام في تصور بعض الناس اليوم يميناً في مواجهة يسار، أو يساراً في مواجهة يمين، والحلم الذي ينام ويستيقظ عليه أكثر الدعاة الإسلاميون اليوم، هو حلم المجتمع الإسلامي متى يتحقق، أو الحكومة الإسلامية متى تقوم وتهيمن..؟! أما ما كان يعكف عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاهتمام بتزكية النفس وإصلاح الحال، وتنمية مشاعر العبودية لله بغذاء التبتل ومراقبة الله والإكثار من ذكره، فهو جانب منسي في حياة أكثر هؤلاء الإسلاميين اليوم.
ومن المعلوم أن الأنظمة الوضعية المختلفة، التي يتطاحن أهلها سباقاً على كراسي الحكم والإمساك بأزمته، والتي انتشرت عدواها في صفوف كثير من الإسلاميين وأفكارهم، ليس لها إلا وجود خارجي يبدأ وينتهي في ساحة المشاهدات و المحسوسات، وما أيسر أن يكون هذا الوجود قناعاً يستر خلفه ألواناً من الدجل والنفاق...!
أما الإسلام فوجوده شعاع يمتدّ في كينونة الإنسان كله، بدءاً من باطن القلب إلى ظاهر الجوارح، ومن ثم فإن شأنه أن يحرر الإنسان من أنانيته وآفات نفسه، ثم يخضعه لأحكام ربه.
وإذا تشبع الداعي إلى الله تعالى بهذه الحقيقة، ثم اتجه إلى الناس يذكرهم بها، ويوقظ فيهم مشاعر عبوديتهم لله عز وجل، مستعيناً بلواعج الصدق والإخلاص له في قصيدة أشرق من كلامه قبس وهاج في طوايا قلوبهم، "إن هم أصغوا إلى الحق بموضوعية وتجرد"، واستطاع أن يمضي بهم من أقرب طريق إلى الخضوع لسائر الأحكام والشرائع الإسلامية التي ليست في حقيقتها إلا ثمرة لذلك المعنى الكلي العظيم.
ولكن إذا حصر المسلم نفسه من الإسلام، في نظامه وتشريعاته الفوقية، ثم راح ينبه الناس من الإسلام كله إلى هذه البنى الفوقية، فإن دعوته لن تثمر شيئاً، مهما أجهد نفسه في إقناعهم بمزايا هذا التشريع وآثاره، وحتى لو تمت الاستجابة لدعوته هذه فإنها لا تعد انقياداً دينياً لسلطان الله وحكمه، وإنما هو مجرد اختيار للمعنى التشريعي الذي فيه، على ضوء ما قد يلاحظ فيه من المرجحات المصلحية في نطاق الأهداف الدنيوية المجردة، كالوصول إلى كراسي الحكم ونحوها.
ثم إن من شأن الذي يدعو إلى الإسلام بوصفه مجرد فكرة أو نظام يٌختار من بين مختلف الأنظمة، أن يفقد من بين جوانحه مشاعر الشفقة على أولئك الذين يدعوهم، ودوافع الغيرة على سعادتهم الآجلة والعاجلة.
وهو المعنى الإنساني الذي اتصف به الأنبياء والربانيون وفي مقدمتهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فكان سرَّ نجاحهم وإقبال اناس إليهم والتأثر بكلامهم.
ألا ترون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم اخترط سيفه أعرابي مشرك، وكان نائماً على مقربة من أصحابه تحت ظل شجرة، لدى عودتهم من إحدى الغزوات، ولما كاد أن يهوي بالسيف عليه، أيقظه قائلاً: من ينجيك مني يا محمد؟ فقال له: (الله ينجيني منك). فسرت رعدة في يد الأعرابي وسقط السيف من يده، وامتلك الرعب مجامع نفسه، وعلم أنه مقتول بيد رسول الله. ولكنه صلى الله عليه وسلم لاطفه وطمأنه، وأيقظ من حوله من الصحابة، وقال لهم: (إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم..) وحدثهم بما جرى، ثم قال لهم: (ها هو ذا جالس أمامكم) فكان أن أسلم الأعرابي، وعاد إلى قبيلته يقول لهم: جئتكم من عند خير الناس.
