ما حكم الصلاة في المقبرة؟ وما حكم الصلاة في المسجد الذي فيه قبر؟
قبل أن نبين حكم الصلاة في المقبرة وفي مسجد فيه قبر ينبغي أن نُفَرِّق بين الصلاة في المسجد الذي فيه قبر، وبين الصلاة في المقبرة، وبين الصلاة إلى القبر:
1- فالصلاة في المقبرة: هي أن يقف المصلي بين القبور ويصلي فيها أو يجد وسطها مكاناً كغرفة ونحوها فيصلي فيها.
ولا يشمل هذا إذا كانت المقبرة واسعة وفيها بقعة خالية من القبور لم يصل الدفن إليها، وكذا استثنى ابن قدامة إذا كان في الموضع قبر أو قبران لعدم إطلاق اسم المقبرة عليه.
2- والصلاة في مسجـد فيه قبر: هو أن يتخذ مسجد من المسـاجد وإلى جنبه قبر أو في ساحته أو جزء من أجزائه قبر، وهذا لا يسمى مقبرة، والنهي ورد في المقبرة فقط.
3- والصلاة إلى القبر: هو أن يجعل القبر أمامه فيتعمد السجود إليه أو يسجد إليه دون تعمد، لذا سأبحث كل صورة على انفراد:
أولاً – الصلاة في المقبرة: اختلف العلماء في حكمها إلى ما يأتي:
1- التحريم: سواء كانت المقبرة منبوشة أم غير منبوشة ولو فرش شيئاً عليها يصلي عليه، وسواء مقابر المسلمين أم الكافرين.
وهو مذهب الإمامِ أحمد، ومن الصحابة: عمرَ، وعليٍّ، وأبي هريرةَ، وأنسٍ، وابنِ عباسٍ، ومن التابعين: إبراهيمَ النخعيِّ، ونافعِ بنِ جبيرٍ بنِ مطعمٍ، وطاوسٍ، وعمروِ بن دينارٍ، وخيثمة وغيرهم، وبه قال المنصور بالله والهادوية، وعلى هذا: فالصلاة فيها باطلة؛ لأن النهي يقتضي الفساد.
واستدلوا على ذلك: بما رواه الخمسة إلا النسائي عن أبي سعيد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: {الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام} (1).
وبما رواه الجماعة إلا ابن ماجه عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : {اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبوراً} (2) أي تُشبه القبور في عدم الصلاة فيها، ويفهم منه أن القبور لا يُصلَّى فيها.
2- التحريم إن كانت منبوشة: وهو مذهب الإمام الشافعي، والبخاري، وأبي العباس، والإمام يحيى، وأبي طالب، وذلك إن صلَّى عليها بدون حائل وتكره مع الحائل.
وعللوا ذلك: بأن المنبوشة اختلط بترابها لحم وصديد الموتى، ولم تجز الصلاة فيها للنجاسة، فإن صلى في مكان طاهر ليس فيه قبور منبوشة أجزأته صلاته فيها مع الكراهة.
3- الكراهة: سواء كانت منبوشة أم غير منبوشة.
وهو مذهب أبي حنيفة، والثوري، والأوزاعي، ورواية عن أحمد، وبه قال الرافعي من الشافعية؛ لأنهم حملوا النهي في الأدلة التي اعتمدها أصحاب الرأي الأول على الكراهة.
وأيضاً استدل أصحـاب هذا الرأي بعمـوم قوله -صلى الله عليه وسلم- : {أينما ادركتك الصلاة فصل فإنه مسجد} (3).
4- الإباحة: وهو مذهب مالك وابن عمر -رضي الله عنهم-، واستُدِلَّ عليه؛ بأنه -صلى الله عليه وسلم- صلى على قبر المسكينة السوداء في المقبرة، وهذا الرأي معارض بأدلة النهي السابقة.
ثانياً: الصلاة في مسجد فيه قبر أو بجانبه قبر:
لم يرد أي دليل في تحريم الصلاة في المسجد الذي فيه قبر، وسواء بُنِيَ المسجد بعد وجود القبر أم وُجِدَ القبر بعد بناء المسجد.
أما استدلال البعض على عدم صحة الصلاة في أمثال هذه المساجد بالأحاديث الواردة في النهي عن اتخاذ القبور مساجد ففيه نظر.