ولكن ترى لماذا يفقد هذا الصنف من الدعاة اليوم تلك المشاعر الربانية السفوقة؟ لأن الذي يهيج في طريق الدعوة إلى الإسلام، بعيداً عن الاصطباغ بلبابه، معرضاً عن المثول في محراب التبتل والعبودية لله عز وجل، مندفعاً بالأسباب ذاتها التي تدفع صاحب أي مذهب حزبي إلى الدفاع عن حزبه والدعوة إليه، لا بدّ أن ينسى الله تعالى
في غمار دعوته تلك. ولا بد أن ينجرف في تيار الأنانية، ورغبة الانتصار للذات، شأن سائر الداعين إلى مختلف المذاهب والأنظمة الوضعية، وهيهات أن يتأثر حينئذ بدعوته أحد اللهم إلا أن يكون تأثراً مصلحياً موقوتاً.
ونصل بعد هذا إلى الخط الثالث من الخطوط العريضة للنهج النبوي في الدعوة إلى الله، وهو أن تتلاقي متناسقة، على طريق هذه الدعوة، جهود العلماء والأفراد مع الطاقات التنفيذية التي يملكها القادة والحكام، وكلنا يعلم أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم شخصيتين اثنتين: إحداهما شخصية النبي المرسل، وانطلاقاً منها كان يبلغ الناس دين الله عز وجل، وأحكام الحلال والحرام، والثانية: شخصية الإمام والحاكم في قومه وأمته. وعلى أساسها كان يأمر الناس ويوجههم ويسوس أمورهم، ولا شك أن جهوده في أعمال الدعوة إلى الله كانت تنهض على كلا هاتين الدعامتين، وكل من هاتين الشخصيتين.
والحق الذي لا ترى مجالاً للريب فيه، أنه لا قيمة لما قد تنفرد به فئات أو أفراد من المسلمين في نطاق العمل الإسلامي، إذا لم يكن للدولة الحاكمة دور أساسي فعال في ذلك، ولئن ظهر بعض الفوائد والآثار، فهي لا تعدو أن تكون آثاراً جزئية، ويغلب أن تكون مع ذلك سطحية وموقوتة، ذلك لأن نجاح الدعوة الإسلامية بين صفوف المسلمين، يتطلب مع وسائل الإرشاد والبيان، قوة التنفيذ والحماية وتهيئة المناخ المناسب.
رب إنسان أيقن منه الفكر واللب بحقائق الإسلام وأحكامه، ولكنه مشدود بحبال نفسية إلى الانحراف، بسبب المناخ الذي يحيط به. فمن ذا الذي يملك أن يطهر هذا الجوّ الذي يفيض بالملهيات والمغريات والمهيجات، غير السلطة القيادية التي إليها تصريف الشؤون وإدارة أحوال البلاد.
وما أظن إلاّ أن هذه المسؤولية، هي التي يجسدها ويعبّر عنها الأثر القائل : "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".
وربما اعتذر كثير من الحكام بأن مسؤوليات السياسة وأعباءها الجديدة، لا تترك فرصة لهم لمثل هذا التعاون والتنسيق..! والحقيقة أن هذه المعذرة تخضع لنقاش كبير، ولعلّ الخوض فيه يقصينا عما نحن بصدده. وحسبنا أن نقرر حقيقة ثابتة، هي أن السياسة غدت في هذا العصر، هي المحور الثابت، في حين تحولت الأهداف والغايات الأساسية إلى وسائط تدور في فلكها وتقوم على خدمتها. ولقد نظرنا، فإذا الدين ذاته تحول _ في كثير من الأحيان فأصبح واحداً من هذه الوسائل الخادمة _ فما أكثر من يستنطقون الدين بما تهواه السياسة، وما أكثر ما تسخّر الفتاوى لتسويغ مواقفها عندما تعوزها البراهين والمؤيدات. ومن ثم لم يعد عجيباً أن نرى للدين الحق الذي نخضع جميعاً لسلطانه أحكاماً متناقضة ومواقف متعارضة.
إننا نفخر دائماً بما امتّد للإسلام من سلطان، فيما مضى، على معظم العالم المعمور، وبما قدّمه للمجتمع الإنساني من مكاسب، لم يتحقق نظيرها على يد أي فلسفة أو حضارة أو نظام.. ولكنا قلما نتأمل لنتبين أن أهم السبل إلى تحقيق ذلك كان تعاون القادة المسلمين للدعوة الإسلامية وأجهزتها، لكي تسير في مأمنها وأن تبلغ غايتها.
غير أن هذا الذي أقرره بيقين، لا يعني بالضرورة، أن قادة المسلمين اليوم غير معذورين
في استسلامهم لهذا الواقع المؤسف.. بل أقول إن لكثير منهم أعذاراً لا يتسع هذا المقام لشرحها غير أني أستطيع أن أرسم الخطوط العريضة لأسباب هذا العذر:
إن من شأن معظم الجماعات التي تشتغل بالدعوة الإسلامية اليوم، تصنيف القادة والحكام سلفاً في قائمة خصوم الدين وأعدائه. ومهما كانت أدلة هذا الاتهام خفية، فحسبهم على كلٍ أنهم يتبوّؤن كراسي السلطة والحكم..! ومن ثم فإن هؤلاء الدعاة يتخذون أمامهم خنادق المواجهة، بدلاً من أن ينطلقوا من حسن الظن بهم فيناصحوهم ويكسبوهم قوة إلى جانب الإسلام وأهله.
ومن الواضح أن مثل هذا الموقف إن لم يعكر في نفوس القادة صفاء انتمائهم الإسلامي، فلا أقل من أن يحملهم على الانفصام إلى ركب المقاومين لأنشطة تلك الجماعات، مهما بدت أنها تخدم الإسلام أو تسعى لحمايته.
وإن من شأن أكثر هذه الجماعات التربص بكراسي حكامهم، والتخطيط لاحتلال أماكنهم، ومن الواضح أن هذا الموقف يبدد ثقة الحكام بهم، ويظهرهم أمام أبصارهم تجار حكم يتسلقون إليه على سلّم الإسلام، فلئن لم يقاوموا الإسلام في أشخاصهم، فلا أقل من أن يقاوموا أنشطتهم الهادفة إلى خير الإسلام.
إن صلاح هذا الواقع المرير رهن بأن يعقد الإسلاميون صلحاً حقيقياً بينهم وبين أولي السلطة والحكم، وأن يجنحوا إلى حسن الظن بهم بدلاً من العكس، وليذكروا وصية رسول الله التي يقول في آخرها: (..إلا أن تروا كفراً بواحاً لكم عليه من الله سلطان).
ثم عليهم أن يزهدوا زهداً حقيقياً بكراسي الحكام، وأن يطمعوا بدلاً عن ذلك بعقولهم فإن صلاح المجتمع يمرّ من تربية القاعدة الشعبية، وصبغها باليقين والأخلاق الإسلاميين، ولا يمرّ من الحكم وسلطانه إلى إصلاح القاعدة الشعبية وصبغها بالإسلام.
ثم عليهم أن يضفروا جهودهم كلها، وأن يوحدوا جماعاتهم على اختلافها، ثم يتوجهوا بالناس كلهم إلى جذع الحقيقة الإسلامية الواحدة فيغرسوا العقول، ثم القلوب بغراس التوحيد، وصدق العبودية لله عز وجل. فإن هم صبروا على ذلك وصابروا وأخلصوا سعيهم لله عز وجل، مندفعين بسائق الحب لله والشفقة على عباده، بعيداً عن الضغائن والأحقاد، تجسد وتحقق أمامهم الوعد الرباني: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)، وتطورات الصحوة الإسلامية إلى نهضة إسلامية تعيد للمسلمين غابر مجدهم، وتضع قادة الدنيا مرة أخرى في أيديهم، فإن كنتم في ريب مما أقول فاقرؤوا معي قول الله عز وجل (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً).
أو اقرؤوا قوله عز وجل : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيد).
والسؤال الوحيد الذي لا بدّ أن يقفز إلى كل ذهن هو: هل سيخلص العاملون في حقل العمل الإسلامي سعيهم لله عز وجل، فيتجهون إلى جمع شملهم، وتوحيد صفوفهم، والانضباط بالنهج الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته وخدمته لدين الله عز وجل، مما أوجزنا الحديث عنه في هذا المقام؟
الله هو المستعان في الأمر كله، ولعل قادمات الأيام تحمل للمسلمين بشائر غير متوقعة اللهم إنا نسألك لأنفسنا وقومنا وأمتنا الهداية والتوفيق.