من ذلك: قـوله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يمـوت بخمس: {إن من كان قبلكـم كانوا يتخذون قبـور أنبيائهم وصالحيهم مسـاجد، ألا فلا تتخـذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك} (4).
وبقوله -صلى الله عليه وسلم- : {لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} (5).
وهما لا يقومان حجة لبطلان الصلاة في المسجد المحتوي على القبر؛ وذلك لأن اللفظ (المساجد) يحتمل أن يكون اسم مكان، ويحتمل أن يكون مصدراً ميمياً، ولا يمكن حمله على الأول لأمرين:
أحدهما: أنه لو أُرِيدَ المكان لكان لفظ الحديث لا تتخذوا على القبور مساجد، أو اتَّخَذُوا على قبور أنبيائهم مساجد كما ورد في قوله تعالى (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً) (6).
ثانيهما: لا يُراد المكان هنا وإلا فالصلاة ينبغي القول بصحتها وعدم تحريمها؛ لأن لفظ الحديث الأول ينهى عن اتخاذ المسجد على القبور والثاني يلعن من يتخذ على القبر مسجداً، فالتحريم واللعن يتسلطان على الباني والمُتَّخِذ، لا على المصلي؛ لأنه لم يتخذ المكان مسجداً بل غيره هو المتخذ. فلابد من حمل المعنى على المصدر الميمي. أي اتخاذ القبور مساجد يسجدون إليها ويعبدونها أو يعظمونها. وهو ما سأذكره في الصورة الآتية:
ثالثاً: الصلاة إلى القبر:
وهو أن يجعله أمامـه إما لعبـادته أو لجعلـه قبلة كالكعبـة، وهذا هو المراد بالحديثين السابقين، وبما روى مسلم خبـر: {لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها} (7).
وفي هذه الصورة: إن قَصَدَ عبادة القبر فهو شرك وكفر، وإن جعله أمامه مُتَقَصِّداً لكن لا لعبادته بل للتبرك فهو آثم وجاهل. وإن لم يقصد شيئاً من ذلك بل صار القبر أمامه بحكم موضعه من المسجد مع وجود ساتر من بناء ونحوه فلا إثم ولا بطلان.
إذ لو قلنا بالبطلان –كما يزعم البعض– للزم بطلان صلاة جميع من صلى في المسجد النبوي الشريف من لدن عصر عمر بن عبد العزيز إلى وقتنا هذا؛ إذ قد وُسِّعَ المسجد بإدخال حُجُرات زوجاته -صلى الله عليه وسلم- ومنها بيت عائشة الذي ضم القبور الثلاثة الشريفة توسعةً للمسجد.
وقد صلى فيه كبار المُحَدِّثين والمجتهدين والعلماء والصالحين، ولم يُنكر أحد منهم ذلك. فإن قيل: إن المسجد كان مُتَّخَذَاً قبل إدخال القبور؟
فيجاب عن ذلك من وجهين:
الوجه الأول: إذا كانت علة البطلان وجود القبر في المسجد، فإنه لا فرق بين وجوده قبل المسجد أو بعده.
والوجه الثاني: إن إدخال هذا الجزء إلى المسجد يُعتبر اتِّخَاذاً للمسجد؛ إذ التوسعة تعتبر مسجداً؛ لأنها أُعِدَّت للصلاة كالمسجد المُوَسَّعِ، وحينئذ ينطبق على هذه البقعة من التوسعة اتِّخاذ القبور مساجد ولم يقل أحد ببطلان الصلاة في مثل هذه البقعة من الأرض ولا في الأجزاء الأخرى من المسجد. وادِّعاءُ الخصوصية يحتاج إلى دليل
هوامش
(1) رواه أحمد برقم 11806، وأبو داود برقم 492، والترمذي برقم 317، وغيرهم.
(2) رواه البخاري برقم 432، ومسلم برقم 208، وغيرهما.
(3) رواه البخاري برقم 3425، ومسلم برقم 520، وغيرهما.
(4) رواه مسلم 532 وغيره.
(5) رواه البخاري برقم 48، ومسلم برقم 529.
(6) الكهف: 21.
(7) رواه مسلم برقم 972، وغيره.